No Image
عمان الثقافي

شخصيات «أليس ووكر» صنيعة هبات أوجاعها الشخصية!

29 مارس 2023
29 مارس 2023

تشرّح الكاتبة والناشطة الأمريكية «أليس ووكر» وضع رجال السود ونسائهم في إحدى عباراتها قائلة: «حيوانات العالم موجودة لأسبابها الخاصة لم تكن مصنوعة للإنسان أكثر من السود، كانوا يصنعون للبيض أو النساء المخلوقات للرجال».

تتجسد هذه العبارة بأبعادها المتباينة في معظم رواياتها التي لم تتطرق فيها «أليس ووكر» لمعاناة الرجل الأفريقي الأسود على أيدي البيض؛ فقد أصبحت هذه حقيقة ومسلّمة وجزءًا من تاريخ وذاكرة الإنسان الأسود سواء كان رجلاً أو امرأة، سواء كان في أمريكا أو في تلك البلاد الأفريقية البعيدة، وهي التي سبقت وعبرت عن استيراد وتهجير الأفارقة لأمريكا كعبيد بدءًا من القرن السادس عشر حين وجدوا أنفسهم وسط شعب يعتبرهم أشياء يصدرون لها الأوامر ويستخدمونها، غير مبالين بأبدانهم أو مشاعرهم؛ لذا جاءت رواياتها لبيان تأثير فجاجة معاملة البيض لهؤلاء السود، تأثير هذا الظلم المتفشي لأعوام طويلة. جاءت لتكشف اختلاج تلك التراكمات على مدى قرون في عقلية الرجل الأسود، وماذا خلفت تلك الندوب في فجوات مشاعره ليصب جام لعنته وغضبه وقهره على المرأة السوداء. هذا الرجل الأسود المقهور الذي استحال وحشا غذى من كأس المرارة الفائض بالإذلال النساء في حياته، وعلى زوجته وابنته، على كل فتاة سوداء وجدت في محيطه الفاحم.

في روايتها «حياة غرانغ كوبلاند الثالثة» الصادرة عن دار المدى، ترجمة سيزار كبيبو. تتحدث الرواية عن رجل يدعى غرانغ يسحق سحقا على يد رجل أبيض مالك الأرض، يدين له بديون طافحة؛ يتبدى تأثير هذا الجو المشحون بالعبودية اللامتناهية، والذل على زوجته «مارغريت» فيعاملها بمنتهى القسوة، ويبقى مخمورًا ليال طويلة يبغض كل شيء يحيط بها أو بيته حتى ابنه الوحيد منها، ويقوم بخيانتها مع امرأة أخرى، وحين يتفاقم لديه شعور الكراهية والاشمئزاز يهجر كل شيء خلفه، هاربًا من جشع الرجل الأبيض وزوجته التي بدورها قامت بخيانته مع رجال آخرين، وحبلت بطفل من رجل أبيض وابنه الوحيد دون أن يدير وجهه نحوهم ولو لمرة واحدة، فارًا إلى الشمال، حيث يرتحل جميع الرجال السود من لعنات وجودهم، وكأنها وجهة الحلم الأمريكي الوحيد المتبقي لهم. يظل هذا الحلم نفسه يراود ابنه «براونفيلد» مذ لم يتعدَ طوله بضعة أمتار حين سمع لأول مرة عن سحر الشمال من فم ابن عميه ذات نهار صيفي قائظ حين بقوا أسبوعا لزيارتهم، ليظل جل غايته ومطمحه على امتداد سنوات. وحين تنتحر أمه ويموت طفلها بعد هجر والده لهم، يهجر بدوره موطن ولادته في الجنوب لتقوده الدروب إلى الشمال موطئ والده وحيث يتمتع الجميع من بني جنسه ببحبوحة الحياة أو هكذا خيل إليه، غير أنه يجد هذه الشمال بعيدًا أميالاً طويلة، وهو شاب في مقتبل العمر ومفلس. الحاجة للمال تقوده إلى حانة امرأة سوداء وابنتها، تتناوبان على مقاسمة حبه، في المكان نفسه يقابل لأول مرة «ميم» الفتاة التي يعشقها ويتزوجها لتتبدل حياته مذ لحظتها إلى الأبد.

تستعرض ووكر تفاصيل الاضطهاد التي تعانيها «ميم» على يد زوجها «براونفيلد» مستحضرًا العقد النفسية التي مرّ بها براونفيلد كرجل أسود، لشعوره بأنه غير كفء لزوجته المتعلمة «ميم» حتى الرجال من حوله كانوا يلحون في السؤال مندهشين عن كيفية حصوله على امرأة مثلها.. شيئا فشيئا تتفاقم مرارة الغيرة على هيئة أحقاد ينفثها ببشاعة على «ميم» الصبورة، متحملة نزوات غضبه ويده الثقيلة من أجل بناتها الصغار غير أنه ولج الحالة التي سبق وعاشها والده غرانغ، من سيطرة الرجل الأبيض والديون المتراكمة، هنا توضح ووكر كيف أن الرجال السود بدورهم اتخذوا هذا حجة كي يبرروا القسوة والإذلال التي عاملوا بها زوجاتهم وبناتهم. لقد صنعت ووكر صورة في غاية الوحشية للرجل الأسود، أنموذجًا متشفيًّا، فارغًا حتى من عاطفة الأبوة، بدوا كذكور التماسيح، الأب منزوع الغريزة لدرجة أنه يلتهم بفمه الكبير صغاره دون أن يرف له جفن ما جعلت الأمهات، إناث التماسيح اللواتي يتمتعن بغريزة الأمومة يخبئن صغارهن لحظة ولادتهم في فيهنّ لحمايتهم من أبيهم!

«براونفيلد» هو الرجل التمساح الذي دمر حياة زوجته وبناته، هذا التدمير الذي لم يتوقف عند قتله زوجته «ميم» برصاصة مخترقة جبهتها بل امتد مخزونه من الأذى إلى ابنته التي كانت صغيرة قبل دخوله السجن لجريمته في حق أمها، وأصبحت شابة معرضة حياتها للخطر على يد والدها المغبون.

في الرواية نفسها، تبين ووكر كيف أن الرجل الأسود ينال فرصة بل فرصا عديدة ليبدأ من جديد، ليبني حياته، ليصحح أخطاءه ويتخطاها؛ فالشخصية الرئيسة «غرانغ» التي عنونت الرواية باسمه عاش فعلا عدة حيوات، عاش كرجل شرير وبائس لزوجته، وأبا بغيضًا لابنه، هو نفسه الذي جمع مالاً من تنقلاته نحو أرض الشمال ليبني حياته متمتعًا بحريته وتحرره من قبضة الرجل الأبيض، ليكون مالك أرضه وبيته ومزرعته، تتراجع هنا عقدته كرجل أسود من بطش الأبيض، وحين يتمتع بحريته الحقة يصير رجلاً مختلفًا، مُحبًا لزوجته الثانية وحين يقتل ابنه زوجته ويدخل السجن يعزم على الاحتفاظ بإحدى حفيداته وأصغرهن «روث» لتنال حظوتها على يد جدها في أواخر حياته، متمتعة بالدلال والمحبة، مترعرعة في حضرة جد حنون، تصل محبته لدرجة أن يقتل من أجلها وأجل سلامتها وحريتها وحياتها ابنه الذي يطالب بها بالقانون تشفيًّا بها وبأبيه.

بينما المرأة السوداء تتعثر حظوظها في الرواية؛ فهي مستغلة ومعذبة عند الرجل الأسود والأبيض على سواء في مجتمع بطريركي، فهي مجرد امرأة، مجرد شيء بينما هو رجل، رجل أسود ورجل أبيض. فــ«ميم» التي عزمت أن تتولى زمام أمورها فوقفت في وجه زوجها موجهة نحوه بندقية لتخويفه كي تنتقل لبيت قامت باستئجاره بعيدا عن البيت الذي فرضها زوجها عليها كي تعمل خادمة عند أصحاب البيت الأبيض. «ميم» التي تجد عملاً تستعيد لعدة سنوات كيانها كامرأة، وتتحكم بغضب زوجها كونها مستقلة، لكن في لحظة ما حين تخونها صحتها تجد أن عالمها الذي بنته بذكاء وإقدام ينهار كليًّا مخلفًا دمارًا نفسيًّا واضطهادًا على يد زوجها المستبد الذي يعاملها بسادية مفرطة إلى حد الجنون.

ولا تكاد تتباين أوضاع المرأة وما تعانيه من مرارة في مجتمعها الملون في روايتها الشهيرة التي أحدثت ضجة هائلة لحظة طباعتها عام 1982 « اللون الأرجواني» الصادرة عن المدى، ترجمة سيزار كبيبو التي حازت على جائزة بوليتزر . هذه الرواية بطلتها امرأة تدعى «سيلي»، حيث تفضح ووكر مجتمع الأسود الذي بدوره يعامل نساءه بمنتهى العنصرية؛ فهي مجرد خادمة وأداة لتفريغ متعته، «سيلي» التي تتعرض للاغتصاب على يد زوج أمها وتنجب منه طفلين يترعرعان بعيدًا عنها، «سيلي» التي تتزوج من رجل أرمل لديه أربع أبناء، الرجل نفسه لديه عشيقة «شوغ أفري» يجلبها للبيت ويجبر «سيلي» على القيام برعايتها، من حسن حظها تكون هذه المرأة عشيقة زوجها سببا كي تستحيل «سيلي» إلى امرأة ذات كيان، ترمم ثقتها بنفسها، وتقوم بينهما علاقة مفعمة بالحياة والمحبة والانطلاق نحو الحرية، في هذه الرواية تمنح ووكر بطلتها فرصة لتنهض بحياتها من جديد، فرصا لتنجو حين تعزم على ذلك، وتتحدى المجتمع الذكوري من حولها، كل بطلاتها بدءا بــ»سيلي» و»صوفي» و»ماري آغنيس» وغيرهن تبدلت حيواتهن، ونلن المكانة أو الحياة التي أردنها في النهاية. الجدير بالذكر أن هؤلاء النساء اكتسبن قوتهن بفضل شخصية «شوغ أفري» التي تمتعت في الرواية بشخصية مستقلة، مغنية موهوبة ويحبها الرجال بل يبدون لها احتراما ومهابة.

معظم شخصياتها في الروايات سواء كانوا رجالاً أم نساء تتفاقم لديهم الأزمات النفسية لدرجة إهمال أبنائهم، لا يكاد الرجل الأسود يحفل بأطفاله، هم مجرد أرواح كان سببا لجلبهم في الوجود التعيس سلفا، تقوم أمهن برعايتهم وفي كثير من الأحيان نتيجة الفقر وهدر الكرامة ورغبة الأم لانتشال نفسها من جحيم وقعها تضطر عن التخلي عنهم بدورها ويقع رعايتهم بيد الجدة أو الأخت أو تتبناهم إحدى الكنائس التي بدورها تمنحهم لعائلات محرومين من الأطفال. يكبر هؤلاء الأطفال ويكبر معهم أحقادهم الدفينة كشخصية «براونفيلد»، وتتفاقم العقد الشخصية تجاه زوجاتهم كأمهات وتجاه أطفالهم أيضا.

كما طرحت ووكر أيضا طبيعة العلاقات عند الشعوب الأفريقية خارج أمريكا، وكيفية تعاطيهم مع الآخرين، مع بني جنسهم الأفارقة القادمين من أمريكا وانجلترا كمبشرين. فحين ذهبت أخت «سيلي» المدعوة «نيتي» إلى إحدى تلك القبائل الأفريقية كمبشرة، كانت نظرة هؤلاء الأفارقة تحمل بدورها نوعا من العدائية والتمييز ضدهم. فهي قبيلة تباهي بنفسها، يتمتعون ببشرة فاحمة، ولهم لغتهم الخاصة وعاداتهم ومثلهم وطريقة معينة لتربية أطفالهم درجوا عليها سنوات طويلة ورثوها عن أجدادهم، لذا أعدوا هؤلاء المبشرين رغم أنهم أفارقة مجرد دخلاء، يحاولون زعزعة سبل المعيشة التي اعتادوا عليها، كانوا يرفضون تعليم الفتيات حيث ينحصر دور الأنثى في الزواج فحسب وخدمة زوجها وأطفالها؛ فما بال حين تكون هذه المبشرة امرأة سوداء كـ»نيتي» بل كيف بلغت هذا العمر دون وجود زوج إلى جانبها، كانت بالنسبة لأولئك الرجال والنساء على سواء مجرد امرأة وحيدة ومسكينة ومدعاة للرثاء!

لم تتباين حيوات شخصيات الكاتبة «أليس ووكر» عن حياتها الشخصية بشكل ما، بل يبدو أنها جسدت بعض تفاصيل حياتها في كثير من الأحيان، هي التي عرفت جيّدًا كيف تحول أزماتها الشخصية إلى هبّة بل هبات تحمل قدرًا من الامتنان، مذ كانت في ريعان الطفولة حين أصيبت عينها اليمنى عن طريق الخطأ برصاصة من بندقية BB من جانب واحد من أشقائها، شكلت هذه الطلقة أزمة نفسية حتى بلغت الرابعة عشرة وأزالت الندبة، حينها أدركت أن تلك الطلقة التي أصابتها كان لها بعض القيمة، حيث أفسحت لها المجال أن تبدأ طريقها الأدبي.

هذه الأزمات التي حطمت عوالم بعض شخصياتها، وحلقت بأخرى إلى سموات الحرية والحب والرضا والعرفان والسلام الروحي.

ليلى عبدالله كاتبة وقاصة عمانية