عمان الثقافي

لماذا أكتب؟

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

1

تحكي لي صديقة ألمانية ظروف ميلاد ابنتيها.

قبل تسعة عشر عاما، وهي متخمة بحملها، وقد مضت بالفعل أسابيع عدة على موعدها المحدد، جلست (أ) على أريكة غرفة معيشتها وفتحت التلفزيون. وشاء الحظ أن كانت مقدمة فيلم قد بدأت للتو على الشاشة. والفيلم هو «قصة راهبة»، من إنتاج خمسينيات القرن العشرين، وبطولة أودري هيبورن. اعتدلت (أ) فرحةً بهذه التسلية، لمشاهدة الفيلم، وسرعان ما استولى عليها. وقرب المنتصف، بدأ المخاض. أخذها زوجها في سيارته إلى المستشفى، ولم تعرف قط كيف انتهى الفيلم.

بعد ثلاث سنوات، وهي حبلى بطفلتها الثانية، جلست (أ) على الأريكة وفتحت التليفزيون مرة أخرى. ومرة أخرى كان يعرض فيلم، ومرة أخرى كان الفيلم هم «قصة الراهبة» لأودري هيبورن. والأغرب، والذي أكدت عليه (أ) كثيرا، أنها فتحت الفيلم في اللحظة الدقيقة التي تركته عندها قبل ثلاث سنوات. في هذه المرة تمكنت من مشاهدة الفيلم حتى النهاية. وبعد أقل من خمس عشرة دقيقة، نزل ماؤها، وذهبت إلى المستشفى لتضع للمرة الثانية.

هاتان البنتان هما ابنتا (أ) الوحيدتان. كان المخاض الأول شديد الصعوبة (أوشكت صديقتي أن تخسره ومرضت لشهور كثيرة بعده) لكن الولادة الثانية مضت في سلاسة، دونما مضاعفات من أي نوع.

2

قبل خمس سنوات قضيت الصيف مع زوجتي والأولاد في فيرمونت، مستأجرين بيتا ريفيا معزولا قديما على قمة جبل. وذات يوم مرت بنا سيدة من البلدة المجاورة لزيارتنا ومعها طفلاها، وهما بنت في الرابعة وولد عمره ثمانية عشر شهرا. كانت ابنتي صوفي قد بلغت الثالثة للتو، واستمتعت هي والبنت باللعب سويا. وجلست وزوجتي مع ضيفتنا في المطبخ، وجرى الأولاد ليستمتعوا.

بعد خمس دقائق، علا صوت حطام مدوّ. مضى الولد الصغير إلى صالة البيت في الجهة الأخرى من البيت، ولما كانت زوجتي قد وضعت مزهرية في تلك الصالة قبل ساعتين فقط، لم يصعب تخمين ما حدث. بل إنني لم أحتج إلى النظر لأعرف أن الأرض مكسوة بالزجاج المكسور والمياه، فضلا عن سيقان وبتلات دزينة من الزهور المبعثرة.

شعرت بالضيق. وغمغمت في نفسي مستنزلا اللعنة على الصغار، وعلى ذوي الصغار الحمقى الملاعين. من أعطاهم حق أن يمروا بالناس دونما اتصال مسبق؟

قلت لزوجتي: إنني سوف أنظف المكان، وبينما بقيت هي مع زائرتنا تكملان الحديث، أخذت مكنسة، وسلة قمامة، وبعض المناشف ومشيت إلى صالة البيت.

كانت زوجتي قد وضعت الزهور على صندوق خشبي موضوع أسفل سور الدرج بالضبط. والدرج كان شديد الانحدار والضيق، وعلى بعد لا يزيد عن ياردة أمام أدنى درجاته نافذة كبيرة. وإنني أشرح الوضع الجغرافي نظرا لأهميته. فمواضع الأشياء لها علاقة وأي علاقة بما جرى بعد ذلك.

كنت في منتصف مهمة التنظيف حينما سارعت ابنتي خارجة من غرفتها إلى طرقة الطابق الثاني. كنت قريبا بدرجة كافية من أسفل الدرج فلمحتها (ولو كنت بعيدا بخطوتين فقط عن الدرج لكانت محجوبة عن رؤيتي)، وفي تلك اللحظة العابرة رأيت على وجهها ذلك التعبير المنتشي شديد السعادة الذي ملأ سنوات منتصف عمري بالبهجة الطاغية. ثم حدث بعد لحظة، قبل حتى أن أتمكن من تحيتها، أنها تعثرت. لم يحدث إلا أن مقدمة حذائها الخفيف اشتبكت في أرضية الطرقة، ودونما صرخة أو تحذير، كانت تبحر في الهواء. لا أريد أن أقول إنها كانت تقع أو تسقط أو تثب الدرج إلى أسفل. إنما أريد أن أقول إنها كانت تطير. كان أثر تعثُّرِها هو أنها انطلقت إلى الجو، ومن منحنى طيرانها أدركتُ أنها في طريقها مباشرة إلى النافذة.

ماذا فعلت أنا؟ لا أعرف ماذا فعلت. كنت في الجانب الآخر من سور السلم عندما رأيت ترحالها، لكن لما بلغتْ منتصف المسافة بين الطرقة والنافذة، أي صارت أعلى منتصف الدرج، كنت أنا قد أصبحت واقفا على الدرجة السفلى من السلم. كيف وصلت إلى هناك؟ لم يكن الأمر يعدو مسافة عدة أقدام، لكن لا يكاد يبدو قطعها ممكنا في ذلك القدر من الزمن ـ الذي لا يزيد عن صفر تقريبا. مع ذلك، كنت هناك، ولحظة أن وصلت رفعت رأسي، وفتحت ذراعيّ، والتقطتها.

3

كنت في الرابعة عشرة. وللسنة الثالثة على التوالي، بعثني أبواي إلى معسكر صيفي في ولاية نيويورك. كنت أقضي أغلب وقتي في لعب كرة السلة والبيسبول، ولكن بما أنه كان معسكرا مختلطا، فقد كانت فيه أنشطة أخرى أيضا: منها «اللقاءات الاجتماعية» المسائية، وأولى المشاجرات الخرقاء مع البنات، وغارات السطو على سراويل البنات الداخلية، ومزاح المراهقين المعهود. أتذكر أيضا تدخين السيجار الرخيص خلسة، وخدعة ملاءات الأسرة الخانقة*، ومعارك بالونات الماء الهائلة.

كل هذا غير مهم. لا أريد منه إلا أن أؤكد إلى أي مدى يمكن أن يكون عمر الرابعة عشرة شديد الحساسية. فلا المرء لم يزل ولدا، ولا هو أصبح راشدا بعد، لكنه دائم التواثب إلى الأمام وإلى الخلف بين ما كانه وما يوشك أن يكونه. في حالتي الخاصة، كنت لم أزل صغيرا بما يكفي لأفكر أن لدي فرصة مشروعة للعب في دوري البيسبول، لكنني كبير بما يكفي لأتساءل عن وجود الإله. كنت قد قرأت البيان الشيوعي، ومع ذلك كنت لم أزل أجد متعة في الفرجة على أفلام الرسوم المتحركة في صباح الأحد. وكنت كلما نظرت إلى وجهي في المرآة، بدا لي أنني أنظر إلى شخص آخر.

كان في مجموعتي ستة عشر ولدا أو ثمانية عشر. وكان أغلبنا معا منذ سنين عديدة، نعم.. انضم إلينا وافدان جديدان في صيف ذلك العام. واحد منهما كان اسمه رالف. كان ولدا هادئا قليل الحماس للجري بكرة السلة أو ضرب البيسبول، ومع أن أحدا لم يتكبد عناء إزعاجه، فقد كان يصعب عليه الاختلاط. كان قد رسب في مادتين في ذلك العام، فصار يقضي أغلب وقت فراغه في الدرس مع أحد المشرفين. كان أمرا مؤسفا بعض الشيء، وكنت حزينا عليه، لكنه ليس حزنا مفرطا، ليس الحزن الذي يمتنع على صاحبه النوم.

كان مشرفونا جميعا طلبة في كلية نيويورك من بروكلين وكوينز. لاعبو بيسبول بارعون، وأطباء أسنان ومحاسبون ومعلمون واعدون، أبناء مدن حتى النخاع. وشأن أغلب أبناء نيويورك الحقيقيين، كانوا يصرون على الإشارة إلى الأرض بكلمة «الأرضية» مع أن ما تحت أقدامهم بالفعل لم يكن سوى أرض معشوشبة، وحصى، وتراب. كانت السمات المعهودة في معسكر صيفي غريبة عليهم أشد ما تكون الغرابة. فلم يكن في مستودعات اهتماماتهم أثر للزوارق، أو الحبال، أو تسلق الجبال، أو نصب الخيام، أو الغناء حول النار. كان يمكن أن يستجوبونا استجوابا حول أدق نقاط الخطط الدفاعية في كرة السلة، لكنهم في ما عدا ذلك يكتفون بالتجوال حولنا وإلقاء النكات.

فلكم أن تتخيلوا مدى دهشتنا، حينما أعلن مشرفنا في عصر أحد الأيام أننا خارجون لتمشية في الغابة. كان الإلهام بذلك قد استولى عليه فل يسمح لأحد بكلام يبدد ذلك الإلهام. قال، كفى كرة سلة. نحن محاطون بالطبيعة، وحان الوقت لنستفيد من ذلك ونبدأ في ما يفعله المخيمون الحقيقيون ـ أو قال كلمات أخرى بالمعنى نفسه. وهكذا، بعد فترة الراحة التالية للغداء، توجهت جماعة الستة عشر أو الثمانية عشر برفقة مشرفين أو ثلاثة إلى الغابة.

كنا في أواخر يوليو سنة 1961. والجميع في حالة مزاجية جيدة حسبما أتذكر، وبعد نصف ساعة أو نحو ذلك من الرحلة رأت الأغلبية أن الخروج كان فكرة جيدة. لم تكن مع أحد بوصلة، طبعا، ولا عند أحد أدنى فكرة عن الموضع الذي نمضي إليه، ولكننا جميعا مضينا نمتع أنفسنا، ولو حدث أن ضللنا الطريق، فماذا يهم؟ عاجلا أم آجلا، سنجد طريق الرجوع.

ثم بدأ المطر. في أول الأمر كان محسوسا لا أكثر، بضع قطرات خفيفة تسقط من خلال ورق الشجر والغصون، فلا شيء يستدعي القلق. واصلنا المشي، عازمين ألا تفسد مياه قليلة بهجتنا، لكن بعد دقائق قليلة بدأ المطر يجدُّ في السقوط. تبلل الجميع إلى حد الغرق وقرر المشرفون أننا يجب أن نعود أدراجنا. لكن المشكلة الوحيدة أن أحدا لم يكن يعرف أين المعسكر. كانت الغابة كثيفة، ذات أشجار وشجيرات شائكة متشابكة، فكنا قد سلكنا طريقا ملتويا، وغيَّرنا وجهتنا مرَّات في اتجاهات مختلفة لنتمكن من مواصلة السير. ولمزيد من التخبط، كانت الرؤية قد بدأت تصعب. فالغابة ابتداءً معتمة، لكن لما بدأ المطر ينهمر والسماء تسودّ، شعرنا أن الليل حل علينا وأنها لم تعد الثالثة أو الرابعة عصرا بأي حال.

ثم بدأ الرعد، وبعد الرعد البرق. كانت العاصفة تجري فوق رؤوسنا مباشرة، وبدا أنها عاصفة الصيف التي تأتي لتنهي كل عواصف الصيف. لم أر لها مثيلا قبل ذلك أو بعده. فالمطر كان ينصب انصبابا بغاية القوة حتى ليوجعنا حقا، وكلما انفجر الرعد، كانت الرعشة تسري داخل الجسم. وعقب ذلك مباشرة، يأتي البرق، راقصا حولنا رقص الحراب. بدا وكأن نصالا قد تجسدت حولنا في الهواء الرقيق: ومضة مباغتة كانت تحيل كل شيء إلى بياض شبحي ساطع. صُعقت الأشجار، وبدأت الغصون تحترق. ثم يحل الظلام مرة أخرى لوهلة، ويقع اصطدام آخر في السماء، وينتقل البرق إلى بقعة مختلفة.

كان البرق مصدر خوفنا طبعا. وكان من الغباء ألا يعترينا الخوف، فمضينا في ذعرنا نحاول الفرار منه. لكن العاصفة كانت هائلة الضخامة، فكلما ذهبنا إلى مكان قوبلنا بمزيد من البرق. كان الفرار عشوائيا، عدوا سريعا في دوائر. ثم بغتة وقعت عين أحدنا على فسحة في الغابة. فنشب خلاف سريع حول ما إذا كان أكثر أمنا لنا أن ندخل ذلك المكان المفتوح أم نستمر وقوفا تحت الشجر. وفاز الصوت المناصر للجوء إلى الفسحة، فجرينا جميعا في اتجاهها.

كانت عبارة عن مرج صغير، أغلب الظن أنه مرعى تابع لإحدى مزارع المنطقة، ولكي نصل إليه كان علينا أن نزحف أسفل سياج من السلك الشائك. واحدا تلو الآخر، انكفأنا على بطوننا وتقدمنا زاحفين. كنت في منتصف الصف، بعد رالف مباشرة. ولحظة أن كان رالف يمر أسفل السلك الشائك، ضرب البرق ضربة أخرى. كنت على بعد قدمين أو ثلاثة، لكن بسبب المطر الذي كان ينهمر على جفنيَّ، صَعُبَ عليَّ أن أتبين ما جرى. كل ما عرفته أن رالف توقف عن الحركة. خمنت أنه تجمد وشُلَّت حركته، فزحفت أسفل السياج وتجاوزته. وما كدت أصل إلى الجهة الأخرى حتى أمسكت بذراعه وجذبته.

لا أعرف كم طال مكوثنا في ذلك المكان. ساعة ربما، وطوال ذلك الوقت تواصل المطر والبرق والرعد علينا. كانت عاصفة مسلولة من الإنجيل، واستمرت، طويلا، طويلا، طويلا، وكأنها لن تنتهي.

أصيب ولدان بشيء ما، ضربهما البرق ربما، أو ربما صدمة البرق إذ صعق الأرض بجوارهما، وبدأ المرج يمتلئ بأنينهما. بقية الأولاد كانوا يبكون ويصلون. بينما حاول آخرون، وقد بدا في أصواتهم الخوف، أن يقدموا نصائح منطقية. تخلصوا من كل شيء معدني، فالمعدن يجتذب البرق. خلعنا جميعا أحزمتنا ورميناها بعيدا.

لا أتذكر أنني قلت أي شيء. لا أتذكر أني بكيت. شغلت نفسي أنا وولد آخر بمحاولة الاعتناء برالف. كان لا يزال فاقد الوعي. أخذنا ندلك يديه، ونمسك لسانه لكي لا يبتلعه، طالبين منه أن يبقى هناك. وبعد فترة بدأت تظهر في جلده زرقة. بدأت أشعر إذ أتحسس جسمه أنه بارد، لكن برغم الأدلة المتزايدة، لم يخطر لي قط أنه لن يفيق. كنت في الرابعة عشرة فقط في النهاية، فما الذي كنت أعرفه؟ لم أكن رأيت قبل ذلك شخصا ميتا.

أتصور أن السلك الشائك هو السبب. فبقية الأولاد الذين صعقهم البرق شعروا بخدر، وتألمت أطرافهم لساعة أو نحو ذلك، ثم تعافوا. لكن رالف كان تحت السياج حينما ضرب البرق، وصعقته الكهرباء على الفور.

بعد ذلك، حينما أخبروني أنه مات، علمت أنهم وجدوا بعرض ظهره حرقا بطول ثماني بوصات. أتذكر إذ أحاول استيعاب ذلك الخبر قائلا لنفسي: إن الحياة لن تكون مرة أخرى مثلما كانت من قبل. لكن الغريب أنني لم أفكر أنني كنت التالي له مباشرة حينما وقع ذلك. لم أفكر أن ما حدث لو تأخر ثانية أو اثنتين لكان الميت أنا. ما ظللت أفكر فيه هو إمساك لسانه والنظر على أسنانه. كان فمه قد ثبت على عبوس رهيف، وشفتين مفتوحتين قليلا، وكنت قد قضيت ساعة أنظر إلى أطراف أسنانه. بعد أربعة وثلاثين عاما، لم أزل أتذكرها. وعيناه شبه المغمضتين، شبه المفتوحتين. هذان أتذكرهما أيضا.

4

قبل سنوات غير كثيرة تلقيت رسالة من سيدة تعيش في بروكسل. حكت لي فيها قصة صديق لها، رجل عرفته منذ الطفولة.

في عام 1940، التحق هذا الرجل بالجيش البلجيكي. وحينما سقط البلد أمام الألمان في ذلك العام، أسر ونقل إلى معكسر للأسرى. وبقي هناك إلى أن انتهت الحرب في عام 1945.

كان مسموحا للأسرى بمراسلة العاملين في الصليب الأحمر في بلجيكا. خصصوا لهذا الرجل عشوائيا صديقة بالمراسلة، كانت ممرضة في الصليب الأحمر من بلجيكا، وعلى مدار السنوات الخمس التالية تبادل هو وهذه المرأة الرسائل كل شهر. بمرور الوقت توطدت الصداقة بينهما. وفي مرحلة معينة (ولست على يقين من المدى الزمني الذي استغرقه هذا) فهما أن شيئا أكبر من الصداقة قد نشأ بينهما. استمرت المراسلات، وازدادت الحميمية من رسالة إلى أخرى، وفي النهاية أعلن كل منهما حبه للآخر. أهذا ممكن؟ لم يكن أحدهما قد رأى الآخر مطلقا، ولا قضى بصحبة صاحبه لحظة من الزمن.

بعدما انتهت الحرب، أطلق سراح الرجل ورجع إلى بروكسل. قابل الممرضة، وقابلته الممرضة، ولم يشعر أي منهما بالخيبة. وبعد فترة قصيرة تزوجا.

مضت سنوات. أنجبا أبناء، وكبرا، واختلف العالم قليلا عما كان عليه. أنهى ابنهما دراساته في بلجيكا وسافر إلى ألمانيا لإكمال دراسات عليا. وفي الجامعة هناك، وقع في غرام شابة ألمانية. وكتب إلى أبويه يخبرهما أنه يعتزم أن يتزوجها.

غمرت السعادة الآباء من كلا الطرفين. ورتبت الأسرتان للقاء، وفي اليوم المعين الذي وصلت فيه الأسرة الألمانية إلى منزل العائلة البلجيكية في بروكسل. وفيما كان الأب الألماني يدخل غرفة المعيشة، والأب البلجيكي ينهض لاستقباله، نظر الرجلان كل في عيني الآخر فتعارفا. سنوات كثيرة كانت قد مضت، ولكن أيا منهما لم يشك للحظة في شخصية الآخر. ففي مرحلة ما من حياتهما، كان كل منهما يرى الآخر كل يوم. كان الأب الألماني سجانا في السجن الذي قضى فيه الأب البلجيكي سنوات الحرب.

سارعت المرأة التي كتبت لي الرسالة تضيف أنه لم يكن بينهما أي ضغينة. فبرغم ما كان عليه النظام الألماني من وحشية، لم يفعل الأب الألماني خلال سنوات الحرب الخمس ما يبغضه إلى الأب البلجيكي.

مهما يكن الأمر، أصبح الرجلان الآن صديقين حميمين. ويجد الاثنان بهجة حياتهما الكبرى في أحفادهما المشتركين.

5

كنت في الثامنة. وفي تلك اللحظة من حياتي لم يكن شيء أهم لي من البيسبول. كان فريقي هو «نيويورك جاينتس» [عمالقة نيويورك]، وكنت أتابع أعمال أولئك الرجال ذوي القبعات السوداء والبرتقالية بكل ما لمؤمن حقيقي من تفانٍ. وحتى الآن، إذ أتذكر الفريق الذي لم يعد له وجود، الذي كان يلعب في ملعب لم يعد له وجود، يمكنني أن أسرد أسماء كل لاعبي القائمة تقريبا. آلفين دارك، وايت لوكمان، دون مولر، جوني أنطونيلي، مونتي إرفين، هويت ويلهلم. لكن لم يكن أعظم، ولا أكمل، ولا أجدر بالعبادة من ويلي مايس المتوهج.

في ربيع ذلك العام، حضرت أولى مبارياتي في الدوري الكبير. كان أصدقاء لأبي قد دبروا مقاعد مميزة في ملعب بولو، وذات ليلة من أبريل ذهبت مجموعة منا لمشاهدة فريق جيانتس يلاعب ميلاوكي بريفز. لا أعرف من فاز، ولا أستطيع أن أتذكر أي تفصيلة من المباراة، لكنني أتذكر أن أبويّ بعد أن انتهت المباراة جلسوا وأصدقاؤهم يتكلمون في مقاعدهم إلى أن غادر بقية المشاهدين. تأخر الوقت كثيرا فبات علينا أن نسير عابرين بميدان اللعب ونغادر من مخرج وسط الملعب، فلم يكن غيره قد بقي مفتوحا. وتصادف أن كان ذلك المخرج يقع أسفل غرف ملابس اللاعبين بالضبط.

وفيما كنا نقترب من السور، لمحت ويلي مايس. لم يكن هنا أي شك، هو فعلا ويلي مايس وقد خلع زي اللعب وارتدى ثيابا عادية ولم يكن بعيدا عني إلا بمقدار عشرة أقدام. تمكنت من إبقاء ساقي تتحركان في اتجاهه، ثم استجمعت كل ذرة من شجاعتي، وأكرهت فمي على إخراج بعض الكلمات. قلت «مستر مايس، هل يمكن من فضلك أن أحصل على توقيعك؟»

لا بد أنه كان في الرابعة والعشرين من العمر، لكنني لم أستطع أن أحمل نفسي على نطق اسمه الأول.

كان رده على سؤالي وجيزا لكنه ودود. قال «أكيد يا صغيري، أكيد. هل معك قلم رصاص؟». أتذكر أنه كان شديد الامتلاء بالحياة، شديد الامتلاء بطاقة الشباب، فبقي يتواثب ويتقافز وهو يتكلم.

لم يكن معي قلم، فطلبت من أبي أن يعيرني قلمه. لم يكن معه قلم أيضا. ولا أمي. ولا أحد من بقية الكبار مثلما تبين.

وقف ويلي مايس العظيم يتابع صامتا. ولما تبين أنه ليس في المجموعة من لديه ما يكتب به، التفت إليَّ وهز كتفيه. قال «آسف يا صغيري. ما دام لا يوجد قلم، لا يمكن أن أترك توقيعي». وخرج من الملعب فابتلعه الليل.

لم أرد أن أبكي، لكن الدموع بدأت تنهمر على خدي، ولم يكن بوسعي أن أوقفها. والأسوأ أنني ظللت أبكي في السيارة طوال الطريق إلى البيت. نعم، سحقتني الخيبة، لكنني أيضا اشمأززت من نفسي بسبب عجزي عن السيطرة على تلك الدموع. لم أكن طفلا رضيعا. كان عمري ثماني سنوات، ولم يكن يليق بالأولاد الكبار أن يبكوا على أمور كتلك. لم يقتصر الأمر على أنني لم أحصل على توقيع ويلي مايس، ولكنني لم أحصل على أي شيء آخر أيضا. لقد امتحنتني الحياة، ومن كل الأوجه تبين لي أنني أفتقر إلى الجدارة.

بعد تلك الليلة، بدأت أحمل قلم رصاص معي أينما ذهبت. باتت عادة لدي ألا أخرج من البيت مطلقا قبل أن أتأكد من وجود قلم في جيبي. وليس ذلك لأنني خططت لفعل أي شيء بذلك القلم، ولكنني لم أرد أن أكون غير مجهز. لقد ضُبطت مرة خاوي اليدين، ولم أشأ أن أسمح بذلك مرة أخرى.

ولو أن السنين لم تعلمني أي شيء، فقد علمتني هذا: لو أن في جيبك قلم رصاص، فالفرصة سانحة لأن يأتي يوم تشعر فيه بالغواية للبدء في استعماله.

ومثلما يحلو لي أن أقول لأبنائي: هكذا أصبحت كاتبا.

1995

* يقصد بها ترتيب السرير بحيث يبدو حسنا ومحكما كأسرة الفنادق، حتى إذا استعمله الشخص للنوم وجد ساقيه قد علقتا في الملاءات في منتصف الطريق فلا يستطيع فردهما.

** نشر هذا النص في مجلة «ذي نيويوركر» سنة 1995، ثم في كتاب أعمال بول أوستر النثرية الكاملة الصادر سنة 2003.