No Image
عمان الثقافي

عمّ صبري الزبّال

23 فبراير 2022
قصة قصيرة
23 فبراير 2022

«زبالة.. زبالة.. زبالة»

تصلني صرخاته متتالية عبر فتحات المشربية.. مقترنة بدقات بائع أسطوانات الغاز.. فأنتبه إلى أن العجوز الطيب عم صبري الزبّال يمر بجولته اليومية المعتادة في الشارع الذي أستأجر إحدى شققه العلوية.. أنظر من فتحة صغيرة فأبصره تحتي مائلا بجسده الهرم الضعيف على ظهر حماره (دق دق) جارّا تلك العربة الخشبية الثقيلة المتهالكة تغص بنفايات البيوت ومخلفاتها.

«زبالة.. زبالة.. زبالة»

يرفع بها عقيرته.. يمدها مدا في الفضاء الرحب الممتد بين السماء والأرض وسط الشوارع والشقق المتقابلة.. يشق بها أسماع الكبار والصغار.. ينبههم إلى قدومه.. ليخرجوا إليه الكناسة والفضلات.

«زبالة .. زبالة.. زبالة»

إنه يوم شديد الحرارة.. ورغم ذلك لا يشتكي عم صبري ولا يتأوه .. بل يبتسم في رضا عجيب مقبّلا باطن كفه وظاهرها «كلها أيام ربنا.. بنحمده دايما.. وملناش اعتراض» ابتسامة لو مزجت بماء البحر لصيّرته شهدا.. أشعث أغبر.. كالح الهيئة.. غث الثياب.. بيد أنه مشرق القسمات بسّام لا تكاد تلحظ على محيّاه مسحة ضيق أو أسى بعمله المضني الكؤود.

«زبالة .. زبالة.. زبالة»

أطفال الحارات الشعبية يحبونه.. يقلّدون صيحاته في غيابه فكأنهم في اشتياق لسماعها.. إنها تسبقه دائما.. تسمع من بعيد.. تدوِّي وسط الحارات وبين الطرقات الضيقة المتربة المليئة بحفر الطين والوحل.. وإذا حضر يلتّف الصغار حوله فرحين.. يسابقون أقرانهم في إخراج فضلات البيوت وإعطائها إياه ليلقيها من فوره في جوف العربة.

«زبالة .. زبالة.. زبالة»

لصوت عم صبري الزبال.. بحّة غريبة.. احترت في سرّها.. هل هي ربانيّة ولدت معه منذ الصغر.. أم تراه اكتسبها بتوالي الأزمنة والسنين.. لكثرة ما يصرخ وينادي بلازمته المعروفة.. (زبالة)..؟ إنه يخرجها من أعماقه.. تتحشرج مندفعة من حلقه.. فتسمع حادة ممطوطة.. تقرع الآذان.. وكأنما زفرت بها أنفاسه من مكان سحيق.

«زبالة .. زبالة.. زبالة»

قادني فضولي المحض لسؤاله مرةً وأنا خارج من محل عصير قصب.. وقد أرخى زمام (دق دق) في إعياء شديد.. وطفق يمسح العرق المنسلّ من صلعته الصغيرة بمنديل قماشي مغبّر ممزق الأطراف. «بتشتغل الشغلانة المقرفة دي ليه يا عم صبري؟» أعمل أيه.. ما هو أكل العيش مر يا بني.. وأديني أخدم الناس وأشيل عنهم» ومالكش أهل وعيال؟ «أنا مش وحداني.. ده كل أهل حتتي ناسي وكلهم عيالي»، ومضى يجر الحمار والعربة المملوءة منعطفًا إلى شارع يفضي لحارة أخرى تاركًا إياي أقتات أسئلتي العديدة.. ونداءاته تسبقه.

«زبال .. زبالة.. زبالة»

حماره (دق دق) هزيل ضعيف مسن مثله.. يجره العم صبري بتؤدة وتمهل.. يمر على الحارات التي أعتاد عليها دون كلل أو ملل.. يلاطفه.. يمازحه.. يقاسمه اللقمة التي يجود بها الخيّرون أحيانا.. يمسح عليه .. يناغيه.. يهمس في أذنه بكلمات.. يغني له.. إنه أعز أصدقائه.. وأوفاهم.. وأقربهم إلى قلبه. وربما هو صديقه الوحيد.. وعندما يسأل «سميته الاسم الغريب ده ليه يا عم صبري؟ خلصت الأسامي يعني!!»

- «أعمل أيه أصلي ما طولتش أجيب حصان علشان أسميه أدهم.. قلت اسميه دق دق» يجيب ضاحكا محمرَّ الوجه خائر البدن من التعب والمرض والإجهاد.

«زبالة.. زبالة.. زبالة»

بعد أيام صادفته في تجوالي وأهالي الحارة مضطجعا في قيلولة صفاء.. مفترشا الأرض في ظل عربته وحماره.. ضامًا أطرافه النحيلة اليابسة مرخيا جسده في سكينة وهدوء.. غائبا تماما في عالم آخر.. فاغرًا فاه.. وقد ندت عنه ابتسامة احتار الناس في تفسير معانيها. سنّة يتيمة بانت في وسط فمه.. غاب صوت شخيره الذي كان يشبه خرير ترعة صغيرة.. (دق دق) وقف ساكنا هو الآخر لا يلوي على شيء.. ناكسا رأسه غير متأفف ولا شاك من وحدته.. رافضا أن يجتر أعواد البرسيم الخضراء الطرية.. أو أن ينهق محرّكًا رأسه وذيله يمنة ويسرة لإبعاد الحشرات كما أعتاد.. الحقيقة أنّ (دق دق) كان بائسًا جدا وكئيبا بالمرّة ذلك اليوم.

في الأيام التالية لم يكن عم صبري واقفا في وسط الحارة ينادي بصوته المبحوح.. تكدست أكوام القمامة في البيوت.. فاحت رائحتها.. حام فوقها الذباب.. اشتاق الأطفال إلى سماع صوته الذي ما عاد يسمع مقتربًا رويدًا رويدًا من بعيد.. لم يره أحد كذلك يجر عربته وحماره (دق دق).. أو يسمعه مناديًا ببحته المألوفة يسحر بها الحارات والآذان والقلوب «زبالة زبالة زبالة».

تمت

سمير العريمي قاص عماني