No Image
عمان الثقافي

عن الدوافع الكامنة وراء الكتابة

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

عمان: يرى غراهام غرين أن الكتابة هي المهرب من الجنون والكآبة ونوبات الهلع، إنها من وجهة نظره «ضرب من العلاج النفسي»، أما إيزابيل الليندي فتقول: «أكتب الآن من أجل المتعة الكامنة في رواية قصة»، أما آسيا جبار فتذهب إلى أبعد من ذلك، ربما، حينما تجد في الكتابة ما يحميها من الموت، تقول: «أكتب تجنبا للموت وتفاديا للنسيان». ويشاركها في هذا التصوُّر عبدالوهاب البياتي الذي قال: «أكتب كي لا أموت. أكتب كي أستطيع مقاومة الموت».

ونتوقف في السطور القادمة أمام نصين اثنين «في أسباب الكتابة» و«لماذا أكتب؟» اللذين يُعددان الأسباب الكامنة وراء الكتابة ويتنصلان منها في آن.

في أسباب الكتابة : محمد آيت حنا

في حوارٍ عن جدوى الكتابة يعدّد رولان بارت الأسباب التي تدفعه لكي يكتب. عشرة أسباب تقريبًا، عشرة أسباب مقنعة جدًا، بدءًا من إشباع اللّذة الذاتية وصولًا إلى إرضاء الأصدقاء ونكاية الأعداء، مرورًا بالإعلاء من أيديولوجيا وفضح أخرى.

حين قرأت الأسباب كلّها لم أقتنع إلا بما يلي: لو تعلّق الأمر بسبب واحد من تلك الأسباب.. كنت سأتخلّى طوعًا عن فعل الكتابة.

**

لماذا أحيا؟ أكثرُ الأسئلة مدعاة لاستجلاب الموت.

في السؤال عن معنى الحياة تينع أفكار الانتحار.

الذي يتساءل: لماذا أتكلّم؟ يكون قد أعلن انخراطه في تجربة الصّمت.

عندما نتساءل: لماذا نكتب؟ نتوقّف عن فعل الكتابة.

***

مشكلتنا أنّنا ندّعي أنّ الكتابة فعل خاص جدًا، لا يمكن أن يضطلع به أيّ كان، لكن لحظة السؤال عن أسباب الكتابة نرجعها إلى أسباب عامّة يشترك فيها الجميع (تحقيق اللّذة مثلًا!!).

**

كم أغبط رامبو. فرغ مبكّرًا من فعل الكتابة، كتب كلّ ما يريد، صفّى حسابه مع عوالم الحرْف، وانصرف إلى أشياء أخرى؛ إلى جمع المال!

**

رجاءً قلْ أيّ شيء إلا أنّك تكتب لكي تغيّر العالم!

هكذا يعلّمنا أولئك الذين يكتبون التاريخَ في السّاحات.

**

الكتابة شجاعة. من حين لآخر حين تبدأ في فقدان شجاعتك وأنت ترى من تكتب عنهم (المهمّشين، المنبوذين، مسحوقي الأنظمة، المنتظرين في صفوف طويلة دون أدنى أمل في أن يحين دورهم) لا يستطيعون قراءة ما تكتب، حاول تذكّر بعض دروس الشجاعة التي تتعلّمها من أشخاص ينجزون ما عليهم إنجازه حتّى ولو لم يلتفت لهم أحد. (إدواردو غاليانو)

ماذا لو علمَ غاليانو أنّنا هنا نطبع الكتب على نفقتنا ونوزّعها بأنفسنا ولا أحد يشتريها، وحين نهديها إلى «الأصدقاء» يضعونها جانبًا، ونادرًا ما يقرؤونها!؟

**

لم تكن كتابة الشعر طموحًا سعيتُ إليه، هي فقط طريقتي في أن أكون وحيدًا. (راعي القطيع)

لا يهمّ أي سبب يدفعك للكتابة، فقط لا تعتبرها طموحًا.

**

حاربَ إلى جانب فرانكو في الحرب الإسبانية الأهلية، فقدَ ذراعًا، وربحَ عديد الأوسمة... في ليلة من اللّيالي التي يكتبُ فيها القمر فواصِل التاريخ، عثر على كتاب من الكتب الممنوعة، كان الكتاب لشاعر المهزومين، شاعر الأنديز قيصر باييخو. قرأ سطرًا، ثم آخر، ثم غاص في الكتاب، لم يستطع أن يترك الكتاب حتّى فرغ منه... في اليوم التالي استقال من الجيش، اعتذر عن أخذ مستحقاته، سُجن.. ومنح معنى لحياته.

حكايته التي أوردَها غاليانو في كتاب المعانقات، أضاءت ليّ معنى بيت قيصر باييخو: «حتّى الرّيح تبدّلُ هواءها من حين لآخر».

أسباب الكتابة لا تنكشف إلا في فعل القراءة، فيما سيمنحه النصّ للقارئ/ يمنحه القارئ للنصّ.

**

كانت جالسة أمامي في القطار، بهاؤها غطّى على كلّ الوجود، غلالة شفافة من نسيج الملائكة، ابتسامة مواربة لا تشجّع ولا تيئّس. بدا كلّ شيء إزاءها باهتًا، كمثل تلك الأفكار البلا معنى التي تقطع الذهن، كمثل تلك التصرفات الساذجة للجالسين في المقصورة محاولين استثارة انتباهها، كمثل هذه السطور التي تحاول وصفها. فلتة من فلتات الوجود، تبتسم فنبتسم، تحركّ يدًا فتضيء الوجوه كما لو أنّها لامستها، تميل فنميل كأنّنا نوسع لها الفضاء... وفجأة أخرجت من الحقيبة كتابًا، «بيير وجان» لموبسان. لم أعتقد يومًا أنّ بوسع الحسد أن يأكل قلبي إلى هذه الدرجة!

لو أنّها أخرجت كتابي، كنتُ سأكتب ما تبقّى من عمري دون أن أتساءل: لماذا

لماذا أكتب؟: منى بنت حبراس السليمية

في دفتر صغير، كنتُ أكتب فيه يومياتي، دوّنتُ بتاريخ 22 أبريل 2016 الآتي: «تتكوّن أفكاري عندما أبدأ في الحديث عنها، أو في كتابة أول خيوطها؛ إذ سرعان ما تتوالد وتتضح تفاصيلها أثناء الكتابة أو الحديث. بينما في الصمت تصمت الكلمات، فتصمت الأفكار. عليّ أن أكتب رأس الفكرة أولًا لأتمكّن من رؤية باقي جسدها، فتتنفس فيها الحياة فور اكتمالها».

هناك عبارة لإليف شافاق أوردتْها في كتابها «حليب أسود»، تتحدث فيها عن شيء شبيه بهذا؛ وهو أنها لا بدّ أن تخط بالقلم على ورقة بيضاء أولًا لتكتشف ما يدور برأسها؛ لأن أفكارها لا تأخذ شكلًا واضحًا قبل الشروع في الكتابة. وأحسب أنني دوّنت الفقرة أعلاه بوحي من قراءتي لكتابها الذي يبدو أني قرأته في زمن قريب من كتابتي لتلك الفقرة، حسبما تشير التواريخ في دفتري الصغير.

لطالما كانت الكتابة حلمًا، أردت دائمًا أن أكون كاتبة، وعبّرت عن ذلك غير مرة، بدءًا من أول نص نشرته في ملحق شرفات في عام 2011 بعنوان «الكتابة الحلم»، وليس انتهاء بجملة صغيرة عثرتُ عليها في طيّات دفتر يومياتي إياه، مؤرخة بتاريخ 9 أبريل 2016: «ما الذي أريده بالضبط؟ الكتابة!». قد أستطيع العيش من دون الكتابة، ولا أشعر في الأمر خللًا أو فداحة. ولكنها تأتي في النهاية، تصبّ الكلمات نفسها في لحظة ما. تتخيّر الظرف الذي يجعلها تأتي كما لو كانت على موعد قديم بقيت محافظة عليه نكاية في الكسل والتسويف. ولكني لا أستطيع العيش من دون القراءة.

غالبًا أذهب إلى الكتابة وليس في ذهني شيء سوى موضوع مشوّش أو محور مقرّر أو فكرة غائمة، وربما جملة افتتاحية، ولكني لا أعرف ما يمكن أن تنطوي عليه تلك الفكرة، فأجهل الطريق الموصل إلى تفاصيلها. ولكن الشروع في الكتابة يجعلني أتعرَّف على الأشياء بمتعة سائح أو دهشة طفل يركّب قطع لعبته الصغيرة فتصبح عربةً أو بيتًا، حصانًا أو قطارًا، مدينة أو غابة. بالكتابة أختبر حدود طاقتي، وأكتشف ما يمكن أن أفكّر فيه. وقبل تلك اللحظة أكاد أجهل ما أنطوي عليه، ولا أعرف أن تلك الأفكار كانت تدور برأسي. مع الوقت يصبح الرهان كله يدور حول السؤال: كيف أكتب الأشياء بنحو أفضل؟

أحيانًا، أعيد التفكير في الأشياء التي كتبتها سابقًا، وأفكّر أني ما كنت أعرف بوجودها في رأسي قبل أن تتحوّل إلى لغة. وحده الجلوس أمام جهاز الحاسوب يمنحني تدريبًا ناجعًا على فهم نفسي والحياة بشكل أفضل. الكتابة ترتب بعثرة الأشياء في داخلي ومن حولي، وتضعها في مصفوفات يسهل استحضارها في سياقات مشابهة للتفكير.

يتحدّث الكتّاب دائمًا عن لذة الكتابة، عن تلك السعادة الغامرة باكتشاف دروب جديدة في غابات الكتابة، يسيرون فيها ليس من أجل ممكنات الوصول، بل لأن في مجرد السير لذته الخاصة. الأمر لا يشبه عمل النحّات الذي يستخرج منحوتته من داخل الصخرة، مزيحًا عنها الزوائد لتتبدى في شكلها النهائي الذي رسمه في رأسه أول مرة. الأمر، بالنسبة لي على الأقل، أشبه بإزاحة أطنان من الرمال عن مرآة لا أعرف عما أو عمن ستكشفه. تلك اللذة العارمة لاكتشافٍ تأتي به الكتابة ولا تتوقعه، تجعل الأمر مستحقًا عناء الاستمرار، وتجعلك تهمس لنفسك بعد كل مرة: فلأجرب شيئًا آخر!