No Image
عمان الثقافي

رواية الحرب، وخطاب النخبوية

29 مارس 2023
29 مارس 2023

1

بعد القراءة المتأنية الثانية لرواية (الحرب) للكاتب الصديق محمد اليحيائي، وعند تفكيك النص الروائي يجد القارئ نفسه إزاء سرد فيه ضبابية في الخطاب والحكاية والزمن والمكان؛ حيث ينفتح المتن الروائي على راوٍ عليم بضمير مستتر سلفاً في تقديم للمروي له.

الأفعال في الرواية لفاعلين مجهولين لنا كقراء من الصفحة ١١ حتى السطر الثاني من ص١٢ (حين خرج من المطبخ حاملاً صينية فضية نقش على حوافها طيور وورود ذهبية، لم يجدها. كأسا المارتيني ينتصبان على سطح الصينية، وحبتا الزيتون تعومان في السائل كبؤبؤتين تائهتين، وبين الكأسين، طبق البطارخ المجفف، مع خليط الأفوكادو والطماطم والنعناع، وقطرات من عصير الليمون لتخفيف حدة الطعم الحريف... ولم يجدها...ص11) بعد سرد طويل من الأفعال والأقوال والأسماء لشخصيات نكرة، يدرك القارئ أن الراوي العليم يتحدث عن (عيسى صالح) وعن عشيقته (كريستينا سعيد)، (أما الضيف، الذي لم يره عيسى صالح من قبل... ص١٣). (ثم بعد إحضار المقطوعات التي ستصحبهم في سهرتهم، وبينها مقطوعتها من اليوليرو التي تحبها أكثر، والتي جعلها خاتمة السهرة...ص11). لا يعرف القارئ لمن يسند هذه الضمائر المستترة سردياً؛ لأن الكلام يبدأ بضمير مستتر، أو لمن تسند تلك الأفعال الأولية في بدء الكلام/ الحكي.

وهذه الأفعال/ الحركات في بداية كل سطر جديد حتى نهاية الفقرة، (حين خرج من المطبخ...) وتنتهي ب (ولم يجدها) من خرج؟ ومن هي التي لم يجدها؟

(أحضر المقطوعات... من مقتنيات الذاكرة)، (أطعمته الموسيقى بملعقة، وتتحول الحيطان إلى عيون وآذان.)، (جال ببصره في الزوايا بحثا)، ويقيس القارئ على ذلك حتى ص12 من الوحدة الأولى من الفصل الأول في الرواية.

2

منذ أن كتب الروائي المصري صنع الله إبراهيم، روايته (وردة) سنة2000، جاءت الروايات العمانية تنكش في هذه الثيمة التاريخية المعاصرة. أعني حرب ظفار والجبهة الشعبية لتحرير عمان. وكأن هذه الرواية حركت حماسة الكاتب العماني، فأخذت الكتابات الروائية ترحل إلى ذلك الخريف الجنوبي.

3

عند النظر إلى العتبات الأولية لرواية الحرب؛ يظن القارئ أن الرواية ستكون عن حرب ظفار، وعن الجبهة الشعبية لتحرير عمان؛ وذلك عند النظر إلى الغلاف المتوهج بلون اللهيب والجندي المدجج بالبندقية والبزة العسكرية الظفارية، ومشيته العسكرية الصارمة الشامخة، والختم الممهور للجبهة على وجه الغلاف وظهره، والعنوان الموسوم بـ (الحرب)، والإهداء إلى المناضل البحريني الذي شارك في حرب ظفار كمصلح زراعي، والذي سيكتشف القارئ بأن شخصية (سعيد علي) أبو كريستينا تتشابه نوعاً ما مع شخصيته كمصلح زراعي أيضاً، (فاقترح على القيادة، إذا أرادت أن تستعد جيداً لرحلة ما بعد انتصار الثورة، أن يبتعث سعيد علي لدراسة الزراعة في الخارج ص196). ولا ننسى عتبة التصدير للرواية وهي (الحرب قدرنا المؤجل) والعبارة قريبة من لغة الشاعر الفلسطيني محمود درويش الشعرية. لكن سيتفاجأ القارئ، أن الرواية جاوزت كل هذه العتبات، وراحت تروي قصة عشق سعيد قيصر، الشخصية المحورية/ البطل؛ للبطلة/ كريستينا سعيد علي/ الشخصية الرئيسة في الرواية أيضا، الأولى أو الثانية أو الثالثة؛ لأن هناك شخصية أخرى محورية ومهمة، وهي شخصية/ عيسى صالح.

يروي لنا الراوي العليم وغير العليم عشقاً وولهاً وحباً جنونياً وشهوانياً لـ عيسى صالح، وسعيد قيصر للأستاذة الجامعية المحاضرة في إحدى الجامعات الأمريكية كريستينا سعيد علي، ابنة المناضل الثوري السابق سعيد علي.

كما سيلاحظ القارئ أن هذا الحب غير المبرر إلا جسدياً وشهوانياً، عبر أجزاء من جسد كريستينا/ شفتيها/ ساقيها.. فمثلا يقول عيسى صالح ناجم (.. أو كمنت له تحت الغطاء القطني الأبيض الوثير فوق السرير، وقد تعطرت بخليطها الزهري المثير، وارتدت قميص نومها الذي تخيله قصيراً وناعماً ويشف عن جسدها، لتصعقه وتهز كيانه، وتجعل من الحب هذه الليلة عاصفة مدارية لا يهدأ قصفها.. ص14)، ونستمع الآن للراوي العليم وهو يصف نظرات ومشاعر سعيد قيصر تجاه كريستينا (.. ولاحظ، كأنه يرى شفتيها لأول مرة، خطاً مرسوماً بالبني الشفيف على قوس التماس بين نصفي المشمشة المصبوغين بالأحمر، وعندما وجد خياله يجمح بعيداً.. ص122)

4

المنطوق الروائي محشور/ محشو، ومكتنز بـ (الأبستمولوجيا) وممكن أن نسميها بالرواية الأبستمولوجية؛ معلومات ونظريات وحجج. وأيديولوجيات كثيرة، أخذت حيزاً ضخماً من السردية الروائية، وأثقلت وشلت حركتها الانسيابية، وهي من المعيقات الخبرية/ الإنشائية في السرد الروائي، كروايات الكاتب الفرنسي (جيلبرت سينويه).

هناك كتل من المعلومات والنظريات عن المناطق والحروب والشخصيات والشوارع في رواية الحرب أثقلت وحجمت من جسد الرواية. وفي كثير من الأحايين السردية كانت مقحمة في النص وغير مبررة. (زعيم جماعة شعراء الإيقاع في أمريكا، من لا يعرف آلانغينسبرغ؟ ص١١٣) كما المقال عن قصة نجاح أخوين وطأت أقدامهما جزيرة أليس في خريف 1930...ص 122- 124)، كما أن النقاش والحوار المطول حول رحلة الأميرة سالمة، كان كلاماً زائداً عن حاجة السرد الروائي، حيث بدأ من ص129 حتى 139، وإذا تجاوز القارئ تلك الصفحات المستطردة، فما انتقص من المتن الروائي شيء.

5

رواية الحرب، حاولت أن تنحو إلى تعدد الأصوات السردية/ الروائية في حكي القصة، لكن سيجد القارئ أن هذه التقنية، ما عادت هي التي تصنف الرواية بأنها خارجة عن ثوب التقليدية، وأن الرواية ترتدي ثوب ما بعد الحداثة في زمن الرواية المعاصرة. أحدثت هذه التقنية تجزئة الرواية وتقسيمها إلى أجزاء متفرقة. يصعب على القارئ، جمعها مرة أخرى، كما أنها أظهرت المتن الروائي كمجموعة قصص قصيرة قائمة بذاتها. وفي كثير من الأحايين لا علاقة لها بالرواية والحدث الأم، والتي من أجلها وضعت تلك العتبات الأولية في مدخل الرواية من الغلاف للغلاف.. كما يلاحظ القارئ أن كل فصل أو وحدة في الفصل الواحد في الرواية لا علاقة تجمعها في وحدة الحدث؛ لأن كل فصل يسرد أقوالاً وموضوعاً مختلفاً عن الفصل الذي سبقه، ولا أقصد هنا التسلسل الزمني أو الحكائي، ولكن الموضوعي، وربما أقول غياب وحدة الموضوع في المتن الروائي بشكل واضح.

6

يقول المفكر اللبناني في كتابه المعنون بـ (أوهام النخبة/ أو نقد المثقف/ طبعة 2004): عن وهم النخبة، وهي من ضمن الأوهام الخمسة التي وجدها في المثقف العربي «أعني بهذا الوهم سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصياً على الحرية والثورة، أو رسولاً للحقيقة والهداية، أو قائداً للمجتمع والأمة. ولا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه المهمة الرسولية الطليعية قد ترجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وإحباطاً مميتاً، فالمثقفون حيث سعوا إلى تغيير الواقع، من خلال مقولاتهم، فوجئوا دوماً بما لا يتوقع، لقد طالوا بالوحدة، فإذا بالواقع ينتج مزيداً من التفرقة، وناضلوا من أجل الحرية، فإذا بالحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة، فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل».

يجد القارئ أن هذه النخبوية في لغة الخطاب الروائي لرواية الحرب، فعند تفكيك الخطاب الروائي، نلاحظ نحن القراء أن المروي له، لابد يكون عليماً ومثقفاً بأنواع الخمور والملابس الرجالية والنسائية. ولا بد عالما باللهجة الشامية البيروتية. وهي اللهجة الوحيدة العامية في الرواية بمقدار نصف صفحة، وفي المقابل، اللهجة العمانية الظفارية غابت عن الخطاب الروائي. وكما قلت سلفاً أن غلاف الرواية عليه ختم (الجبهة الشعبية...) إلا أن اللغة الشعبية والخطاب الشعبي لم يرد في الرواية وشخصياتها ولغة الشخصيات اليومية. حيث يجد القارئ بأن لغة الخطاب والخطاب ذاته يتكلم بمنطوق نخبوي كبير.

حتى المدن الأوروبية والأمريكية وطرقها ومطاعمها...، تروى بخطاب نخبوي، بعيداً عن شعبية وبساطة وفقر أعضاء وأفراد الجبهة الشعبية. كل شخصيات الرواية أناس أثرياء، يشربون أغلى الخمور، ويلبسون أفخم الملابس، ويركبون أحدث الموديلات من السيارات. ويعيشون في فلل فخمة. ولكلابهم أسماء مثل الأجانب البريطانيين، ويعيشون في مدن أمريكية راقية. وهذه الشخصيات المنعمة، تذكرني بشخصيات روايات الكاتب العماني القدير سعود المظفر، مثل رواية (رمال وجليد) و(رجال من جبال الحجر). لا يشعر القارئ بأجواء بساطة أفراد الجبهة الشعبية.

7

يلاحظ القارئ بأن رواية الحرب، رواية أقوال لا أفعال. فالرواية قائمة على سرد أحداث وقعت في الماضي المعاصر، أحداث حرب ظفار والجبهة. كما يرويها سعيد علي في مذكرات كتبها لابنته كريستينا (سيرة غير مكتملة لمحارب لا يزال يحلم بالنصر.. ابنتي كريستينا.. أكتب إليك كيفما اتفق للذاكرة ص١١٩٣) وأيضا ما يرويه سعيد علي لـ (عيسى صالح) عن والده المناضل/ صالح ناجم؛ وحين يروي العم (سعيد علي) لـ (عيسى صالح) عن أبيه صالح ناجم. وكان عمر عيسى صالح حينها ١٨ سنة. وسيجد القارئ، أن ما يرويه سعيد علي لهذا الطفل (عيسى صالح) غير مقنع؛ لأنه يكلمه عن شخصيات عالمية مثل لينين وماركس والماركسية. وهي موضوعات أكبر من إدراكات وعقلية هذا الطفل. (أخذني عمي سعيد في جولات ليلية في سيارته، وحدثني عن أبي ص٣١٢)

8

يلاحظ القارئ بأن كثير من المواقف في الرواية غير مقنعة وغير مبررة. مثلاً لا يوجد أي رابط لعلاقة الصداقة بين الأصدقاء المجتمعين في فيلا عيسى صالح. فمنذ الكلمة الأولى في مفتتح الرواية حتى الخاتمة، لن يعرف القارئ سبب هذه الصداقة الحميمة بين عيسى صالح وسهيل محاد، وخليل زاهر وكريستينا، ومن ثم سعيد قيصر، سوى أنهم عمانيون فقط.

يلاحظ القارئ نشوء حب مفاجئ بين سعيد قيصر وكريستينا عند لقائمها فجأة في المؤتمر بأمريكا عن الأفلام الوثائقية أو، أيضاً، سبب عشق عيسى صالح لكريستينا.

9

الرواية مليئة بأوهام النخبة كالحرية (وفكر كم كان هامش الحرية أفضل يومها ... وسؤاله الذي لا إجابة له؛ لماذا كلما تقدم الآخرون تأخرنا، لماذا كلما انفتح الآخرون انغلقنا على أنفسنا؟» ص 113) (لكننا نعيش في مجتمع يريدنا أن نعيش كما تحب الجماعة لا كما يحب الفرد، أن نفعل ما يحب هو، من دون حتى أن نعرف من هو هذا الهو، ... ص 116)، وإقصاء الآخر وشيطنته مثل ما يقوله سعيد علي عن التنظيم المسلح المذهبي، ولغة السخرية التي تكلم بها عنهم. (إنما من رغبة التيار المحافظ، التي لا حدود ولا سقف لها، في التحكم والسيطرة، وفي فرض رؤيته على الجميع، ولو لزم ذلك استخدام القوة والعنف، مشكلة هذا التيار ليست مع الجنة، فهم واثقون أن مكانهم محجوز فيها، ولكن مع الدنيا التي يعتقدون أن الله كلفهم بهدمهما وإعادة بنائها وفق رؤيتهم الخاصة ص 291)، وفي الطرف الآخر يمجد الراوي الثورة الماركسية، وهي لغة التعالي الوهمية التي تشوب الخطاب الروائي، (عندما قامت الثورة في الجنوب والثورة في الشمال، وحملنا السلاح، كنا واضحين.. قلنا ضد الظلم والقهر، ولم نقل للنظام يا أبانا نحن أبناؤك ص297)

الطبقية في شخصيات الرواية وأنهم الفرقة الواعية المثقفة. أوهام الحداثوية، وأنهم الوحيدون أنقياء وأصفياء وأنهم المخلصون، وغيرهم دون ذلك. مثل سعيد علي وصالح ناجم وسعيد قيصر، وأوهام الخروج عن أعراف المجتمع العماني رجالاً ونساءً. ولغة الخطاب تؤكد وتساق كأنها مسلمات واقعية. وأيضاً من أوهام النخبة أمريكا تعني الحرية وبريطانيا تعني الاستعمار.

يلاحظ القارئ بأن الرواية خالية من وحدة الموضوع ووحدة البناء. لم يكن البطل سعيد قيصر مهتماً بإنتاج فيلم أكثر من اهتمامه بجسد كريستينا، يحلم بجسدها شهوانياً في الحلم واليقظة، وكذلك عيسى صالح، أكثر من اهتمامه بسيرة أبيه المناضل صالح ناجم.

10

الخيبة التي يصاب بها القارئ بعد تلك الخيبات، نهاية الرواية. النهاية هدمت الرواية وموضوعها الذي كان ثانوياً وهامشياً، أي الحرب، والجبهة الشعبية لتحرير عمان.

جاءت النهاية بأن هناك كاتب قصة كان يكتب رواية اسمها الحرب بتصدير (الحرب قدرنا المؤجل)، (... وقد أحطتها بذراعي، شاكراً الله أن خيانتي لها لم تكن سوى وهم في عقل كاتب قصص ص٣٥٩)، (.. بدلاً من الدخول إلى موقع شركات الطيران وجد نفسه ينشئ ملفاً جديداً، ويسميه «الحرب» ويكتب على الصفحة الأولى هذه العبارة على سبيل التصدير؛» الحرب قدرنا المؤجل»... وهكذا بدأت الرواية.

أرى بأن النهاية أتت باهتة، وزادت تهشيم النص الروائي، وألغت كل ما كان قبلها.

خالد عثمان كاتب وقاص عماني