No Image
عمان الثقافي

كرة القدم بوصفها ظاهرة للثقافة الجماهيرية المعاصرة

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

تتنوع الفاعليات الثقافية في العالم المعاصر من حيث الشكل والمضمون ويؤدي التنوع والانتقاء من بين عناصر مختلفة في أشكال الثقافة التي تشكلت في عصر ما بعد الحداثة إلى تفكيك الثنائيات التقليدية، والجمع بين الثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية. في عالم اليوم تستوعب الثقافة الجماهيرية في بنيتها أشكالا ثقافية اقتصرت في الماضي على جمهور النخبة، وتُثار الشكوك اليوم حول قوة الكلمة، وتتيح حالة المعلوماتية الكاملة الآن للفرد معايشة أي أحداث «هنا والآن». تجذب هذه الأحداث البارزة في العالم انتباه جزء كبير من سكان كوكبنا، وتكشف عن مدى تنوع الثقافة المعاصرة، كما تساعد أشكالها الهجينة على تصور العالم بوصفه نوعا من الكولاج، يتكون من شظايا ملونة تقدم جميع أنواع الملذات الحسية؛ سواء المرئية أو التي يمكن تذوقها.

يمكننا أن نجد نموذجا على ذلك في فاعليات كأس العالم 2018 الذي حوّل العالم كله لمدة شهر إلى ساحة مشجعين، وحوّل المدن التي أُقيمت فيها المباريات إلى مساحة ملونة متعددة الثقافات، جمعت ملايين المتفرجين حول العالم في الأماكن المخصصة للمشجعين والمقاهي والنوادي وحول شاشات التليفزيون وأجهزة الكمبيوتر، كما تأكدت أهمية الحدث من جانب الشخصيات السياسية؛ فقد حضر قادة العالم المباريات وهتفوا لفرقهم وهنأوا الفائزين دبلوماسيا. صارت كرة القدم إذن رمزا للمجتمع العالمي، متحدا بحب هذه اللعبة التي تكتسب سمة عالمية أكثر فأكثر. سعى مثلا نجوم الأوبرا ومسرح البولشوي من خلال عروضهم في حفلي افتتاح وختام البطولة إلى إظهار كيف صارت اللعبة الرياضية الأكثر شعبية في العالم عضوة في جماعة الفن الراقي. يمكننا أن ننظر إلى هذا الرمز بأشكال مختلفة، ولكن حقيقة أن الفن الراقي قد دخل مجال الأحداث الرياضية معلنا مفهوما جديدا عن كلية الفن لا يمكن إنكارها. علاوة على ذلك أظهرت البطولة الجوانب الأكثر تنوعا للثقافة الجماهيرية: المشاهدة – الاحتفال – الترفيه. لم يعد كأس العالم مكانا لاختلاط الثقافات واللغات ورموز الانتماء العرقي والأشكال والصور الثقافية المختلفة وحسب، بل صار أيضا بمثابة عرض ناجح للصناعات الثقافية التي طورت قدراتها إلى أقصى حد؛ من بيع التذاكر إلى الألعاب، وصولا إلى مجموعة متنوعة بدرجة لا تصدق من البضائع، ومن العلامات التجارية لكرة القدم إلى مطاعم الوجبات السريعة إلى مجموعات جديدة من بيوت الأزياء المتسمة بطابع كرة القدم. لا شك أن كأس العالم قد صار أهم حدث في الحياة الاجتماعية والثقافية في العالم كله، وصارت كرة القدم نفسها مركزا للجذب، بالرغم من وفرة الترفيه والأماكن السياحية والمتع البصرية. يمنحنا ذلك دافعا للتفكير في السبب الذي يجعل الملايين من الأشخاص حول العالم يتخلون عن مهامهم اليومية وهمومهم، وينغمسون في عناصر هذه اللعبة.

بالبحث في الجوانب المختلفة لكرة القدم وجدنا أنها لا تتسم بالعنصر الترفيهي وحسب، بل بمعاني اجتماعية وثقافية أيضا تتغير في سياقات تاريخية مختلفة لكنها تحافظ على أسسها. باعتبارها نموذجا للعبة رياضية، تجاوزت كرة القدم مسألة ترفيه الجماهير ومجال التسلية الفعالة لمشاهدي البث التليفزيوني والإنترنت.

كرة القدم كطقس:

يدعونا هذا المنظور إلى التفكير في جوهر اللعبة كأحد الأشكال المهمة للنشاط البشري، وفي حالة كرة القدم تأخذ طابع تجربة عاطفية عميقة. حاول باحثون ثقافيون كثيرون فهم جوهر اللعبة وأهميتها في حياة الإنسان. يُعرِّف هويزنجا - الذي أسس المفهوم الثقافي للعبة وعكسه في كتابه الأكثر شهرة «Homo Ludens» - اللعبة بأنها إحدى وظائف النشاط البشري ذات المعاني المتعددة. يشير عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز إلى أهمية اللعب في المجتمع. وفقا لنظريته يجب أن ننتقل إلى معاني اللعبة الثقافية ونحاول فهم نوعية العلاقات الإنسانية بالواقع الذي يُعبَّر عنها فيها والمشاعر المصاحبة لها. هذا هو النهج التفسيري الذي سيساعدنا في فهم جوهر كرة القدم وأسباب شعبيتها غير المسبوقة في الماضي والحاضر. يؤكد جيرتز «يغمسنا التفكير الجيد في صميم ما يفسره». يؤكد هويزنجا بدوره أننا «في اللعبة نتعامل مع فئة معروفة للجميع دون قيد أو شرط، وهي فئة أساسية تماما للحياة، وهي مفهوم كلي إذا كان هناك ما يمكن وصفه بهذا. علينا أن نفهم ونُقيِّم اللعبة من هذا المنطلق». في حالة كرة القدم تتسم هذه الكلية ببنية معقدة يمكننا أن نقسمها إلى أجزاء. في الوسط ملعب كرة القدم حيث تجري اللعبة. حول هذه النواة توجد مساحة للمشجعين الذين يمثلون جزءا نشطا من اللعبة. إنها مجموعة نشطة ومتماسكة بالرغم من طابعها الشرطي المؤقت. يتفكك الجزء الأكبر منها بعد المباراة بالرغم من أن بعض شظاياه قد يستمر في التواصل، كما يحدث في حالة المشجعين، مما قد يؤدي إلى سلوكيات مدمرة من جانب جماعات الألتراس. القطاع الأكبر من جمهور اللعبة هو المشاهدين الذين يحضرون اللعبة افتراضيا، ولا يقلل وجودهم خلف شاشة التليفزيون أو الكمبيوتر من قوة مشاعرهم تجاهها.

تجمع اللعبة بين اللاعبين والمشاهدين الذين يشاركون بنشاط في أحداث اللعبة. يقول جيرتز: «في كرة القدم، المشجع واللاعب، الخير والشر، الأنا والهو، القوة الإبداعية المستثارة عضليا والقوة المدمرة للحيوية المطلقة التي أُطلِقت يندمجان في دراما العاطفة والمعاناة والكراهية والعنف والسعادة والنشوة، وتُحاط هذه الدراما برمتها بمجموعة كاملة من القواعد المصممة بعناية». القواعد شرط أساسي لأي طقس، وهي التي تحوِّل كرة القدم إلى عمل طقسي، ويتولى الحُكم فيها وتنفيذها أحد شخوص المباراة الرئيسيين. في الطقوس القديمة يتولى هذه الوظيفة ملك أو كاهن، وفي الطقوس الحديثة يكون قاضيا أو شرطيا، وفي كرة القدم يصير الحَكم مركز القوة التي تضفي الشرعية على شدة الانفعالات في الميدان، مما يمنح اللعبة سمة مقبولة اجتماعيا. مثل الطقوس القديمة، تُحاط هذه اللعبة بالأساطير، فليس من قبيل الصدفة أن تُستخدم كلمة أسطوري كثيرا فيما يتعلق بالمباريات والفرق واللاعبين والأهداف التي يسجلونها.

ميثولوجيا كرة القدم:

ثمة ارتباط وثيق في تاريخ الحضارة بين الطقوس والأساطير. كرة القدم مثال على إضفاء الطابع الأسطوري على اللعبة. أثناء تشكيل كرة القدم الحديثة كان الأمر الرئيس هو اتباع مبدأ «اللعب النظيف» واتسمت اللعبة بالطابع التعليمي والرغبة في ترجمة قيم الرياضة إلى مظاهر الحياة اليومية. تدريجيا فقدت كرة القدم طابعها النخبوي وتحولت إلى أداة ترف جماهيري، وتحول مفهوم اللعب النظيف البريطاني إلى أسطورة. في واقع الأمر تطورت كرة القدم في سياق تسليع الثقافة المتزايد باستمرار وفقا لقوانين الصناعة الثقافية. هذا الانتقال من البطولة السامية إلى واقع الروتين اليومي أمر شائع في التاريخ. يمكننا مقارنة كرة القدم بمعارك المحاربين التي تأسست على البراعة العسكرية والسعي إلى نيل المجد. في عصر الثقافة الجماهيرية والمجتمع الصناعي لم يعد هناك مكان للمحاربين الأبطال، بل أُفسح المكان للمرتزقة الذين يعتبرون الحرب وظيفة مدفوعة الأجر. من بعض النواحي يشبه هذا التحول عملية تحول عبادة المجد العسكري التي يجسدها أبطال الإلياذة إلى مرتزقة العصر اليوناني القديم الذين وصفهم الشاعر اليوناني أرخيلوخوس. اليوم يحل العمل الاحترافي محل اللعب، ونجاح اللاعب هو ما يحدد قيمته في سوق كرة القدم. لا تشترك كرة القدم الاحترافية مع أساطير اللاعبين العظماء إلا في القليل؛ العظماء الذين بدأوا مسيرتهم بهواية الطفولة واللعب بكرة من الخرق في مكان ما شاغر بالقرب من المنزل. تُلعب كرة القدم اليوم في أقسام رياضية، وتُدرَّس في المدارس والجامعات، ومع ذلك لا تزال الأساطير الرياضية موجودة وتحيط كل ما يتعلق بكرة القدم بنوع من الهالة.

1- كرة القدم رياضة صحية:

الحقيقة: كرة القدم ضارة بالصحة. أكد علماء من جامعة ليستر في انجلترا أن متوسط خطر الإصابة لدى محترفي كرة القدم يبلغ 12% في كل مباراة، وهو أعلى ألف مرة من المخاطرة ذاتها في الصناعة. واحد من كل ثلاثة لاعبين يُصاب بإصابات بالغة أثناء الموسم لدرجة يتعين عليه فيها مفارقة الملعب أو أخذ استراحة من اللعب. في المتوسط يصاب اللاعب 1.3 مرة في الموسم الواحد بدرجة يتعين عليه فيها التغيب عن عدة مباريات.

2- مدة المباراة تسعون دقيقة:

الحقيقة: تستغرق المباراة مدة أطول، في الواقع تصل المدة الإجمالية إلى أكثر من تسعين دقيقة. بسبب فترات الراحة التي تنتج عن إصابات اللاعبين، وتسجيل الأهداف وغيرها من فترات التوقف يستمر الشوط عادة (46 – 49) دقيقة على التوالي، وتستمر المباراة (92 – 98) دقيقة.

3- الكرة دائرية:

الحقيقة: ربما تكون أي كرة دائرية عدا كرة القدم، يمكن بالطبع اعتبارها مستديرة، ولكن الشكل الهندسي مستدير في حالة السكون وحسب. عندما تُركل الكرة، وهذا ما يحدث في المباراة، يتغير الشكل فورًا، كما تظهر الصور وإعادة الحركة بالتصوير البطيء تبدو هذه التغييرات مثيرة للغاية؛ نظرًا لخصائص الكرة المرنة تعود الكرة المليئة بالغاز إلى حالتها الأصلية بالسرعة نفسها نتيجة الطاقة التي تؤدي إلى تغيير طبيعة الحركة. يتضح إذن أن الكرة تكتسب ديناميكبات خاصة؛ لأنها ليست كاملة الاستدارة، هي ليست مستديرة دائمًا، ويمكنها أن تقاوم الجاذبية لبعض الوقت.

4- اللاعبون الجيدون يصيرون مدربين جيدين:

الحقيقة: أحيانًا يصير أسوأ اللاعبين أفضل المدربين. بداية من الإيطالي أريجو ساكي الذي جعل ميلان أفضل فريق في أوروبا بين أعوام 1981 -1991، نُسي الافتراض القائل أن المدرب الجيد يجب أن يكون لاعبًا جيدًا. دعونا نلاحظ في الوقت نفسه أنه ليس بإمكان كل اللاعبين السيئين أن يصيروا مدربين جيدين.

بالرغم من أن هذه الأساطير نشأت مؤخرًا نسبيًا لكنها تستند إلى طقوس وأساطير مرتبطة بالرياضة، ومتجذرة في الماضي البعيد ولا زالت تحتفظ بمعانيها الثقافية على مدار قرون كما لاحظ هويزنجا: «ظهرت الأشكال الأساسية للرياضة منذ زمن بعيد بطبيعتها هذه، وهي لا تتغير تقريبًا، إلى جانب الأشكال غير المنظمة مثل الركض والتجديف والسباحة هناك أشكال تتطور أيضًا من تلقاء نفسها لتصير ألعاب عضوية ذات قواعد محددة. ينطبق هذا بدرجة خاصة على ألعاب الكرة». الألعاب الجماعية - من بين جميع الألعاب الأخرى - هي الأكثر صرامة من حيث القواعد. «إنها عملية قديمة قدم العالم، تنافس قريتان بعضهما في القوة، وتلعب المدرسة ضد مدرسة أخرى، ومنطقة في المدينة ضد منطقة أخرى. إنها ألعاب كرة ضخمة تتطلب عملا جماعيًا مدربًا من فرق دائمة، ومن هنا تحديدًا تظهر الرياضة المعاصرة». بالرغم من أن هويزنجا يعيد أصول الرياضة المعاصرة إلى الطقوس القديمة، لكنه يرسم خطًا واضحًا بين رياضات الماضي البعيد، واللعبة الرياضية الحديثة (في ثلاثينات القرن العشرين). «في الحضارات القديمة شكَّلت المسابقات الرياضية جزءًا من الاحتفالات الطقسية، وبدت ضرورية بوصفها نوعًا من الأفعال المقدسة. في الرياضة المعاصرة يُفقد هذا الارتباط بالعبادة تمامًا. لقد صارت الرياضة علمانية ولا تربطها أي علاقة عضوية ببنية المجتمع. بالرغم من أهميتها للمشاركين والمتفرجين، لكنها تظل عقيمة بعد أن تلاشى منها عامل اللعبة القديم». كان هويزنجا يكتب - مثل أي باحث آخر - من منطلق عصره، ووجد أسبابًا للتحدث عن تدهور معين في اللعبة الرياضية كعمل طقسي، وعن تناقضها مع الأعراف الاجتماعية، ومع ذلك فقد تغير هذا الوضع اليوم في المجتمع بعد الانتقال إلى مجتمع ما بعد الصناعي، واكتسبت الثقافة إلى حد كبير خصائص ما بعد الحداثة المتمثلة في التجزئة والسخرية والتعددية، وغيَّرت ثورة الإنترنت طبيعة الفضاء الإعلامي، وخلقت فرصًا لتوسيع غير مسبوق لجمهور أي فاعلية، بما فيها كرة القدم. في الآونة الأخيرة تحدث تغييرات مميزة في مجال الرياضة والثقافة ككل، حيث تشهد موجة جديد من إضفاء الطابع الأسطوري. عبادة النجوم والأبطال الجدد، وأساطير الثقافة الشعبية... كل هذه الظواهر تتجلى بشكل كامل في كرة القدم المعاصرة. تتسم أيضًا ثقافتنا المعاصرة بطابع اللعب. إضفاء سمة اللعب على الثقافة هو أمر تنبأ به الباحثون منذ نصف قرن تقريبًا، وهو أكثر وضوحًا اليوم بفضل تحسن الأدوات أكثر فأكثر، وبعد أن سمحت التقنيات الحديثة بتوسيع فضاء اللعبة إلى ما لا نهاية. هذا هو السبب إلى حد كبير وراء الشعبية المتزايدة للرياضات الجماعية، ومن بينها كرة القدم، حيث تتمتع بأفضلية لا يمكن إنكارها. صارت اللعبة في المجتمع المعاصر جزءًا مهمًا من الحياة يحتوي على المزيد والمزيد من العناصر الترفيهية والتسلية، ويتوافق كل ذلك تمامًا مع تعميمات هويزنجا حول اللعبة التي تكتسب أهمية خاصة في مجال الاحتفال والعبادة في مجال المقدس. في مجتمع لا مركزية جماهيرية تحل كرة القدم محل الطقوس المقدسة، وتكتسب مكانة العبادة، وتصير بمثابة عيد وطريقة للخروج من روتين الحياة اليومي، وهو أمر ضروري جدًا للإنسان المعاصر. لكن لكرة القدم أيضًا معنى اجتماعي، حيث ترتبط بالبنى الاجتماعية، وتعمل كدعامة اجتماعية، وتُطوِّر الإحساس بهوية المجموعة، وتعزز أو تدمر التقسيم الطبقي الاجتماعي لتصبح أساسًا لتشكيل ثقافات فرعية متعلقة بكرة القدم.

فضاء ملعب كرة القدم:

تجري الأحداث الرئيسية في لعبة كرة القدم على أرضية الملعب، ويصعب جدًا على المراقب، حتى لو شارك عاطفيًا في اللعبة أن يفهم ما يحدث. بحسب الوصف الذي قدمه المشارك في اللعبة بشكل مباشر، نرى أن هذه المساحة تختلف «من الداخل» تمامًا عن الشكل الذي تظهر به للجماهير. سيندهش المرء من وفرة أصوات معركة حقيقية؛ صفير على العشب من الركلات، وشتائم على هدف غير مسجل أو تمريرة سيئة. يصف الكاتب موقف اللاعب في الملعب بأنه معقد، ويتجاوز المساحة المباشرة للعبة، بما في ذلك تصور الجمهور الذي يتابع اللعبة من منظور سطحي. الخط الفاصل بين الملعب والجمهور يصير غير مستقر؛ لأن الإغراء يبدو عظيمًا للاعب «لتسجيل وكسر الخط الفاصل بين العالي والمنخفض، بين الدنيوي والإلهي، ليجبر الناس على الارتجاف والفرحة بسببه هو تحديدًا، لهذا يعاني لاعبون عظماء كثيرون بشدة؛ فحياتهم تصير «بمثابة ذبيحة للخالق»، مثل أي مبدع آخر يعاني لاعب كرة القدم من مشكلات عديدة سواء في مهنته أو في حياته الشخصية، والأخيرة تخضع تمامًا في البداية لإيقاع اللعبة والتوتر الهائل خلال المباريات والتدريبات، ولا تعود لديه أي مساحة لمباهج الحياة اليومية، نتيجة لذلك يحتفظ اللاعب بنجومية كرة القدم خلال فترة النشاط الاحترافي وحسب، مثلما هو الحال مع النجم الاستعراضي. حتى إذا تحول اللاعب إلى أسطورة، فنادرًا ما يتمكن من البقاء في المهنة بأي صفة أخرى أو يتكيف مع الحياة خارج مجال الرياضة.

ملعب كرة القدم هو المكان الذي يولد فيه نجم الكرة تشبه هذه العملية صنع نجوم السياسة والترفيه، فمثلما هو الحال معهم، يتحول لاعبو كرة القدم الذين حققوا مكانة النجوم إلى شخصيات أسطورية ضرورية للثقافة والمجتمع المعاصرين للحفاظ على هيمنة الثقافة الجماهيرية والنجاح التجاري. كتب تيودور أدورنو الذي صاغ مصطلح «الصناعة الثقافية» في منتصف القرن الماضي في كتابه «إعادة النظر في الصناعة الثقافية» 1975: «تستفيد أيديولوجية الصناعة الثقافية في الأساس من نظام النجوم الذي تستعيره من الفن الفردي، واستغلاله التجاري، إنه التصنيع بالمعنى الاجتماعي، ويتمثل في دمج الأشكال الفردية، حتى في حالة عدم إنتاج أي شيء». في الفضاء الوسيط اليوم الذي اكتسب طابعًا عالميًا بسبب ثورة الإنترنت، يعود الدور الرائد في خلق عبادة نجوم كرة القدم إلى وسائل الإعلام. منذ الستينيات، وبفضل التليفزيون، صارت شهرة لاعبي كرة القدم عالمية، ولدينا الآن مجلات كرة قدم كثيرة؛ من بينها على سبيل المثال: Total Football المخصصة حصرًا لنجوم كرة القدم المشهورين والناشئين. تُروِّج القنوات التليفزيونية للإنجازات الرياضية للرياضيين الناجحين؛ المشهورين والطموحين، كما تمتلئ شبكات التواصل الاجتماعي بصورة أبطال كرة القدم.

فضاء الجمهور

يمكننا القول إن أهمية اللعبة الاجتماعية ترتبط بفضاء الجمهور. يُشكِّل المشجعون في الملعب السياق الاجتماعي لمباراة كرة القدم، وهو أمر غير متجانس للغاية في تكوينه الاجتماعي والعمري، حيث يجمع هذا الجمهور المتباين حب اللعبة المشترك طوال مدة المباراة، ولكن في الوقت نفسه ينقسم الجمهور إلى شرائح مكونة من أنصار الفريق هذا أو ذاك. يخلق الجمهور في الملعب انطباعًا بصريًا عن المباراة بفضل الأغراض الملونة، فضلا عن سلوكياتهم في دعم فريقهم التي تحول الملعب بأكمله إلى مساحة بصرية ديناميكية. ليس المشجعون وحدهم هم من يُشكِّلون الهيكل العام للمباراة، بل يلعب تصميم الاستاد دورًا مهمًا، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكوّن التجاري للثقافة الجماهيرية، حيث يمتلئ فعلا بأنواع مختلفة من الإعلانات. كرة القدم اليوم هي صناعة ضخمة، تتعارض فيها المصالح التجارية والسياسية، مما يجعل المرء يتساءل: إلى أي مدى تستطيع اللعبة أن تحفظ دورها وسط كل هذه المصالح؟

بالعودة إلى عام 1938، وسط ذروة الصناعة الثقافية (المصطلح الذي سكّه أدورنو) كتب هويزنجا: «لم يعد سلوك اللاعب المحترف سلوك شخص يلعب، ولم يعد يتسم بالعفوية والإهمال. في المجتمع المعاصر تنفصل الرياضة تدريجيًا عن مجال اللعب، وتتحول إلى عنصر فريد من نوعه، لم تعد لعبة، لكنها ليست جادة أيضًا». يشير هويزنجا أيضًا إلى وجود اختلاف كبير بين الألعاب القديمة المقدسة بطبيعتها والرياضة التجارية الحديثة. نرى أدلة كثيرة على تورط الجمهور في هذه العملية التجارية، وتتمثل في الضجيج حول تذاكر المباريات المهمة وعملاء وكالات المراهنات، ووفرة الإعلانات في الملاعب، وجميع الموارد الإعلامية المتعلقة بكرة القدم. تحولت كرة القدم إلى نتاج كامل للصناعة الثقافية دون أن تفقد سمة اللعب، ولا عاطفيتها وطقوسها. بالعودة مرة أخرى إلى تحليل أدورنو لهذه الظاهرة سنرى أنها تشترك في الخصائص المتأصلة في منتجات الصناعة الثقافية ككل. «تُعد المواهب ملكًا للصناعة قبل فترة طويلة من التباهي بها، وإلا لم تكن لتتحمس من البداية للانضمام إلى اللعبة. يُعد موقع الجمهور جزءًا من النظام، وليس مبررًا له».

فضاء الإعلام

يُشكِّل المشاهدون عبر وسائل الإعلام الفضاء الثالث من مجمل فضاءات كرة القدم، هناك فرق بين المشجعين الذين يشاهدون مباريات كرة القدم عبر الإنترنت والمشجعين في الملعب. يُحرم الفريق الأول من فرصة أداء الأعمال الجماعية واستخدام الأدوات، ولكن هذا لا يُقلل من درجة عاطفية متابعتهم. تعمل كرة القدم في نسختها الإعلامية على ربط المشاهدين بالشاشة، بعكس المنتجات الإعلامية الأخرى التي - كقاعدة عامة - يُنظر إليها بوصفها لحظات متشظية بين الهموم اليومية وأنواع الترفيه الأخرى. للبث الإعلامي لمباريات كرة القدم ميزاته الخاصة. أولا يوسع هذا البث حجم الجمهور إلى أحجام هائلة، مما يخلق فرصة لحضور المباريات في مجموعة متنوعة من الأماكن. علاوة على ذلك تتيح التقنيات الحديثة مشاهدة مثل هذه اللحظات من المباراة التي لا تتوفر لجمهور المدرجات، مثل تعبيرات أوجه اللاعبين، ولحظات دراماتيكية من المباراة بما في ذلك الإصابات. هكذا، وعلى الرغم من البعد المادي عن الملعب، لا يُستثنى جمهور الإعلام، بل يشارك مشاركة مباشرة في ما يحدث بوصفه حدثًا إعلاميًا.

عند الحديث عن كرة القدم بشكل عام ، وعن مكانتها في ثقافتنا المعاصرة، من الضروري ملاحظة سمة أخرى مشتركة بين كرة القدم والصناعة الثقافية بأكملها؛ ألا وهي انتشارها الديناميكي في جميع مجالات الاستهلاك. جميع جوانب كرة القدم التي حددناها مدرجة في ثقافة الاستهلاك بأشكال مختلفة من ناحية أخرى، تخلق كرة القدم مساحة إعلامية ممثلة في الإنترنت والتلفزيون والراديو والعديد من الدوريات، وتوفر مواد غنية لصناعة السلع الاستهلاكية مثل أزياء كرة القدم والملصقات والهدايا التذكارية، بل وحتى الإلكترونيات. من شأن كل هذا أن يخلق جوًا معينًا ينغمس فيه المشجع، كما يحفّز التماهي الجماعي بين المشجعين المتحمسين؛ خاصة بين المراهقين والشباب، وهم القطاع الأنشط استهلاكًا لمنتجات الصناعة الثقافية. الهدف الأهم للصناعة الثقافية هو جذب الجمهور والمستهلكين إلى الترفيه الذي يلبي الرغبة الأبدية لأي شخص، وهي الرغبة في الخروج من الروتين اليومي. مع ذلك، من المستحيل ربط كرة القدم بصناعة الترفيه ربطًا تامًا؛ فهي تحتفظ بقوة حقيقية من المشاعر، وتخلق إحساسًا بالتماسك الاجتماعي، وتعطي معنى خاصًا للحياة لأولئك الذين يحبون كرة القدم حقًا. علاوة على ذلك، كرة القدم متاحة للجميع؛ يمكن لكل مشجع أن يصير لاعبًا على مستوى معين؛ في فريق أو ساحة أو جمعية رياضية، يمكنه أن يشعر باللعبة بنفسه، ولا تثقل كاهله هذه المرة المصالح التجارية وعبادة النجاح. كرة القدم ظاهرة تتجاوز اللعبة الرياضية، إنها تعكس كل مفارقات ومشاكل ثقافتنا، وكانت ولا تزال هدفًا لحب ملايين المشجعين حول العالم.

ي. ن شابينسكايا عالمة ثقافية روسية وباحثة في مشاكل الثقافة الحديثة وما بعد الحداثية.

يوسف نبيل مترجم مصري عن اللغة الروسية