No Image
عمان الثقافي

عن الشعر والروح واللغة العالمية

26 سبتمبر 2023
26 سبتمبر 2023

ترجمة: أحمد شافعي -

الشعر عندي ممارسة روحية، تضعني قراءته وكتابته في تماس مع شيء أكبر من نفسي، شيء غير ملموس، لكنه حقيقي للغاية. ولأن القصائد يمكن أن تقرأ في سياق قصائد أخرى، فإنها تضعني في تماس مع تراث، مع كتَّاب من الماضي وكتَّاب أيضا من الحاضر. وأعرف من الناس من يعافون كلمة «الروحي» لما لها من إيحاءات دينية، لكن عالم الروح أكثر شيوعا من المعتقدات والمؤسسات. فحتى لو أن المرء مادي للغاية، فإن بوسعه التفكير في الروح بوصفها الغيب، أي عالم الممكن المجهول. ونحن في القصائد نحاور روح العصر أو طبيعته الغالبة، نحاورها أو أو نتواصل معها. وثمة كلمة أخرى قد نستبدلها بالروح هي «الصمت»، أعني الخصوبة الداخلية التي تنبت منها الأفكار والآراء. أو على حد قول الفيلسوف الفرنسي جون فال: «لعل الشعر هو طريقتنا الوحيدة لتلوين الصمت والتأثير فيما يعقبنا أو يعاصرنا». وبالمثل، بوسعنا أن نساوي الروح بقيمة الفضاء أو الخواء البوذية. وسوف أجتنب كلمة «العدم» التي يبدو أنها توحي باللاشيء، فظني في الشعر أنه نقيض ذلك. إن من تعريفات الشعر الأثيرة عندي مقولة لجو برينارد تقتنص ما فيه من بساطة وأناقة: «الشعر هو ذلك الـ«شيءٌ ما» الذي كثيرا ما نجده مفقودا». أكثر ما يروق لي في هذه العبارة هو جوهر الاكتشاف الذي تشير إليه. إذ المرء يقرأ قصيدة يحبها، فإذا به من جديد وقد اكتشف ما معنى الشعر عنده. ولزاما عليّ أن أعترف، بأنني أيضًا أحب ما في «الـ شيء ما» من إبهام. لأنك لن تعرف ما هذا الشيء إلا حين تجده، ولن تجده إلا إذا بحثت. ولقد قضيت على مدار السنة الماضية قدرًا لا بأس به من وقتي وأنا أبحث عن القصائد. وأنا بطبيعتي أقرأ الكثير من الشعر، لكنني منذ وقت طويل لم أقرأ بكل هذه الكثافة خارج منطقتي الآمنة أو اهتماماتي. كما أنني في العادة لا أحصر تركيزي في ما يجري الآن في الشعر الأمريكي. فكان ذلك مجزيًا لي جزاء عظيما وكانت تجربة مثيرة. ولأنني مارست التدريس على مدار سنين كثيرة، فإنني معتادة على النموذج الزراعي، نموذج نثر البذور وتعهد النمو البطيء بالرعاية. فكان تغيرًا مبهجًا أن أبدل دوري وأصبح أقرب إلى الصيد. والواقع أن المهمة تحولت إلى إدمان، فلم أستطع أن أوقف نفسي عن البحث عن القصائد. ويتبين لي أنني أحب «تسوق» القصائد (إن آثرت استعارة أقل روحية) أكثر مما أحب تسوق الوجبات الخفيفة اللذيذة، أو حقائب المصممين، أو أي شيء آخر، فالشعر هو الرفاهية الوحيدة التي لا غنى لي عنها. والشعر كما تقول أودري لورد «ليس ترفا. إنما هو ضرورة حيوية من ضرورات وجودنا». وبودلير أشد منها جزما إذ يصر على أن «المرء بوسعه أن يعيش ثلاثة أيام دونما خبز، أما دونما شعر فلا».من المغانم العظيمة في تولي مسؤولية تحرير كتاب «أفضل الشعر الأمريكي» أنها تأتي مشفوعة باشتراكات في مجلات كثيرة. بدأت أتطلع من جديد إلى البريد، فبدلا من الفواتير والدعايات، بات يضع في طريقي مددا ثابتا من الإصدارات المثيرة للاهتمام. ومع ذلك، كان ينتابني قلق من كثرة ما لا أراه. بدأت أنقب في متاجر الكتب، سواء سلاسل المتاجر أم المتاجر المستقلة. وبعض هذه أفضل من بعض في ما تعرضه من مجلات الشعر، ولكن ليس بالمفاجئ أن المجلات الشعرية لا تحظى بأولوية كبيرة، وخاصة منذ تراجع الإصدارات الورقية. وبالطبع كنت أبحث في الإنترنت أيضا. كنت أعرف بالفعل كثيرا من المجلات الرقمية اللطيفة وعثرت على الكثيرات غيرها بمداومتي على تحسين عملياتي البحثية. وكان من أكبر حلفائي أولئك الذين يضعون في صفحاتهم بفيسبوك وتويتر وانستجرام قصائدهم المنشورة حديثا مذيلة بروابط إلى المواقع. فمهما يكن رأيكم في مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تتيح لنا بسرعة رائعة تجربة مجموعة واسعة من المجلات التي قد لا نكون على دراية بها لولا هذه المواقع.

ومهما يكن شكل المجلات فإنها لم تزل تساعد في الوصول إلى الشعر. فهي أكثر من محض أماكن للنشر، وإن يكن ذلك وحده سببًا وجيهًا للغاية لدعمها. وهي كثيرا ما تنشر تعليقات وعروضا نقدية ومقالات حول أحدث النقاشات الجمالية. والمجلات هي الأماكن التي يكتشف المرء فيها ما يتكلم عنه الناس من القصائد والأسباب التي تدعوهم إلى ذلك. وإصدار مجلة أمر يستوجب التزامًا جادًا واستثمارًا في الوقت والموارد. فالتحدي كبير، في ضوء تخفيض الميزانيات المستمر في الجامعات وبرامج الفنون الممولة على المستوى الوطني. ولذلك أود أن أشجع كل من يقرأ هذه السطور، وأي شخص يبالي بالشعر، على أن يبحث عن مجلة شعرية أو اثنتين يجد فيهما نفسه ويشترك فيهما. واغفروا لي هذا العرض الإعلاني، ولكن هذا أمر أجد نفسي مدفوعة إليه. فنحن بحاجة إلى الاهتمام ببيئتنا الأدبية، كما أننا بحاجة إلى الاهتمام ببيئتنا المادية. وقد تنظرون في أمر التبرع لموقع (بويتري ديلي) أو (قصيدة اليوم من أكاديمية الشعراء الأمريكيين) فهما خدمتان ممتازتان مجانيتان تبعث كل منهما قصيدة إلى بريدك الإلكتروني كل يوم. وأنا واثقة من أن كثيرين منكم يعرفونهما بالفعل. وقد كنت أعرفهما أيضا، لكنني في العام الماضي فقط حرصت على قراءتهما كل يوم، حتى صار ذلك طقسًا مبهجًا أتطلع إليه ويمثل نغمة مصاحبة لإحساس الغرق المرافق لاستعراض عناوين الأخبار، ونغمة مصاحبة مطلوبة. لكن هذه الأنطولوجيا لا تحمل اسم أفضل المجلات الأمريكية، فلأرجع الآن إذن إلى القصائد. لقد أحدثت فكرة بحثي عن «أفضل» القصائد بؤرة قوية. فهمت أن الأفضل يعني الأكثر إشراكا وأصالة وتحفيزا بين ما أصادفه من أعمال. لم أكن أغالي في التفكير.

والأفضل في حدود ما يعنيني كلمة قابلة للتبادل، لا تصنع تراتيبة. فلم أكن أبحث عن أفضل الشعر في كل الزمان. فما بدا الأفضل في ليلة ربما تغير في غضون شهر أو اثنين من تصفحي ملء سنة من الإصدارات الأدبية ( في ما بين خريف 2921 وخريف 2022 على وجه الدقة). وربما لا ينبغي أن أعترف بأني اندهشت من كم الكتابة المدهشة التي عثرت عليها، حتى لقد كان يسيرا عليّ أن أملأ مجلدا آخر. ولكن قالب هذا الكتاب لم يكن يتسع إلا لخمس وسبعين قصيدة فكان لا بد لي من حسم خيارات صعبة.

***

في كثير من التراثات الروحية فكرة الحكمة الجنونية - تلك الأقوال الصادمة غير المتوقعة الرامية إلى كسر أنماط تفكيرنا المعهودة. وإن من الأسباب التي تحملني على قراءة القصائد أن أتلقى تلك الإفاقة من تلك المقولة «الجنونية». ومثلما يكتب الشاعر الرومنتيكي الألماني نوفاليس: «بالشعر تبرأ الجراح التي يُعملها العقل».

أعرف من الناس من يكثرون من قراءة الكتب الرائجة، وروايات الألغاز والجريمة، وسير المشاهير، على سبيل الهروب. ومثلهم أفعل ذلك، لكنني أيضًا أقرأ الشعر للهروب، لا للهروب مما يجري في العالم، بل للهروب من الطرق المعهودة في النظر إليه. أحب في الشعر مواجهة أقوال لا يمكن للمرء مصادفتها في مكان سواه، وأشياء لا تخطر لعقل، بل هي أشياء مذهلة توسع فكرتنا عما يمكن التعبير عنه أو يعجز عنه التعبير.

***

من الأمور التي لاحظتها في كثير من المجلات التي نظرت فيها، سواء الكبيرة أو الصغيرة، المطبوعة أو الرقمية، أن هناك جهدا حقيقيا منها لأن تكون ذات منظور أكثر عالمية. سعدت بما رأيت من ترجمات كثيرة حاضرة في كل مكان، بل ومن أعداد كاملة مخصصة للقصائد المترجمة، أو المكرسة بالكامل لأعمال شعراء بلد واحد. وبرغم أن قواعد (أفضل الشعر الأمريكي) لا تسمح بتضمينه الترجمات، فإن الاتجاه إلى تمثيل المزيد من التنوع الثقافي والعرقي أتاح لي العثور على قصائد استثنائية عديدة لشعراء ولدوا في بلاد أخرى وهاجروا إلى الولايات المتحدة. في هذه الأنطولوجيا أعمال لشعراء هم أصلًا من الأرجنتين وغانا واليابان والعراق وأوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، وكذلك قصائد لأبناء مهاجرين من شتى أرجاء العالم. وفي هذه الأصوات ثراء للمجموعة لا حدود له.

لقد جاء أبواي الاثنان إلى أمريكا من إيطاليا وهما طفلان في بواكير القرن العشرين. ونشأت وأنا أسمع الإيطالية منطوقة (من جديَّ في الغالب) بجانب الإنجليزية وكنت أنعم باللغتين إذ تغيمان وتتداخلان في حياتنا المنزلية. أحببت اكتشاف كل لغة وموسيقاها ومزاجها، وشتائمها الخاصة وتعبيراتها العامية. وفي سنوات مراهقتي، كان أول شاعر يؤثر عليّ تأثيرا هائلا هو لوركا من خلال طبعات نيوديركشنز الشعبية لمختارات من قصائده. وأنا واثقة أن فيالق كاملة من الشعراء نشأوا مستلهمين ذلك الكتاب. أعتقد أنني لم أنجذب إلى عمله وحده، وإنما إلى حقيقة أنه عمل مترجم، وكنت أعرف أن لغات مختلفة قد شاركت في إنتاجه. شجعني ذلك على التفكير في الشعر بوصفه لغة عالمية عابرة للحدود.

وفي زمن القومية السامة، من المنعش أن يبقى تراث الكوزموبوليتانية قويا في عالم الشعر. ولكي لا ننسى، أقول إن الولايات المتحدة تاريخيا مكان يمكن فيه للناس من شتى بقاع العالم لا أن يعثروا على وطن وحسب، بل وأن يثروا الثقافة الأمريكية بالإسهام بإبداعهم. يذكّرنا الشعر بما في هذا التعاون العابر للثقافات من قيمة وإثارة. وشأن العلماء الذين يتشاركون الأفكار من خلال لغة الرياضيات، لا يتوانى الشعراء عن توحيد قواهم في سعيهم وراء فنهم.

في كل عام منذ بداية سلسلة «أفضل الشعر الأمريكي» سنة 1988 حينما كان جون أشبري هو المحرر الضيف الأول للكتاب، وأنا أتطلع إلى هذا الكتاب. وأعرف كقارئة أنه مكان عظيم لاكتشاف شاعر جديد أو مجلة جديدة. وكمعلمة، استعملته في مرات كثيرة في فصلي لإثارة النقاشات، ونظرًا لتمثيله لنطاق عريض من شتى القوالب، فهو أيضا مصدر رائع للإمكانيات المختلفة. فضلا عن أنه من المثير دائما أن نعرف رأي المحرر في السنة المنصرمة.

ولقد ضم المحررون الضيوف السابقون شخصيات بارزة مميزة في رؤيتهم الشعرية مثل روبرت كريلي، وريتا دوف، ولين هيجينيان، وروبرت بينسكي، وتشارلز سيميك، وتيرانس هايز، على سبيل المثال لا الحصر. وبفضل ذائقة ديفيد ليمان [المحرر الدائم للسلسلة] الانتقائية والصادقة في ديمقراطيتها، يظل «أفضل الشعر الأمريكي» قادرا على إدهاشنا. ولذا فإنني ممتنة امتنانا عميقا لديفيد أن أولاني الثقة في تحرير هذه الطبعة.

لقد تعاونا فيه بحماس بالغ. ذلك أن حماسته معدية، ومعرفته بالشعر والموسيقى والسينما - مذهلة. والآن لقد رأيت رأي العين قدرا هائلا من العمل الذي يقوم به ليحافظ على صدور السلسلة عاما بعد عام.

من الأمور التي أجدها شديدة الروعة في «أفضل الشعر الأمريكي» أنه يضع الشعر في قلب الثقافة الجماهيرية دون أن يضحي بمعايير التميز الأدبية الرفيعة. إن سلاسل «الأفضل» في نهاية المطاف مألوفة للجميع ولها جاذبية -في ما أرجو- لدى نطاق عريض من الجمهور. وعلى هذا النحو، فإن هذه الأنطولوجيا تؤسس سياقا يمكن أن تحظى فيه الكتابة الجيدة بنطاق عريض من التذوق. ومن هنا يتسق هذا الكتاب جيدا مع ذائقتي الشخصية للمتعة الجادة، بخلطه الرفيع والدني، والمقدس والدنيوي.

إيلين إكوي ولدت في أوك بارك بولاية إيلينوي سنة 1953، لها عشرة أعمال شعرية واسعة الانتشار. تعمل بتدريس الكتابة الإبداعية. والنص المترجم لها هنا عبارة عن مقتطفات من مقدمتها لإصدار عام 2023 من سلسلة «أفضل الشعر الأمريكي».