عمان الثقافي

طفولة مبكرة

29 مارس 2023
29 مارس 2023

الترجمة عن الروسية - أحمد م الرحبي

يشكل نفاد الصبر ملمحا بارزا جدا في شخصيتي، لطالما جرّ عليّ مصاعب جمة، وعذبني عذابا متواصلا. قد يكون مردّ هذا، وبمعنى من المعاني، أنني ولدت متأخرا، ومنذ ذلك الحين، وبدون وعي مني، أحاول اللحاق بالركب طيلة الوقت.

كان أكبر أخوتي يسبقني باثنين وعشرين سنة كاملة، أما أختي، الأقرب إلى تاريخ ولادتي، فتكبرني بأحد عشر عاما. عندما ولدت كان أبي يتخطى الثانية والخمسين من عمره وأمي الثانية والأربعين. خرجت إلى الدنيا وقالوا إني بنيامين: آخر عنقود العائلة ومحبوبها. لقد أشبعوني هزا ودلالا، وكان لهم كلهم تأثير سيء على صحتي وشخصيتي وعلى بعض عاداتي أيضا. يعلم الله كم من الوقت حرصوا على إطعامي العصيدة وشرائح الدجاج المفروم خشية تعرضي لآلام المعدة. يكاد السمكُ أن يكون سما، والخضر باعثة لاضطراب المعدة، أما الفواكه فللتحلية فقط. في الأخير تطور لديَّ نوع من التذوق الطِفليّ، بمعنى أنني، ومنذ ذلك الوقت، لا آكل إلا الأطعمة التي تُعطى للأطفال. أمرض من السمك ولا أعرف طعم الكافيار ولم أجرب المحار وسرطان البحر مطلقا.

لقد تسبب تخلفي هذا بمضايقتي حتى في الأدب. لو كنت قد ولدت قبلها بعشر سنين، لكنت نظيرا للرمزيين: أصغر بثلاث سنوات من بريوسوف وأكبر بأربع من بلوك. لكني ظهرت شعريا في الوقت الذي بدأتْ فيه أهم الاتجاهات الحديثة تستنفد نفسها، بينما لم يحن الوقت بعد لظهور الجديد. قريناي، جوروديتسكي وجوميليف كانا يعيشان الوضع نفسه. لقد حاولا تأسيس شكل مختلف، ولكن لم يتحقق شيء في الواقع ولم يبق من محاولتهما سوى الاسم. وبعد خروجنا، أنا وتسفيتايفا، التي، وبالمناسبة، تصغرني سنا، من حركة الرمزيين، لم نلتزم بشيء ولم نقترن بأحد وبقينا وحيدين، «متوحشين» إلى الأبد؛ ولم يعرف المصنفون الأدبيون ومؤلفو الأنطولوجيات أين يدرجوننا.

ظهرت أولى دلائل نفاد صبري حين تسرعت في رؤية النور قبل أسبوعين من الموعد المفترض لولادتي. وقع هذا الحدث عام 1886 في السادس عشر من مايو ظهرا. كان والداي يعيشان في زقاق كاميرغيرسكي بموسكو، في بيت يتبع دير غيورغي الواقع تحت الإدارة الكنسية. كان البيت من طابقين، مبنيا من الطوب وغير مجصص، أما الطوابق العليا فقد أضيفت لاحقا. في الجهة المقابلة، قام المبنى الذي كان يضمّ حينها مسرح كورت، ومن ثم مؤسسة شارل أومونت الترفيهية، وأخيرا المسرح الفني الموجود ها هنا حتى هذا اليوم.

وكما تسرعت في ولادتي، تعجلت في ارتكاب أول عمل طائش في حياتي: حينما كان نيافة الأب أوفيلت، رئيس الكنيسة البولندية، يقوم بتغطيسي في جرن المعبودية، كنت أُخرج أنفي بصورة جليّة. وقد تمَّ توثيق الحادثة في ذاكرة الأسرة. مع ذلك فقد أعقبت هذه البداية السعيدة مستجدات حزينة. لقد كنت ضعيفا واهنا لأبعد حد. زد عليه أنني، وبعد عدة أيام من الحادثة، ظهر على لساني ثؤلول راح ينمو بسرعة، رفضت بسببه تناول الطعام قطعيا.

الحاضنات اللواتي جُلبن لي كنّ يغادرن في اليوم التالي قائلات أنه من غير المجدي لهنّ أن يُضيعن وقتهن معي، معتبرات أنني لن أعيش في جميع الأحوال. في الأخير وجدوا من ستبقى معي، فقالت بعد أن وافقت: «سوف أرعاه بمعية الرب». في الأثناء لم يعرف الأطباء ما العمل وظلوا مترددين في إجراء جراحة. وفي الوقت الذي شارفت فيه على الموت، خطرت على بال أحدهم، وهو من أصول إنجليزية ويسمى سميث، فكرة كيّ البثرة باللازورد. أتى ذلك بمفعوله فاختفت بثرتي بالسرعة التي ظهرت بها. ظل سميث لفترة طويلة طبيبي المعالج، في حين احتفظ لساني بزؤان صغير بقية عمري وقد أطلق عليه أبي، غرزة. بقيت معي أيضا الحاضنة، يلينا ألكساندروفنا كوزينا وأصبحت مربيتي، وهي فلاحة من قرية قاسيموفا التابعة لقضاء أودوفسكي في مقاطعة تولا. كانت قد أودعت طفلها وهو من عمري دارَ أيتامٍ ليتوفى بعدها بفترة وجيزة، ومعه أصبحت حياتي، حياةَ كائنٍ آخر.

من المؤكد أنني عرفت عن حادثة الأنف التي رفعتها للكاهن أوفيلت، وعن الغرزة، وعن ظهور المربية، عبر ما حكي لي، فكل هذه الأحداث وقعت قبل نشوء ذاكرتي، وهي بالنسبة لي كما لو أنها من عصور ما قبل التاريخ. وإلى هذه القصص أيضا تنتمي قصة نطقي بأول كلمة. كانت أختي جينيا، ذات الاثنتي عشرة سنة، تدفعني كدمية على عربة من الخيزران عجلاتها خشبية. في هذه الأثناء عبرت قطة، رأيتها فحملقتُ بها ومددت يدي وقلت بوضوح:

- بس، بس!

تقول الحكاية إن أول كلمة نطق بها ديرجافين (شاعر روسي قديم. م.) هي الله. إنه مثال مهيب بالطبع؛ ولكي أعزي نفسي، اعتبرت أن هناك فرقا بيني وبين ديرجافين، وأيضا حقيقة أنني حين لفظت كلمتي الأولى، ومهما يكن نوعها، إلا أنني فهمت ما كنت أقوله، أما ديرجافين فلم يفهم ذلك.

رافقني حب القطط حياتي كلها؛ وإنه لمن دواعي سروري أن تبادلني هي الشعور نفسه. أحب أن أعقد معها صداقات عابرة، وإني لأعترف بإشباع غروري حين ينصاع قطٌ مشردٌ متوحشٌ لندائي، فيأتي إليّ ويتمرغ بقدمي وهو يخرخر ثم يسير على إثري. قبل بضع سنوات، وفي ساعة متأخرة من الليل، تعرفت على أحد هذه الوحوش الصغيرة في (جسر) بون دي باسيه. بعد أن تحدثنا قليلا، مشينا معا، بداية على الكورنيش ثم في شارع بوسكي. لم يتخلف عني حتى ونحن نعبر شارع سان دومينيك المكتظ بحركة الناس الداخلين والخارجين من معرض الديكورات. ومثل باريسيين حقيقيين ولجنا حانة وأخذنا نشرب: أنا - كأس كونياك، وهو - صحن حليب. اصطحبني بعدها إلى مسكني، ويبدو أنه لم يكن ليكره البقاء معي، لولا أنني، ولسوء الحظ، كنت أعيش في فندق.

هناك رأي يعتبر القطط التي لا تعيش مع الناس، غبية. ويتمّ مقارنتها بالكلاب. لا أحب هذا المنطق الطفولي. ليس مجديا أن نبحث في الحيوانات عن عُقيل صغير. فإن كان همك مثل هذا العقيل، فمن الأفضل لك -إذن- أن تقوم بزيارة لمعارفك؛ ذلك لأن أغبى شخص في معارفنا لا بد وأن يكون أذكى من أذكى كلب. القطط لا تحب أن تهبط إلى مستوى العروض الرخيصة. ليس هذا شغلها. إنها ليست ذكية بل حكيمة، وهذا شيء لا يشبه بعضه أبدا. يضّيق قطي «نال» عينيه ويغط في إغفاءة غامضة، وعندما يعود منها، يظهر في حدقتيه انعكاسٌ لوجودٍ آخر، الوجود الذي كان فيه قبل قليل.

القطط حالمة وفلسفية. إنها غير عملية ولا تأخذ دائما الظروف المحيطة بالحسبان. لذلك فإن شجاعتها متهورة. عندما أقوم بإخافة هر عمره شهران، فهو لا يلجأ إلى الهرب بل يستعجل الهجوم. إنها مترفعة ومستقلة ولا تنظر إلا لنفسها. لذلك فإن مصادقتها خالية من المظاهر الفظة، كما أنها لا تمتلك ذرة من التملق. القط إن شعر بالإهانة قادر على التجهمّ أياما بطولها وأسابيع بأكملها ويتظاهر بأنه لا يلاحظك. لا يطمع القط، قطعا، في أن يحرس بيتك فهو ليس خادما عندك. لكنه يحب أن يكون محاورك الصامت أو المخرخر أو المَوّاء، كل مرّة بطريقة مختلفة. إنه يحب الرياضة ويريد منك أن تشاركه شغفه. كان الراحل «مور» يأتي إليّ في أي ساعة من النهار أو الليل ويظل يصيح بي (بصوتٍ أخنّ قليلا) «هيا نلعب! هيا نلعب!» حتى أستجيب للعب الغميضة معه. كان يجري بين الغرف ويختبئ خلف الأثاث والستائر ويجبرني على البحث عنه، مستعدا لمواصلة المرح إلى ما لا نهاية، مع أن قدميّ تكونا قد بدأتا تترنحان من شدّة التعب.

إلا أنه لا يوجد شيء مؤثر أكثر من صداقة القطط. تتجلى صداقتها بشكل خاص عندما تواجهك ظروف سيئة أو حين تنتكس معنوياتك. وإني لأجزم أن القط الذي لم يكن مكترثا بي منذ دقائق، وبمجرد أن يبدو عليّ الضيق، حتى يُقبل عليّ فورا ويبدأ بملاطفتي. دائما ما تملأني هذه الشراكة القططيّة بحنان عميق. هاكم صديقي العزيز «زايتشوروف» وهو يستقبلني ليلا في غابة بولون الكئيبة (بباريس)، يروح يعدو أمامي في الشارع، فإذا بالكرب يزول عن قلبي، ويصبح من السهل عليّ أن أعيش وأتنفس.

تعود أولى ذكرياتي إلى فترة مبكرة جدا: ليس بعد صيف عام 1888 أبدا، بل ربما إلى صيف عام 1887، أي المرحلة التي لم أكن أمشي فيها بعد، أو ربما أمشي ولكن بطريقة سيئة جدا. استنتاجي نابع من أنني أتذكر ملابسي بوضوح: على رأسي برنيطة مستديرة وألبس مريولا طويلا يستحيل المشي به على الأرض. المربية تحملني بين ذراعيها. نقف على سدٍ عند مدخل حديقة بتروفسكو – رازوموفسكي. من خلفنا بركة وأمامنا مستنقع كبير. باتجاه مصنع إيوكيش، جهة اليسار، يمر طريق ميخالكوفسكوي. على الطريق يقف شرطي. تقدم من المربية وتحدث إليها ثم مدّ إصبعه نحوي فأمسكت بهذه الإصبع فقبّل الشرطي يدي. إني لأشعر بالخجل الشديد، بل وبالخوف من أصدقائي اليساريين. ولكن حياتي تبدأ من هذا المشهد، ذلك لأن وعيي يبدأ منه. إني مُطالب بالتوبة، فمعرفتي بهذا الشرطي (كانت لديه لحية شقراء وشارب أشقر) دامت أمدا طويلا. فحتى مع توقفنا عن الذهاب إلى بيتنا الريفي في تلك الناحية، إلا أنني لم أنقطع عن الذهاب إلى حديقة بتروفسكو – رازوموفسكي، وكان الشرطي لا يزال واقفا في موقعه، سوى أنهم جعلوه بجهة سكة الترام. بهذا المعنى فقد كبرتُ أمام عينيه. وحين أصبحت بالغا، كان يؤدي لي التحية باستمرار ويسألني عن والديَّ وعن إخوتي وأخواتي. وقد رأيته آخر مرّة عام 1911.

إن ذكرياتي المبكرة مرتبطة برازوموفسكي بشكل عام. واحدة منها: عاصفة رعدية قوية، أمطار غزيرة، بعدها سماء زرقاء، وشمس، وقطرات تسقط من الأشجار. فوق طريق ميخالكوفسكي ضباب أبيض، وفي هذا الضباب تسير عربة أجرة، يجلس فيها أبي وأمي. الجميع حولي يقولون إن أبي مسافر إلى باريس لحضور معرض هناك. يجري هذا الحدث في عام 1889. أتذكر عودة أبي، ومجسم برج إيفل البرونزي الذي أحضره معه، وقصصه التي حيّرت مخيلتي عن هذا البرج.

يمنحني معرض باريس 1889 فرصة لتأريخ حدث مهم جدا في حياتي. ففي ذلك الصيف جاءت من ياروسلافل أختي مانيا مع زوجها ميخائيل أنطونوفيتش، الذي كنت أخافه حتى الموت، وأكرهه من صميم قلبي بسبب ما يلقّنه لي من أخلاق حميدة. فيما بعد أدركت أنه شخص جيد وطيب باستثناء أنه لا يمتلك أدنى فكرة عن أصول التلقين. كان يدربني مثل كلب. ولكن القضية ليست هنا. أتذكر بوضوح صباح يوم صيفي، ومقعدا على الممر بين باب البيت وشرفة الدرج. أنا وأختي مانيا نجلس على المقعد وهي تعلمني القراءة. إني أتهجأ الأحرف (لا أتذكر متى وكيف تعلمتها)، إلا أن الأحرف الصوتية استعصت عليّ. في كتاب الألف باء الذي كنا نتدارسه (بإمكاني الآن تمييزه وسط آلافٍ غيره)، وكما جرت العادة، طُبعت في الكتاب صور صغيرة وتحتها الكلمات التي تقابلها: رسمة الأذن مكتوب تحتها «أذن»، رسمة مزلجة وتحتها «مزلجة». سرعان ما أدركت أنه لا يوجد ما يستحق عناء قراءة الكلمات ما دام يمكنك القراءة بمجرد النظر إلى الصورة. كنّا قد مررنا على الزلاجة والأذن والمنزل وغيرها الكثير من الكلمات، حين انكشفت حيلتي فجأة: بالنظر إلى إحدى الصور قرأت من دون تردد: نحلة. لم يكن هناك شيئا من هذا، ولم تكن هناك نحلة بل دبور. وهكذا تمّ تبديل كتاب الألف باء بآخرٍ لا يحتوي الصور، ومعه تحتم عليّ أن أبدأ تعلم القراءة طبقا للأصول.

فلاديسلاف خوداسيفيتش شاعر وناقد روسي

أحمد م الرحبي روائي ومترجم عماني