No Image
عمان الثقافي

مُتلازَمة الظَّلام والظِّلال.. قراءة نقدية في شِعْر عبدالله البلوشي

28 فبراير 2024
28 فبراير 2024

عبدالله البلوشي شاعرٌ يُعيدُ صِياغةَ الطبيعةِ بِحَجْمِ الجُرْحِ النَّازفِ فِيه، يُقَوِّلُ اللُّغةَ ما لم يسبَقْ أنْ قالَتْه- على رأي ميرلوبونتي. تُشيرُ المُتلازمةُ في القراءةِ إلى صُورةٍ رمزيَّة، لصيقةٍ بالمُنْجَزِ الشِّعري لدى البلوشي، لا سِيَّما بعد مرحلة الفقد، فقد تركَ رحيلُ أُمِّه جُرْحًا غائرًا، يُوارِي نَزِيفَه في «العَتَمَة». لقد شَكَّلَ هذا الرَّحيلُ انْقِلابًا على المُستوى النَّفسي والشِّعري -إذا صحَّ التعبير- وشَكَّلتْ صُورةُ اللَّيلِ والشَّجرةِ في دواوِينِه «معبر الدَّمع» و«أوَّل الفجر» و«العتمة التي أشرقت» كثافةً دِلالِيَّة انْبَثَقَتْ منها مُتلازمةُ الظَّلامِ والظِّلال.

تلتقي هاتان الظَّاهرتان «الظِّلام والظِّلال» في أُمورٍ عِدَّة؛ فهُما يُولَدانِ مِنَ الغِيابِ، ويَحْجُبان الضَّوْء، ويَسْتُران الكِيان، فضلًا عن أنَّهُما يلتقيان على المستوى البلاغي في الجِناس. وفي حضن العاطفة يلتقيان بحسبانهما مكانًا لِلصَّبابةِ والغَرام، وللعُزْلةِ والتَّفرُّدِ بالذَّات.

يذهب «هربرت ريد» إلى أنَّ «قاعدة النقد هي التعاطف، أما البناء فوق هذا المستوى الوجداني فهو الجهد الفكري»، ويرى «فراي» أنَّ رؤيانا لمعنى القصيدة تتحقّق عندما يكونُ إدراكُنا للتَّزامُنِ فيها ممكِنًا». والتَّزامُنُ (Simultaneity) يمكن أن ننظرَ إلى مجموعه في الشِّعر من خلال تشكيلَيْنِ أساسِيَّيْن للمعنى، هما: التّشكيل الزماني (الليلُ بظلامِه) والتّشكيل المكاني (الشَّجَرة بظِلالِها).

تَتَكَدَّسُ مُتَلازمةُ الظَّلامِ والظِّلال بِتَشَظِّياتِها المُتناثرة في التَّجْرِبةِ الشِّعريّة لدى البُلوشي، لِتُشَكِّلَ ظاهرةً تستحِقُّ الوُقوفَ عندها، على أنَّ الشِّعْرَ دائِمًا وأبدًا يَعْرِضُ نفسَه مِن جديد لِكُلِّ جِيل.

لعلَّ مِن الصَّائبِ القول: إنَّ الذَّات الشَّاعرة، في رؤيتِها للعالَم وتعاملِها معه، لم تستطِع أن تتجاوزَ اللحظةَ، بل إنَّها زادت مِن كثافةِ الحُضُور المُمْتدَّ في مساحةٍ واسعةٍ مِن تجرِبتِها، وهو حُضُورٌ مُشَبَعٌ بِكُلِّ هُمومِها الداخليّة والخارجيّة، هذا الحُضُورُ الكثيف قد يقودُها إلى دائرة «التَّضَخُّم» وهي ظاهرةٌ مألوفةٌ لدى الحداثِيِّين -كما يرى عبد المطلب- يقول في مقطع «هجعة الطَّائر»:

لَكَمْ أَيْقَنْتُ

أنَّ هذهِ الشَّجَرَةَ تُشْبِهُني

إذْ على أغصانِها السَّاكنةِ

نَقَشْتُ تراتيلَ اللَّيْل

إنَّ الشِّعْرَ -كما ذهبَ «إليوت»- ليس إطلاقًا للانفعال، ولكنَّه هروبٌ مِن الانفعال، إنَّه -كما يقول- ليس تعبيرًا عن الشخصية، ولكنَّه هروبٌ مِن الشخصيّة. والشِّعْرُ في بَدْئِيَّتِه صلاةُ المُتوحِّدِ القابِعِ في ظَلامِ الكُهوف، المُتَمَرِّدِ على الاِجْتماعِ الإنسانيِّ، والمُتَنَبِّئِ الرَّائِي في عُلُوِّ الجِبال مِثْلَ وَعلٍ يَسْتَمْطِرُ السَّماء. ولأنَّ «الشِّعْرَ اختراقٌ لنمطيّة اللغة، فهو انزياحٌ وتفارق عن المعيار في حدود الأدائيّة...». لقد أفضتْ تجرِبةُ الموتِ القاسيةُ بالشَّاعِر أنْ جعلَ العَتَمَةَ الوِعاءَ الذي يَحتَضِنُ أحزانَه، ويَقْذِفُ بداخلِه دُموعَه وأوجاعَه. والعَتَمَةُ لا تُشيرُ هُنا إلى ظرفٍ زمانِيٍّ تتفاعلُ فيه أحداثٌ فحَسْب بقدرِ ما تُشيرُ إلى قَتامةِ اللَوْنِ الذي ينقُلُ العَتَمَةَ مِن خُصوصيّتها الظرفيّة إلى عُمُومِيَّةِ الغِياب؛ حِين تتماهى الذَّاتُ في قَتامةِ العَتَمة، وتَذُوبُ في السَّوادِ؛ لِتَسْتُرَ دُموعَها، وتُخَبِّئَ أوجاعَها.

يَسْتحضِرُ البلوشيّ في فجائعِيَّتِه بفَقْدِ أُمِّه خِطابَه الخاصّ بِلُغَةِ الفَقْدِ، المُتْرَعَةِ بِظلامِ اللَّيل وظِلالِ الأشجار، يقولُ في مَقْطعِ «أجراسِ الغِياب»:

تَنْظُرُ مِنْ عُلُوِّ اللَّيْلِ

شَجَرَةٌ تُطلِقُ نِداءَها الأَبَدِيَّ

قَمَرُ العُمرِ انْطفأ

لا رَيْبَ في أنَّ «عُلُوّ اللَّيْلِ» بِظَلامِه الأسودِ المُرَكَّب، والشَّجَرَةَ الفارعةَ بِظِلالِها الحاجِبِ النُّورَ، مَشْهَدٌ ذو كثافةٍ دِلالِيَّة، وهو إسقاطٌ لِصُورةِ الذَّات في علاقتِها بمُتلازمةِ العَتَمة (الظَّلام والظِّلال)، حيثُ «قَمَرُ العُمرِ انْطفأ»، وهذا «الانطفاءُ» حجبَ عَنِ الذَّات صوتَ العالَم الحَيّ في الخارج، لِتَتَوَحَّدَ بأصوات العَتَمَةِ (جَلَبَة الرِّيح، وأنِين الأرض البَعِيدَة، ودَمْدَمَة عِظامِ الأُمّ، وأجْراس زَوايا اللَّيْل)، يقول:

سَقَطَتْ على قلبي جَلَبَةُ الرِّيح

حِينما كُنْتُ مُنْصِتًا لأنِينِ أرضٍ بَعِيدَةٍ

حيثُ دَمْدَمَةُ عِظامِ أُمِّي

كأجْراسٍ تُـقْـرَعُ في زَوايا اللَّيْل

في الظلامِ فقط تُشْتَمُّ رائحةُ المَوْت، وفي العَتَمةِ يَسْتَحْضِرُ الظَّلامُ صُورةَ الأُمّ، فـتَـتَمَثَّلُ مَلاكَ رَحْمة:

في المَسَاءِ

حَيْثُ لا انْبِعاثَ لِصَوْتٍ

سِوى المَوْتِ

مِنْ هُناكَ

مِنْ أعْلَى السُّلَّمِ السَّماوِيِّ

يَتَماهى

صَوْتُ أُمٍّ تُلَمْلِمُ رَبيعَ أطفالِها

ليس ثمَّةَ حنينٌ يؤرِّق ويخضّ سدرة الخيال أقوى من الحنين إلى الطّفولة، فإذا قلنا: إنّ بكاء النّصوص على الطّفولة يحاكي حنينها إلى المثال الذي تعبت وظلَّتْ في سبيله، فإنَّ الطّفولة هنا مدلولٌ بحجم الحلم».

في تجرِبة البلوشي تحضر المُفارَقةُ الفلسفيّة في جمالِيّة القُبْح Aesthetics of ugliness؛ إذِ اللَّيْلُ بِمَدْلُولِه القبيح في الوَحْشَةِ والمَوْت، لم يلقَ- في أغلب أحواله- حالةَ الرِّضا عند الشُّعراء على مرِّ التاريخ إلا أنَّ العُزْلة التي تَتَوافَرُ للذَّاتِ في اللَّيلِ بِسُكُونِه المُنْسَجِمِ معَ جَوَّانِيَّة النَّفْس، وظَلامِه الكَثِيفِ المُسَيْطِرِ على كَثافةِ الأحزانِ تَنْقُلُ هذه الرَّمزيَّةَ المُزْمِنةَ بالقُبْح إلى رِحابِ الجَمالِ؛ لهذا يقُول:

عَشِقْنا دَمْعَةَ اللَّيْل

مُنْسابَةً على أجسادِنا الغَضَّةِ في السَّاعَةِ

الأخِيرةِ مِنَ الفَجْر

كانَتْ تُطَهِّرُ دِماءَنا الدَّائرَةَ

في حِراكِ الوَقْت

تبدُو ثِيمةُ الفَجْرِ في تَجَلِيَّاتِها الشِّعريّة والثّقافيّة جميعِها لحظةَ انْبِعاثٍ وتَفَجُّرٍ لِزَمَنِيَّةِ جَمالٍ قادمٍ، لكِنَّ البُلوشيّ لا يرى في هذه اللحظةِ المُزْمِنَةِ بالجَمال والإشراقِ سوى فقدٍ آخر؛ ذلك أنَّ الأُمَّ تَسْكُنُ اللَّيلَ، وتَلْتَحِفَ الأشجارَ، حيثُ مَضْجَعُها هُناكَ، فيَنْقُلُ الشّاعرُ تجرِبتَه مِن الفرديّة إلى الجماعيّة، مِن عالَمِه الصّغير إلى الإنسانية كُلِّها؛ إذْ يبكي رحيلَ الأُمَّهات وكُلَّ ما يرمُزُ إلى الأُمومة في هذا العالَم:

أتَسَاءَلُ

عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتي سُجِّيَتْ تَحْتَ فرادِيسِها الأُمَّهاتُ

وعَنْ ذاكَ الأدِيمِ

الذي سَجَدَ الأنبِياءُ عليه

حَيْثُ

حَطَّ بي طائِرٌ ورَحَل

يبدو أنَّ الحُزْنَ يَتَشَاكَلُ لدى الشّاعر؛ فكُلُّ القُبُورِ المُسَجَّاةِ تحتَ تلكَ الشَّجرةِ هي قَبْرُ أُمِّه، وهنا تتحوَّلُ مساحةُ الحُزْن إلى اسْتِجابةٍ انْفِعالِيَّةٍ مُتَطَرِّفة تَجْتَرُّ الأفكارَ والصُّوَرَ الماضيةَ المُحْبِطة أثناءَ تعرُّضِها لِمُثيرٍ خارجيّ «القَبْر»؛ إذْ إنَّ غِيابَ الألمِ أصعبُ مِن الألم.

إنَّ فقدانَ الموضوعِ (موضوع الحُبّ) يُحيلُ هذه الذّاتَ المُتألِّمة إلى الاشتغالِ على الحِداد، ويُعَدُّ الحِدادُ نَشاطًا نفسِيًّا، واسْتِجابةً لِتَجْرِبةٍ ألِيمة، يعيشُ فيها الفردُ حالةً مِن الاِكْتِئاب؛ جَرَّاءَ فقدانِ موضوعِ الحُبّ، وهو في مُمارسةِ طُقُوسِه (الحِداد) يُحافظُ على أمْنِ «الأنا» واستِقرارِها، وبالمُقابلِ فإنَّ امتناعَ «الأنا» عن المُمارسة يُعرِّضُها لِلْخَوْضِ في صِراعاتٍ نفسيّة، فيجعلُها غيرَ قادرةٍ على التكيُّف مع واقعها الداخليّ والخارجيّ الموضوعيّ؛ أيْ لن يكونَ هناكَ نُضْجٌ نَفْسِيّ. فالحِدادُ يُذَكِّرُ بالموت، ولكنْ ليس بالضرورة أنْ يحمِلَ كُلُّ مَوْتٍ معه حِدادًا؛ فهُو مرتبِطٌ بأهميّة الشخص المفقود، إذِ إنَّ المُهِمَّ في الحِداد هو التَّعلُّقُ والفِقدان.

لقد تَحوَّلَ هذا الفقدُ إلى فِكرةٍ تُـقْـلِقُ الشَّاعرَ، فأخذَ يُسقِطُ هذا القلقَ على الأشياءِ الخارجيّة التي تُكثِّفُ مِن صُورةِ العَتَمَة في لونِ السَّواد (الظَّلام والظِّلال) وما يرافقُهما مِن عُزلةٍ عن العالَم الخارجيّ:

يَهِيمُ في قلبي الليلُ

وتِلك المَساءاتُ التي أخفَتْ

في تلابِيبِها عُمري المُهْمَل

إذْ لم يكُنْ بِوسعي

سِوى الرُّكُونِ إلى جَذْوَةِ المَوْت

أوِ الوُقُوفِ

إلى شَجَرَةِ أحِبَّتِي المَنْسِيِّين

وهي تَنْتَحِبُ على فِراقِهم

بَيْنما تَتَسَاقَطُ دُموعي أوَّل الفَجْر

كأزهارٍ مُتآخِيَة

وقد أشار «كلاين» إلى أنَّ حِدادَ الشَّخصِ البالغِ يُشابِهُ حالةَ الطُّفُولةِ التي عاشَها، عندَ مُفارَقَتِه أُمَّه. فَعِندما يُفاجأُ الشَّخصُ بِفِقدان أو انفِصالٍ فهو يقومُ بإحياءِ الحِدادِ الأصليّ، وإعادةِ تأهيلِ الموقِفِ الكئيب، يقول:

فَجْرًا

تَسْتَفِيقُ الأبَدِيَّةُ مِن غِمارِها المُزْهِرِ

وَحْدَكِ أُمِّي

كُنْتِ الصَّاعِدَةَ إلى ذُرْوَةِ الشَّوْق

لِيَهْجَعَ إلى جِوارِكِ الهَجِيرُ

بَيْنَما الشَّجَرَةُ العَذْبَةُ

كانَتْ تُعانِقُ عُرُوقَ الشَّمْس

أُحِيطُكِ بِهالَةِ اللَّيلِ

أنتِ وَرَقةُ الحُبّ

التي ظَلَّلَتْ شَمْسَها

شَجَرَةُ طُفُولتِي المُورِقة

هذا الحزن المرعب الذي تعيشه الذات الشاعرة يجعلها تستدعي فترات هاربة، ولكنها ما زالت راسخةً ومعشّشة في تلافيف الذاكرة تُؤرِّق الشاعر وتُؤرِّخ لمساءاتٍ وصباحاتٍ غارقةٍ في رَحِمِ الوقت.

تُطِلُّ ظِلالُ الشَّجرَةِ في المقطعِ السابق على مرحلةِ الطُّفولة بصفتِها حارسَ الذِّكرى التي لا يُرادُ لها الذَّوَبانُ تحتَ حرارةِ الواقعِ المُؤْلِم، «فالمكانُ هنا كلّ شيء، حيثُ يعجزُ الزمنُ عن تسريعِ الذاكرة». والشَّجَرةُ نفسُها، في واقعِ الفقدِ، تَتَحَوَّلُ إلى أُمٍّ مُحاطَةٍ بالظِّلالِ المُقدَّسة، كما تَحَوَّلَ الشَّاعرُ إلى طِفْلٍ يبكي تحتَ ظِلالِها:

وتِلْكَ الشَّجَرَةُ النَّائمَةُ

على ظِلالِها المُقَدَّسَة

هكذا أنا

مِثْلُ طائرٍ مَنْسِيّ

لو صُوِّبَتْ إليهِ مُدْيَةٌ لَبَكى

إنَّ المكان يفقد خصوصيّته إذا لم يُقَدَّم بطريقةٍ فنيّةٍ تكشفُ عن عمقِه ودلالتِه ورمزيّتِه. هكذا تبدو الشجرةُ، وهي تُخبِّئُ ديمومةَ الحُبّ تحتَ ظلالها؛ ليسعى إليها المنهكون مِن لظى الخارجِ المُلتهبِ بحرارة الصحراءِ، حيثُ تَتَكَدَّسُ هناك عناصرُ الفقد والضياع، بينما توفِّرُ الشجرةُ الظلال، وترعى الزّهور وتستقطبُ عناصرَ الجَمال، وتمدُّ النّفسَ بدَيمومة الحياة:

وعندما أجدبتْ

في مقلتي الصّحراءُ..

خرجتُ لأبحثَ

عن ظِلِّ شجرة دائمةٍ

لأدفنَ تحتَ أديمِها السّاطعِ

زهرةَ بقائنا المنسي

لقد تشكَّلَ الفجرُ على مرّ التاريخ الشِّعري -في أغلب أحواله- ثيمةَ نهوضٍ وانعتاق، وانتصارٍ وفرح، بَيْدَ أنَّ الفجرَ، عند البلوشي، يستمدّ حضورَه من ثيمة الليل التي ترافق الشاعرَ؛ في ذاكرته وأحلامه، وهو -أي الفجر- ليس سوى لحظةٍ حسّاسةٍ تدخل في حربٍ «ذاكراتيّة» مع الليل الذي يسدل على الذات مُناخات العزلة والوجع، وهي مُناخاتٌ تستهوي الذات؛ بحسبانِها طقسًا جنائزيًّا يُخفِّف من حدّة العذاب وألم الفقد:

لقد تذكّرتُها

في السّاعةِ الأولى مِن الفجر

هي مَن سكنت أقاصي القلب

وحيدةً

تحمل وجهها النابتَ كالليل

بِيَدٍ معروقة

وتمسّد بالأخرى على رأس

وليدها المتوحّد

الخارجِ لتوّه بكفن الموتى

ولأنَّ الليلَ الزّمنُ المقدَّسُ لممارسة الطقس، زمنُ الهجوعِ والبكاءِ المُطَهِّر، والحاضنِ وَجعَ الفقدِ، والسّاترِ انكسارَ الذات، كانتِ الوصيَّةُ أنْ ينموَ كلّ ذلكَ في حضنِ الليل؛ كي تعيشَ الشجرةُ التي تُظلِّل الحياة:

وكانت قد أخبرتْني

قبل أنْ ترحلَ إلى الله

أنْ قِفْ عندَ قبري

كُلَّ مساءٍ

واسكبْ مِن فيض دُموعِكَ الحرَّى

لعلَّها

تُزْهِرُ شجرةَ مناحتي

يرى «كروتشه» أنَّ الفنَّ تكافؤٌ بين عاطفة الفنان والصُّوَر التي يُخْرِج بها هذه العاطفة... وفي كُلِّ صورةٍ تلتقي الذاتُ بالطبيعة الخارجيّة لِتُوَلِّدا معًا حياةً جديدة. ومهمّة الفنّ أنْ يُجَسِّمَ آراءَنا ومشاعرَنا بأشكالٍ حسيّة تُوحي بها، نافذًا من وحدة الوجود التي عن طريقها نرى ذواتنا في الشّجر والمطر.. على هيئة خاصة من الجمال والقبح.

وحدكَ

كنتَ تُنادمُ أقمارَ الموتى

بنصفها المكسور

هناك

في البقعة التي يتقاطر عليها الخلق

ستُزهر الأبديّة

وقبركِ الموصول

بالشَّجرة التي باركت دمَكِ المُراق

وقلبك الأكبر

كُلَّما كان المكانُ أشْبَهَ بمستودعٍ للأحلام والذّكريات كان ألصقَ بالمشاعر... فهو يُمثِّل حالةَ الارتباطِ المَشِيمِيّ بِرَحِمِ الأرض - الأُمّ.

إنَّ فلسفة التجلِّي لدى البلوشي تكمن في التّماهي مع «العَتَمة»، في السّكون الكَوْنيّ المقدّس إلا من أصوات الطبيعة، حيثُ تستيقظُ الأحلامُ جميعُها في النّفس:

وحِيدًا تماهيتُ في قبضةِ اللَّيل

كزَمنٍ مستقرٍّ لا يَشِيخ

تاركًا لمسمعي رغبة الإنصات

لذلك الشّدو المنهمر مِن بواطن الأشياء

ومِن ذلك الذي يتدفّق

مِن بين مناقير طيور نائمة على الضّفّة

تتعانقُ الأسرارُ على مرأى مِن جوّانيّة النفس في ظلمة الليل، حيثُ تتوافرُ لها كلّ مقوّمات الدّيمومة في مشهدٍ كَـوْنِيٍّ مُغَلَّفٍ بالقداسة. يتجلَّى الهُرُوبُ إلى الطبيعةِ مِن الواقعِ البَشَرِيّ، فإذا السّماءُ تَــفَـتَّحُ أبوابَها، وتُفضِي النُّجُومُ بأسرارِها، ويَسْتَبْدِل الشاعرُ الكِيَانَ السّماويّ بالكِيَان الأرضيّ؛ حيثُ التَّـفَـرُّدُ فِي الأُفُق؛ لِيَتَعَرَّفَ على سِرِّ الأُمِّ الذي أَوَدَعَتْه فِيه، وظَلَّ يَتَجَلَّى مُشْرِقًا فِي رُوحِه:

كنتُ بفتنة هائلة أتفرّس في حراك السّماء

نجوم تحدّق في وجهي الصّغير

مندهشًا كنتُ

أحادثها مِن علوّ منخفض

وأسألها عن تلك اللمعة التي تغشاني

للحظة حلول انتصاف الليل

لتبعث بإشارة غامضة

بعد توسّل يقترب من رجاء قدّيس منقطع

معاهدًا إيّاها

بأن تُبقي على أسرارنا تلك

كعهدة في مستودع يتوجّب إغلاقه بإحكام

لا تصادف، وأنت تستغرق في تجربة البلوشي الشِّعرية، مقطعًا يُسعفك على الرجوع إلى حالتك الطبيعية الأولى قبل الولوج إلى عوالم تجربته! في عالمِه الشِّعريّ سلطة ماورائيّة تقودك إلى الانجذاب إلى الحزن، وتعتريك -إبَّانَ وُلُوجِه- نَوْبَةٌ عاطفية تجعلك تجهش بالبكاء، وهو المُتَشَظِّي بالغياب، المُتَدَثِّرُ بالدموع، يُوارِي أحلامَه في ظلام الليل، وتحت ظلال الأشجار.

أ.د. حمود الدغيشي ناقد واكاديمي عماني