عمان الثقافي

حفرٌ في حواف الأشياء

22 فبراير 2023
22 فبراير 2023

بــــــــــــــــاب

«في باب مشتاق في باب حزين

في باب مهجور أهله منسيين

هالأرض كلها بيوت، يا رب خليها مزينة بأبواب»هل للنص باب؟

وهل للباب حكاية؟

وهل للحكاية مفتاح في عين الباب؟

ما أكثر المفاتيح المفقودة في حياتنا العابرة.

*** *** ***

الباب الذي تأتي منه الريح، لا تغلقه، ولا تستريح، لا تفتحه للغرباء ولا للشهداء، بل اتبع الريح (رياحك الشخصية، حتى لو كانت عاصفة)، لا تدع رجلا كسولا، أو امرأة حقودة تحبسك في وحشة الجدران بسبب أوهامهما، المنهزمون هم من يغلقون أبواب الريح، وأبواب الكلام، فالأبواب لا تغلقها الريح بل الفقد، الموت لا يغلق باب البيت فقط، بل باب الحياة.

*** *** ***

باب الله في الأرض، وفي السماء، في النور وفي العتمة، وفي الرزق وفي السعي إليه، لا يغلق بابه، بابه يمشي ويزهر بالمحبة، باب واسع ومتسع، باب للخير وباب للشر، أبواب للخطايا وباب للدموع، باب للذاهبين إليه، وأبواب للراجعين لنوره، باب للرافعين قلوبهم بالدعاء، وأبواب للمنغمسين بالنسيان عنه.

*** *** ***

باب للنص وباب للص، باب اللص مفتوح في بلدان الخديعة/الهزيمة، باب النص مغلق، ومفتاحه مفقود، لا في يد الناقد، ولا في رقبة القارئ، ولا في شرايين اللغة. باب للحديقة وباب للسجن، باب الحديقة مفتوح في حلم الطفل، وفي فرح العاشق، وباب السجن منكسر في خيال السجين، باب للواقع، وأبواب للخيال، باب للحلم، وباب للدم. الأبواب ليست عتبات للأشياء، بل حارسة لمعانيها، مرممة لجوهرها، ساقية لجذورها، مرتلة لصلواتها.

باب المدرسة مفتوح للتأويل، باب الفصل مغلق بالتلقين والخوف، أبواب في كتب التلاميذ لا نوافذ لها، باب للنشيد الصباحي لا إيقاع يضبطه، وباب للرسم لا ألوان تفتحه، وباب للوحة الناقصة. باب الجبال محفور في أغاني الرعاة، باب الحقل مدفون في دم الفلاح، باب الصيّاد منسي في يد الفجر. باب المطار نهر من الدلالات، باب الموسيقى لا يسنده جدار بل يستند عليه العابرون والمتعبون والعشاق.

«سأترك الباب مفتوحا». بكل تأكيد لا يترك الشعراء أبوابهم مغلقة.

باب البحر يفتحه الشعراء، ويغلقه الصيادون في الفجر، باب الشاعر مكسور بسهام الإيقاع، باب الشعر منغمس في تلال التأويل، ليس في يد الشاعر. باب الحكاية المعجون بالتفاصيل معلّق في قلادة الجدات، باب اللوحة مفتاحه منسي في بحيرة اللون الرمادي، وباب الوالي مخلوع بأنياب الخديعة. باب الجنرال مغلق بالخوف، باب يركض في الشارع يبحث عن نوافذ لتكسر وحدته، نوافذ تهرب من الباب المجنون الذي يهرول في شارع الشاعر.

باب الفقر يُغنّي ليلا في أسرّة المتعبين والعائدين من المصانع والموانئ، باب الفجر ينفتح مع رائحة القهوة وخبز الأمهات، باب القرى يندس خلف روائح الحنين، باب الحكمة يقف فوقه طائر العزلة الأعمى، باب العلم مغموس في يد الجهّال، وفي مخالب الرأسمالية، باب المقبرة بلا حارس، وباب الحارس قلبه وحزنه، والموتى لا يفتحون باب الغياب في الليل، باب البلاد في يد الحرّاس والغزاة، باب الدِّين لا يُفتح ولا يُغلق، باب الكتابة بلا يدين ولا قدمين، لا يطرقه الشعراء ولا يفتحه الساردون، ويستند الناشرون على ظلاله، ويتمدد النقاد في زواياه.

الجدار حارس أعمى، الباب حارس حنون، يدع الضوء والريح وأناشيد الطير يعبرون من قلبه نحو الداخل، ولحنين العُمّال، ينصت الباب لبكاء الطفل، ولقلق الأم، ولتعب الأب العائد من جحيم الخارج، يتأمل الباب صور العائلة في الجدار، صورة العائلة تنظر بقلق إلى الباب الذي حفظ ذاكرتها وأسرارها وفرحها وحزنها، يرتعب الباب من عيون الموتى في إطار الصورة، تعاتب عيون الموتى الباب؛ لأنه لم يتبع جنازتها. ردَّ الباب بحزن على نظرات الموتى في إطار الصورة: بأنه كان يحرس أصواتهم في البيت من غبار النسيان، ويدس روائحهم في أشجار الحديقة.

باب السياسة يدخله ويصنعه «كسير وعوير»، ويطرقه المجانين. كل هذا الطرق في حواف الباب، ولم نصل إلى باب المعنى الذي كان في مخيلة السارد.

يد تفتح باب البيت

يد تقطع باب الغابة

يد تغلق باب الزنزانة

يد تفتح باب المقصلة.

*** *** ***

حدّق الباب بريبة في النافذة، رآها صامتة، لم يفتح معها باب الحديث. سأل نفسه: هل هي أكثر سعادة منّي؟ هل تفكر بي؟ ونحن جاران أبديان في دائرة البيت، ربما تطلُّ على حديقة أو شارع مزدحم أو روضة أطفال، وربما تلامس شجرة بالخارج، ربما تُحدّث العصافير التي تنام ليلا في الشجرة.

لماذا لم أُفكر بها؟ وأنا وهي نحرس الجدران والبيوت والأحلام. لماذا لم نقترب من بعض؟ لماذا تركنا الجدران تحبسنا في شرايينها؟

لم يفتح الباب دروبه، رغم أنه سمع كل هذا المديح والطرق والهتاف، فالأبواب لا تفتح قلوبها للغرباء. والغرباء لا يطرقون الأبواب المغلقة.

«بحوزتي مفتاح

لأفتح الباب وأمضي قدما.

المكان مظلم...

أمضي قدما.

المكان أشدّ ظلمة

وأمضي....»

مارك ستراند

نـــــــوافذ

ننسى النوافذ مفتوحة أحيانا، لا لشيء، إنما لننسى السجن والقبر والنهاية العتمة، أو لنجعل العتمة أقل قسوة، ونفتح النافذة لنجعل النهار يدخل البيت المهجور. وليخرج الضجر من البيت قليلا، وليطلّ الجنرال على حديقة الخراب، ولترى الأرامل عيون الشهداء في نجوم الفجر، نفتح النافذة لنسمع صوت الطفل، وهو يبني لنفسه قلاعا من طين، وشوارع من ورقة كراسة رسمه، وعندما تمرُّ رياح الزمن ستأكل قلاع أحلامه، وتطير شوارع طفولته.

نافذة تنتظر الفجر، ونافذة تشتاق للشمس لتهرب من وحشة الليل، نافذة تحنُّ إلى المطر لتغتسل من جفاف أهل البيت والمدينة، نافذة تتذكّر طفولتها في الغابة أو يد الحداد أو في أنامل النجّار. نافذة تعانق خيوط الشتاء، ونافذة تشتاق صباحات الصيف. نافذة تحن إلى أصابع المرأة العمياء.

ننسى أو نتذكر أحيانا/ كثيرا النوافذ مغلقة، لأننا لا نريد أن نرى وجه المدينة العابس، أو سواد الشارع، نغلق النوافذ خوفا من الفضاء المفتوح أو لنجعل حزننا أكثر عمقا. نغلق النوافذ لنهرب من الصوت الأول، لنندس من خوفنا الأول في الغابة.

*** *** ***

يضع الطفل وجهه في النافذة، يرى الحياة تركض في الخارج، تنظر الحياة إلى عين الطفل فترى الزمن يحمله نحو شقاوات قادمة، تضع الأم قلقها على النافذة حتى يعود أطفالها من مدارس الحياة والشقاوات، تضع العاشقة قلبها في الوردة التي تنام خارج النافذة، تضع النافذة شوق العاشقة في عتمة الليل، تضع المرأة الستينية حزنها في نظرتها إلى خارج النافذة، فترى حياة تهرب منها إلى أرواح أخرى.

النافذة صامتة عاجزة عن ملامسة أحلام الطفل، وعاجزة عن الوصول إلى رغبة العاشقة، وعاجزة عن مواساة المرأة الحزينة على زمنها الهارب. تتأمل النافذة مشاعر الإنسان، عندما يحزن يغلق قلب النافذة، وعندما يحب الصباح يفتح صدر النافذة، وعندما يغضب يصفع وجه النافذة أو يهشمه. هل فكرّ الإنسان يوما بالأشياء الصامتة القريبة منه؟ ماذا لو سجلت كل نافذة أسرار كل بيت؟ هل سيخجل كل إنسان من ذاته؟

كانت لديها رغبة في البوح عن طفولتها الأولى، عن سفرها المرتحل، عن الجدار الأول الذي سندها، عن تحولاتها وحالها. لا أحد يتذكر طفولة النوافذ، لكن النوافذ وفية لطفولاتنا، من الصرخة الأولى والنافذة تسجل ذكريات الطفل، نافذة تفصل رعب الحياة عن عين الطفل، نافذة لزمن الفضاء الممتد، وفضاء الكينونة الأولى. كل منا يتذكر نافذة طفولته، هناك من قادته النافذة الأولى إلى دهشة البحر، وهناك من سحبته النافذة الأولى إلى عزلة الجبال، وهناك من صهرته النافذة الأولى في متاهات الصحراء الأولى، وهناك من غسلته النافذة الأولى في فتنة الغابة وحفلة الظلال. ولكن من أغلق فم النافذة حتى لا تسرد لنا حكايات الأطفال الذين طلعوا من الخطوة الأولى إلى الأمكنة المفتوحة؟

*** *** ***

نافذة الكلام لا تنفتح لمخيلة السارد. النافذة مؤنثة في اللغة، لكنها لا تتشكل كينونتها إلا في جدار المعنى، نافذة لا تفتح في الفجر لا يعوّل عليها، نافذة لا يقف عليها طائر لا حياة بها، نافذة تندس خلف الستائر نافذة فاقدة لقلبها وقالبها.

نافذة يهرب منها اللص، ونافذة تتسلل منها النجوم إلى روح البيت، نافذة يراقب منها الطفل عرس الظلال على الجدار البعيد، ونافذة الشاعر ناطقة بالدلالات.

نافذة المسافر قلِقة من المسافات، وحزينة على حنين المسافر، نافذة البنك شفافة لتسرقك بوضوح. نافذة القطار تشبه سينما متحركة، نافذة الطائرة ضيقة لكيلا تهرب منها أحلام المسافرين والفقراء.

«عندما أتحدث للنافذة

أزعم أن كل شيء

على ما يرام» ***

مارك ستراند

1- أغنية لفيروز من كلمات الشاعر: جوزيف حرب.

2- إصدار للشاعر العماني خميس قلم.

3- شاعر وكاتب ومترجم أمريكي ( 1934 ـ 2014)