عمان الثقافي

صحراء الخليج ليست نفطا وحسب !

29 مارس 2023
29 مارس 2023

منها.. وإليها، صحراء الرمل والرياح والشعر والأحلام القصوى، وصحراء النفط أيضا! الصحراء لا تعرف المهادنة ولا التوافق ولا الحلول الوسطية، ذلك أنها تطرف في تطرف على صعيد الطقس أو الجغرافيا أو البشر النابتين فيها والقادمين إليها، وأولئك الذين ينظرون لها بريبة المستكشفين ودهشة المعجبين وتحفز اللصوص.

وفي صحراء شبه الجزيرة العربية تحديدا، ذلك السر الذي أزعم أنه يسكن كل صحراوي ينتمي إليها تاريخيا وجينيا، ولا بد للسر من وقود ليستمر في إدهاشه للعابرين المعجبين على مدى الزمن. فهل يمكن للنفط أن يكون هو ذلك الوقود الذي جعل من صحرائنا تقاوم رياح التغيير لتقدم على تغييرها الخاص بشروطها الخاصة في مواجهة اتهامات الآخرين لها وحولها؟ هل للنفط قدرة على المقاومة ليصير العنوان الأبرز في صحراء الرمال والشعر؟

ربما.. لكن الصحراء، رغم نعمة النفط، ليست نفطا وحسب، على أية حال!

يعرف المعجم الوسيط مفردة صحراء بأنها «أرض فضاء واسعة فقيرة الماء»، وبهذا التعريف الموجز يمكن أن ندرج كثيرا من الأراضي الواسعة الفضاء فقيرة الماء في معنى المفردة معجميا، لولا أن المصطلح أبعد من ذلك بكثير في وجدان البشر الذين عاشوا حياتهم أو طرفا منها في تلك الصحراء، وعايشوا ظروفها وثبات معناها في وجه كل التقلبات التاريخية التي ألمت بها، وأنا من الذين عاشوا ذلك الشطر المميز في صحراء واسعة فقيرة الماء، لولا أنها فارقت ذلك المعنى بحكم التطورات التي اجتاحت المنطقة العربية كلها، فأحالت تلك الصحراء إلى شيء آخر تماما، قد يعيدها إلى أصلها الذي تدلنا عليه خرائط الجيولوجيا في تكوين الأرض قبل ملايين السنين. ومن يدري؟ الزمن طريق غير منته وهو قادر دائما على تفسير غرائب الأشياء وعجائب التحولات عندما يكون جزءا منها أو يكون المكون الأساسي لها.

صحراؤنا العربية لم تعد تلك الصحراء القديمة، لولا كثير من الرمال والرياح واللهجات والقصائد وهوامش البداوة التي حولها أهلها إلى واحد من عناصر التميز في السنوات الأخيرة انتصارا لقيم التاريخ وأثر التحول الاقتصادي الذي ألم بالمنطقة كلها منذ منتصف القرن الماضي، ولولا النفط.. ذلك السائل السحري الذي انبثق من أعماق الصحراء سائرا في عروق العالم كله على وقع هدير المحركات والمكائن ووسائل النقل وكل ما يتحرك ويشتغل بالطاقة. إنه إذن سائل الحياة الجديدة في شرايين الصحراء والمقيمين فيها منذ أن فارقوا حالة الترّحل لصالح المدن في صورتها التقليدية وصورتها المستحدثة الجديدة.

ولدت في المدينة، وفقا لصورة المدينة في مفهومها القديم وإن لم تكن تسمى كذلك في توصيفات الخرائط المحلية، ولكنني ولسبب عائلي دقيق عشت شطرا صغيرا من حياتي، وأنا في مرحلة المراهقة في البادية، حيث الصحراء الحقيقية رمالا ورياحا، وعصفا في ذاكرة جمعية ثرية بالحكايات والقصائد، وبيوتا مصنوعة من الشعر الأسود. عودة غير متوقعة بالنسبة للكبار الذي ما زالوا يحتفظون بذكريات البادية وارتحال غريب بالنسبة لمن تكونت ذاكرتها في المدينة وحسب. لكنها الصحراء حقيقة، حيث تجاوزت المجاز في روحي لأجد نفسي في بيت من الشعر أنتمي فيها إلى جذوري القديمة ما جعلني أنغمس في تلك الحياة باحثة عما علق بروحي من رمال صحراوية جافة بقية عمري كله.

وربما لهذا، وغيره قليلا، أجدني منحازة لذلك المعنى الحي من الصحراء العربية بعيدا عن التعريف اللغوي لها أو حتى عن التعريف المجازي كما نجده في موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال التي تعرف الصحراء بأنها «برية صحراوية شاسعة تقع في غرب آسيا. تمتد من اليمن إلى الخليج العربي وسلطنة عمان إلى الأردن والعراق. تحتل معظم مساحة شبه الجزيرة العربية. تبلغ مساحتها 2،330،000 كيلومتر مربع (900.000 ميل مربع) وهي خامس أكبر صحراء في العالم والأكبر في آسيا. يقع في وسطها الربع الخالي أحد أكبر المسطحات الرملية في العالم»، ورغم أن صحراء أخرى تحتل الجزء الأكبر من خريطة الوطن العربي، وتحظى بالمرتبة الثانية في قائمة صحراوات العالم من حيث المساحة وهي الصحراء الكبرى التي تقع في أفريقيا وتضم عددا من الدول العربية، إلا أن الثقافة العربية العامة تنظر لصحراء شبه الجزيرة العربية وحدها باعتبارها الصحراء وباعتبار سكانها الصحراويين الذين ينبغي عليهم تحمل تبعات المفهوم في أقسى معانيه وأقصاها امتدادا في المكان وفي الزمان أيضا.

سنعيد ترتيب مواقع المعاني من جديد بدءا من ظهور النفط بكميات تجارية منذ أربعينيات القرن الماضي في دول صحراء شبه الجزيرة العربية ما جعلها تتحول جذريا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وجزئيا على الصعيد الثقافي. أصبحت الصحراء مرادفة للنفط وأصبح الصحراويون مجرد بدو لا يستحقون النفط، وأصبح النفط نفسه مجرد لعنة أصابت الأرض العربية في عقلية الكثير من المثقفين العرب ممن يعيشون في بلدان تتماس في هوامشها مع هوامش تلك الصحراء أو بعيدة عنها.

فمن أين أتى ذلك التحول في مفهوم الصحراء بالضبط؟ ولماذا تحولت المفردة من مفردة غارقة في وجدان شعري يتأسى بذاكرة تتكئ على الرمال اليابسة في شوقها لمياه الأمطار، وترسمها خريطة لكل قصيدة ترتب أبياتها وفقا لذاكرة المطر وما يتخلله من حياة تقاوم الموات في نباتات وأشجار وحيوات متنوعة؟

الغريب أن النفط العربي لم يكتشف في صحراء الجزيرة العربية وحدها بل كانت كمياته الأكبر في مناطق لا نستطيع إدراجها جغرافيا في خريطة الصحراء، ثم أن الصحراء العربية الأكبر في أفريقيا أنتجت النفط أيضا وبما ترك آثاره على سكانها، لكن مفهوم التحول الاجتماعي والثقافي، وبدرجة أقل الاقتصادي لم يكن واضحا بهيئة «تهمة» كما حدث في الصحراء التي يسيجها الخليج العربي في أحد جوانبها. وهو ما يثير التساؤل حقا، ويجعل من تلك «التهمة» جريمة حقيقية ارتكبت بحق سكان هذه الصحراء في المفهوم العام لدى من هم خارجها من العرب، حتى وإن كان هؤلاء السكان المعنيون لم يروا الصحراء أساسا ولم يعيشوا فيها في المفهوم الدقيق للكلمة والمصطلح!

من الواضح إذن أن التحول الذي أحدثته الثروة النفطية، وحسن استثمارها في بلدان الخليج العربية تحديدا وبما أدى إلى تقدم واضح في المستوى المعيشي والتعليمي للخليجيين، جعل بقية العرب وخصوصا في البلدان التي كان ينظر لها باعتبارها دول المركز الحضاري أو القلب الثقافي ينظرون بعين الريبة لمن أسموهم بعرب النفط، فجعلوا من النفط في البداية نسبا جديدا لهؤلاء العرب من ذوي الثقافة التي تعتز بالأنساب وتفاخر بها، وبأسلوب تهكمي ينم عن استصغار لمراكز جديدة أصبحت فاعلة في المشهد الثقافي العربي عموما، بل أنها أصبحت الفاعل الحقيقي المؤثر في ذلك المشهد عبر كثير من التجليات التي أسهم في تعزيزها مال النفط مباشرة، وفي ذلك تفصيل..!

عندما استيقظت خريطة العرب بعد سبات قرون عثمانية، مع نهايات القرن التاسع عشر، وجدت نفسها في تموضعات جديدة على الصعيد الفكري والثقافي بشكله التقليدي نتيجة لوجود قوى استعمارية غربية احتلت معظم أجزاء الوطن العربي ولكنها تمركزت في بلدان دون غيرها ونتج عن كل ذلك شكلا جديدا من أشكال الحياة الثقافية والاجتماعية فيهاـ تأسيا بتلك البلدان الغربية وتسهيلا على قوى الاستعمار ظروف البقاء طويلا في البلاد المحتلة. وكان من نتائج ذلك التأسي إنشاء المدارس والجامعات الحديثة وما تلاها من مطابع ودور نشر وصحف ووسائل ثقافية وعلمية أخرى، وما انتجته لاحقا من حراك ثقافي تنوع وتوسع وخلق رموزه من الكتاب والمثقفين والأدباء والمؤرخين والإعلاميين وغيرهم ممن عملوا على ترسيخ فكرة جديدة شاعت بعد ذلك طويلا وأسهمت باختراع أكثر من مستوى للتمييز بين أبناء الوطن العربي الواحد. وهكذا تكونت عواصم المركز الثقافي ورسخت أسماء تلك العواصم ومنتجاتها الثقافية والفنية والفكرية في الوجدان العربي كله باعتبارها قلب الأمة أو مركزها مقارنة لها بدول الهامش الموزعة في الصحراوين العربيتين أو على حوافهما. وتحولت تلك النظرة، المفهومة إلى حد ما، إلى ما يشبه المفهوم العنصري الثابت، حتى بعد أن تغيرت الأرض وما فيها إثر ظهور النفط في كلتا الصحراوين، وما تبع ذلك من استثمار ناجح جدا في الإنسان واحتياجاته العامة والخاصة، وخصوصا في صحراء الجزيرة العربية وهوامشها، نتج عنه استقرار سياسي ورفاه اقتصادي مشهودين أديا إلى أن تتحول المنطقة لقبلة العالم في الاستثمار الاقتصادي الآمن وما أدى إليه من قوة استراتيجية ظهرت في أكثر من منعطف سياسي ألم بالمنطقة العربية بأسرها وربما العالم كله، وخصوصا في العقدين الأخيرين. أما المفهوم فقد تحول، نظرا لأنه فقد عناصر جذبه وأسباب عقلانيته، إلى تهمة حقيقية تلاحق الصحراء وأبنائها تحت لافتة الخليج والخليجيين!

وهكذا أصبحت «تهمة النفط» كما نحتها معظم أبناء المركز الثقافي القديم تلاحق كل الخليجيين باعتبارهم مجرد بدو خارجين من قلب الربع الخالي وما زالت أثار الرمال عالقة بثيابهم وبالتالي فهم لا يستحقون ما قدمه لهم النفط بهيئة تعليم راق في مدارس وجامعات محلية وعربية وأجنبية، وعليهم أن يبقوا دائما على هامش الفكرة الإنسانية كلها!

لقد بلغ من قوة تلك التهمة التي اكتسبت ما يشبه المشروعية نتيجة الضخ الإعلامي المستمر والكبير فيها إلى حد أن صدقها أبناء الصحراء أنفسهم في كثير من الأحيان، حيث اعتبروا أن كل ما قدموه أو يقدمونه أو من المتوقع تقديمه من قبلهم مجرد رد لدين وهمي كانوا دائما مطالبين بسداده تجاه دول المركز. وفي كل مناسبة ثقافية عربية ينضوي تحت سمائها العرب من كل البلاد يعود ذلك المفهوم إلى الواجهة على هيئة تهمة جاهزة يتضاعف ثقلها كلما حاول أحد المتهمين فيها الدفاع عن نفسه وعن محيطه الجغرافي والثقافي باعتباره وطنا على سبيل المثال.

الغريب أن فكرة الصحراء نفسها بقيت تقاوم فكرة الفناء كمصير نهائي للكائن البشري في هذه المنطقة أو تلك، فبدلا من تلاشيها في زحام المدن الجديدة، يحاول أبناؤها تحت وطأة الإحساس بثقل الاتهام وتأنيب الضمير الخادع بامتلاك جزءا من ثروة النفط فيها، بناءها فوق الرمال المتحركة، وإلغاء خواصها السكانية على سبيل تحويلها من صحراء إلى ما يشبه المسخ الأرضي المزروع بناطحات السحاب والأبنية العمودية الخانقة في فراغ المكان واتساعه الكبير جدا.

وكلما عدت لاستذكار حياتي القليلة في صحرائي الواسعة ذات ظرف دقيق مر بي وسحبني على الرمال بكل مكوناتي من كتب وقراءات وقصائد، اجتاحتني فكرة أن تكون عودة أبدية ربما دفعا لتلك التهمة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى تحديات حقيقية لم ينجح الصحراويون في مواجهته على الصعيد السياسي حتى الآن على الأقل. لكن من يدري؟ المستقبل يشبه تلك الصحراء.. مفتوح على الأفق البعيد دائما، وقد تجتاح العابرين فيها رياح تؤدي بهم إلى هلاك أبدي أو تدلهم على آبار الماء الخفية، فالصحراء ليست نفطا وحسب!

سعيدة مفرح صحفية وشاعرة كويتية