2336058
2336058
عمان الثقافي

الهجرة والغربة .. استعادة الأوطان بالحنين

24 مايو 2023
24 مايو 2023

تمثل الهجرة نزعة إنسانية إلى الحرية وتغيير الحال والبحث عن الذات في مكان آخر غير مكان الميلاد، تتوفر فيه ظروف اقتصادية وسياسية وثقافية مستقرة نسبيا. حين يستقر المهاجر في المكان الجديد يبحث عن أدوات تحقق له الاندماج في المجتمع. «يكون الإبداع فرصته للدخول في الحياة الجديدة وتحقيق الذات في المهجر، ونوع من رد الصاع لأسباب هجرته من الوطن وإشعارهم بأنهم خسروه»، حسبما يذكر علي عبود المحمداوي ونهاوند علي محمد، في دراستهما (الأبعاد الفلسفية للهجرة: دراسة في جدل الغربة والحنين والإبداع) المنشورة في مجلة بحوث الشرق الأوسط (عدد67.سبتمبر2021). وفي موضع آخر من الدراسة يذكر الباحثان «أن الهجرة يرافقها الحنين، الحنين الدائم إلى يوتوبيا وطن، والهجرة تأتي بعنوان الهروب من غربة متحققة في الوطن، بالنسبة للمهاجر، لكنها في الوقت نفسه هجرة نحو غربة من نوع آخر خارج الوطن».

تختلف الهجرة حسب دوافعها وأسبابها الاختيارية والقصرية، وفي كلتا الحالتين فإنها عملية مضنية تلزم المهاجر بتحمل تبعات الغربة وآثارها في مكان يفرض شروطه على الوافد القادم، الذي يبدأ بتلمس معالم الطريق إلى الغاية المرجوة في البلد الجديد. وإذا طالعنا سير الكتاب والأدباء المشهورين، نجد جلهم مهاجرين من مكان سكناهم إلى بلدان أخرى نابضة بالحياة والنشاط. فمثلا هاجر الكاتب الألماني توماس مان (1875-1955) إلى السويد ثم الولايات المتحدة، هربا من النازيين. وكان قد فاز بجائزة نوبل للآداب سنة 1929. ومثله فعل مواطنه هيرمان هيسه (1877-1962) الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1946. حين هاجر إلى إيطاليا ثم سريلانكا وإندونيسيا وبورما. نتج عن الهجرة تأليفه روايات قصيرة مثل سد هيرتا سنة 1922، ورحلة إلى الشرق سنة 1932. وكذلك الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) الذي هاجر إلى سويسرا ثم أقام في إسبانيا. أيضا هاجر الكاتب والناقد الأمريكي إدغار آلان بو (1809-1849) إلى بريطانيا لعدة سنوات، ثم عاد إلى موطنه.

باريس موطن الإبداع المهاجر:

شكلت باريس مقصدًا للكتاب والأدباء، إذ ارتبط اسمها دوما بالثقافة والحرية والفن والإبداع. وقد جذبت الأجواء الباريسية، العديد من الكتاب والأدباء والرسامين والموسيقيين، والممثلين والفنانين، من مختلف بلدان العالم، وفضلوا العيش فيها، وكتب بعضهم أعمالهم باللغة الفرنسية. وفيها أقام أدباء أنجلو- ساكسون في القرن العشرين

أمثال الكاتب الأمريكي هنري ميلر (1891-1980) الذي عاش حياة ماجنة وصاخبة في الثلاثينيات، في حي كليشي بالقرب من باريس. ومواطنه إرنست هيمنجواي (1899-1961)، وكذلك ويليم فوكنر (1897-1962). أيضا هاجرت الروائية الأمريكية أديث وارتون (1862-1937) إلى باريس عام 1906م، وفيها توفيت. مثلها مثل مواطنتها الرسامة (ماري كاسات) التي أمضت حياتها في فرنسا. وأقام في باريس أيضًا الكاتبان الأيرلنديين صمويل بيكيت (1906-1989) وجيمس جويس (1882-1941) الذي طبع كتبه في باريس. كما فعل الكاتب الأمريكي ذو الأصل الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، ونجح في طبع عمله الإبداعي «لوليتا» بمساعدة ناشر فرنسي. هاجر إلى باريس مشاهير الفنانين الإسبان هربا من الأنظمة الاستبدادية السائدة في إسبانيا. فقد أقام في فرنسا بابلو بيكاسو (1881-1973) وفيها توفي. كذلك سلفادور دالي (1904-1989)، ولويس بونويل (1900-1983) المتوفى في المكسيك. لحق بالرسامين الإسبان مواطنهم جورج سيمبران (1923-2011) الكاتب والروائي، الذي هاجر إلى فرنسا أيضًا أثناء الحرب الأهلية، واستقر في باريس وكان في الرابعة عشرة من عمره، حيث درس الفلسفة في السوربون. اعتقلته القوات الألمانية سنة 1943 إبان احتلالها لباريس، ونفته إلى معتقل بوخنفالد. يحكي سيمبران عن نفسه قائلا: «بعد وصولي باريس بقليل، دخلت فرنًا لشراء كرواسان -خبز بالحلويات يتناول في الفطور-، ولكن لغتي الضعيفة ولهجتي الإسبانية الواضحة، جعلا كلامي غير مفهوم، ونعتتني صاحبة المخبز بأنني إسباني أنتمي إلى الجيش المنهزم!، إنني أجهل إذا كانت تعرف أن هذا البيت من الشعر مأخوذ من رائعة فيكتور هوجو(أسطورة الدهور) ولكنني على أية حال كنت مجروحا، وخرجت مسرعا من المحل لأختبئ في سينما كان يعرض بها فيلم لأرليتي، وهناك اتخذت القرار بأن أتعلم الفرنسية بمستوى لغتي الأم، وفي 1963م، أصدرت كتاب الرحلة الكبرى، وأحكي فيه قصتي في المنفى وكان أول كتاب لي بالفرنسية». (بتصرف من مجلة الدبلوماسية الفرنسية، 2004).

يكتب الروائي التشيكي المولد، الفرنسي الجنسية ميلان كونديرا (1929) عن الهجرة بألم وأنين. تعد روايته (الجهل) ترجمة (رفعت عطفة، ورد للطباعة 2000)، من أهم الأعمال المكتوبة عن الهجرة والحنين». يبدو الحنين كأنه مكابدة الجهل. أنت بعيد ولا أعرف كيف أصبحت. بلدي بعيد ولا أعرف ما يحدث فيه» (ص7). في الرواية ذاتها يكتب كونديرا، عن الموسيقار النمساوي أرنولد شونبرج (1874-1951) الفار إلى الولايات المتحدة خوفا من بطش النازيين «في عام 1950 حين كان قد مضى على أرنولد شونبرج أربعة عشر عاما وهو يعيش في الولايات المتحدة، صاغ له صحفي أمريكي شمالي أسئلة ساذجة بنية سيئة: هل صحيح أن الهجرة تُضعف القوة الخلاقة عند الفنانين، وأن إلهامه ينفد ما أن تتوقف جذور بلده الأصلي عن تغذيته». (ص9).

هاجر معظم كتاب أمريكا الجنوبية إلى فرنسا في الستينيات من القرن العشرين، وأقاموا فيها ومنها انطلقوا نحو الشهرة والعالمية، أمثال الروائي والدبلوماسي المكسيكي كارلوس فوينتس (1928-2012). كذلك الكاتب والروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز (1927-2014) الحائز على جائزة نوبل في الآداب سنة 1982، الذي يقول في مذكراته واصفا دراسته في المعهد الوطني: «أما معلم اللغة الفرنسية فوجدني مسمما بالروايات البوليسية، وكانت دروسه تضجرني كما هي دروس الآخرين، ولكن اقتباساته المناسبة من فرنسية الشوارع، ساعدتني كثيرا في النجاة من الموت جوعا في باريس بعد عشر سنوات من ذلك». (بتصرف من مجلة الدبلوماسية الفرنسية، 2004).

أما الكاتب البيروفي الفريدو برايسي إتشينيكي (1939) صاحب رواية (عالم لجوليوس) فقد أمضى حياته في باريس أيضا، وقال: «إنه لم يصبح كاتبًا إلا في باريس. لقد ورثت مكتبة جدي عند وفاته، وكان بها كل مؤلفات ماترلينيك، وكل ما كتب هوجو، ثم قرأت سارتر وكامو، وفضلت الثاني خلافًا لزميلي الروائي فارجاس يوسا، الذي يبجل معنى الالتزام عند سارتر». ماريو بارجاس يوسا (1936) الحائز على نوبل للآداب سنة 2010 عاش في باريس أيضا، قبل انتقاله إلى مدريد.

هذه نماذج من الأعمال العالمية السردية والفنية التي هاجرت مع أصحابها من وطنها الأم، ووجدت حاضنة استوعبت إبداعاتهم وجنونهم أيضا. وكأن الإبداع لا يكتب له النجاح إلا في بلاد الغربة، أو أن النجاح والشهرة مقترنة بالهجرة والاغتراب.

أدب الهجرة العربية:

عربيًا لا يمكن الحديث عن الهجرة والأدب دون المرور على أدباء المهجر. إذ بدأت هجرة العرب إلى الأمريكيتين، في منتصف القرن التاسع عشر، وكان معظمهم ينحدر من بلاد الشام، التي كانت آنذاك تحت الحكم العثماني الذي فرض ضرائب وأتاوات على الإمارات العربية التي كانت تحت سيطرته، الأمر الذي دفع بالكثير من الشباب إلى الهجرة والبحث عن أماكن توفر حياة أفضل. كانت الرحلات العربية الأولى تشد رحالها إلى أمريكا الشمالية وبالتحديد إلى الولايات المتحدة والمكسيك، وتقول المصادر: «إن أول الهجرة العربية نحو العالم الجديد كانت قد بدأت سنـة 1860». ( سيلفيا مونتينيجرو في كتابها «الجاليات العربية في الأرجنتين/ مركز دراسات الوحدة العربية).

اهتم العرب في الولايات المتحدة بالأدب والكتابة واشتغلوا في الصحافة، وهناك صدرت أول الصحف العربية (كوكب أمريكا) سنة 1892م، للأخوين إبراهيم ونجيب عربيلي، وإلى جانب الصحف والمجلات تأسست الرابطات الأدبية التي عوضت غياب المدارس العربية التي لم تشهد أي بروز، مثل (الرابطة القلمية) التي أسسها عملاقة الأدب المهجري «جبران خليل جبران، وعبد المسيح حداد، وندرة حداد، وإلياس عطا الله، ووليم كاتسفليس، ونسيب عريضة، ورشيد أيوب، وميخائيل نعيمة وأنظم إليهم فيما بعد إيليا أبو ماضي، ووديع باحـوط». مثلما يذكر (أحمد أبو ملحم ومحمد فرشوخ، دراسات في أدب النهضة والمهجر).

ظلت الرابطة تزهر لمدة إحدى عشر عامًا إلى أن أخذ الموت مؤسسيها واحدا تلو الآخر، فتوقفت بعد أن أثرت المكتبة العربية بأروع نصوص الأدب، وأعذب الأشعار التي مجدت الإنسان والحريـة.

كانت حرية التعبير وحداثة المدن الأمريكية تغري العديد من الكتاب الباحثين عن حرية التعبير والرأي، ومن هؤلاء فرح أنطون (1874-1922) الذي التحق بأدباء المهجر، ورحل إلى الولايات المتحدة سنة 1903 «بعد أن سُد أمامه أفق الحرية بسبب غضب الرأي العام في مصر، من مقاله عن فلسفة ابن رشد في مجلة «الجامـعة» (ميشيل جحا، فرح أنطون، سلسلة الأعمال المجهولة، منشورات رياض الريس للكتب).

في أوائل الهجرة أمَّ أغلب المهاجرين الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب عديدة، أهمها حملات الدعاية التي قامت بها المؤسسات الثقافية الأمريكية وغيرها في الشرق الأوسط، ولم تمض عشر سنوات على بدء الهجرة حتى تحوّل المهاجر العربي إلى أمريكا اللاتينية لأسباب جوهرية منها» التشابه القريب في العادات والطباع بين الإنسان العربي واللاتيني، مما دفع أكثر المهاجرين العرب إلى اللجوء والبقاء في أمريكا اللاتينـية». (شاكر حارس، تاريخ الهجرة العربية في أمريكا، موقع إلكتروني).

واصلت أعداد المهاجرين العرب بالتوافد على الأمريكيتين ولكن تغير اتجاه الهجرة نحو الجنوب صوب أمريكا اللاتينية «فقد سُجلت أول هجرة عربية إلى أمريكا اللاتينية سنة 1874 حينما وصلت شقيقتان من آل زخريا إلى البرازيل» (دراسات في أدب النهضة والمهجر، مرجع سابق). أسس العرب في أمريكا اللاتينية رابطة (العصبة الجديدة)، التي كان مقرها البرازيل وبدأ نشاطها بعدما توقفت (الرابطة القلمية) في الولايات المتحدة، وانضم العديد من الكتاب والأدباء إلى (العصبة الجديدة)، التي شهدت تذبذبا في صدورها، ورغم محاولة بعض مثقفي الجالية التعريف بالحضارة العربية، إلا أن محاولاتهم لم تصل إلى الجمهور الواسع من سكان أمريكا اللاتينية لأن معظم تلك الكتابات كانت باللغة العربية والناس هناك لا يعرفون اللغة العربية. لا تزال بلاد الغربة تغري الكتاب بالإقامة والحرية والإبداع، نظرًا لوجود مراكز للأنشطة الثقافية، أو قاعدة جماهيرية تتلقى ما يكتبه المؤلف بشغف، من هؤلاء الكتاب السوري الألماني رفيق شامي (1946) المولود في دمشق لأسرة آرامية سريانية، واسمه الحقيقي سهيل فاضل، والذي يكتب وينشر باللغة الألمانية. وفي فرنسا يعيش الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف (1949) الذي يقول في كتابه الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون «كلما انطبعتم بثقافة البلد المضيف، استطعتم طبعه بثقافتكم، وكلما احترم المهاجر ثقافته الأصلية، انفتح على ثقافة البلد المضيف».

محمد الشحري كاتب وروائي عماني