No Image
عمان الثقافي

المعرفة والفلسفة: تشاؤمُ الوضوح وتفاؤلُ الإرادة

25 يناير 2023
25 يناير 2023

تتعدَّد الفلسفة في علاقتها مع المعرفة بتعدُّد توجُّهات هذه الأخيرة ونظرياتها ومجتمعاتها التي أنتجتها، وهي معرفة صنعتها أيضًا الأساطير والأديان ومختلف أنواع الإنتاج الأدبي والعلمي والتِّقني. وفي ظلِّ هذا التَّراكم، سأركِّز في هذا المقال الوجيز على المعرفة البيئيَّة في علاقتها مع فلسفة الطَّبيعة، باعتبار أنَّ المعرفة بالبيئة صارت أكثر المواضيع نيلاً للاهتمام العلمي بعد الجائحة وانتشار الفقر.

عندما اضطُرَّ الإنسان للاختفاء عن العالم خلال جائحة كورونا، صارت الطَّبيعة أكبر وأوحش، والحيوانات بما في ذلك الأكثر بريَّةً راحت هي الأخرى تغزو شوارع المدن الأكثر صناعيَّةً في العالم، أمَّا الإنسان، فَقَدْ فَقَدَ عظمتهُ، بل بدأ شيءٌ في واقع معرفته بالعالم يتغيَّر بتغيُّر ملامح الطَّبيعة نفسها. لقد أدرك أنَّ الطَّبيعة بدأت تدفنه شيئًا فشيئًا في بيته، بعدما كان قديما جزءًا منها قبل أن ينساها. وتبيَّن في الأخير أنَّ الإنسان منقسمٌ إلى قسمين: قسم يتعامل مع الطَّبيعة انطلاقًا من تصوِّره حولها، وقسمٌ آخر يتعامل معها انطلاقًا منها. فكيف تعيد الفلسفةُ النَّظر مجدَّدًا إلى هذه المعرفة الإنسانية في ظلِّ هذا الاندثار البطيء للطَّبيعة وللإنسان أمامها؟

للإجابة على هذا السُّؤال، سنعود أدراجنا في فهم فلسفة الطَّبيعة إلى منجز فيليب ديسكولا العلمي، الذي انتهى في شكلِ كتابٍ ضمَّ أفكاره التِّي طرحها على طاولة النِّقاش أمام المهتمِّين بالأنثروبولوجيا فلاسفة واجتماعيِّين، وَنَشَرَهُ لأوَّل مرَّة عام 2005، بعنوان «ما وراء الطَّبيعة والثَّقافة».

وجديرٌ بالذِّكر، أنَّه، لأهميَّة هذا المجال، وللتَّرجمة التي آل إليها عربيًّا بفضل جهود الباحث الدُّكتور عزّ الدّين الخطَّابي الرِّيفي، فقد حظي هذا الكتاب المنشور من قِبل هيئة البحرين للثَّقافة والآثار بجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز للتَّرجمة العام الفارط (2022).

وُلد فيليـﭗ ديسكولا عام 1949 بباريس، واختصَّ في الفلسفة بالمدرسة العليا لسانت كلاود، ثمَّ قام بإنجاز أطروحة دكتوراه في الإثنولوجيا تحت إشراف كلود ليفي ستراوس. أصبح عام 1987 محاضرًا بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، ثم مديرًا لمركز الدراسات بالمدرسة نفسها عام 1989. ثم ما لبث أن عُيِّنَ عام 2001 مديرًا لمختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية الذي أسَّسه كلود ليفي ستراوس سنة 1960، كما تمَّ تعيينهُ شهر يونيو 2000 مديرا على كرسيّ «أنثروبولوجيا الطَّبيعة» بكوليج دو فرانس، وقد شغل هذا الكرسي حتى عام 2019.

ولقد عاش فيليب ديسكولا في عملِهِ الميدانيٍّ لغرض إنجاز بحثه في تواصل مستمرٍّ لأكثر من ثلاثين عاما مع قبائل جيفارو أشوار الإكوادوريَّة، الواقعة على الحدود بين الإكوادور والـﭙـيرو بمنطقة الأمازون بأمريكا الجنوبية. واستوحى من خلال بحثه الميداني وتجربته الإثنوغرافيَّة موضوعَ أطروحته الذي يحمل عنوان الطَّبيعة المحلِّيَّة والرَّمزية: دراسة ميدانية لبيئة الأشوار، حاول من خلالها تقديم تحليل لطريقة تحديد البشر لكائنات الطَّبيعة وعلاقات هؤلاء معها وهو تحليل مقارن وعميق لأنماط التَّهيئة الاجتماعية في إطار العلاقة التي تحكم ثنائية الطَّبيعة بالثَّقافة والعكس.

ويمكن أن نستقرئ الملامح الجديدة في هذه الدِّراسة التي تمثِّل خروج الباحث عن النَّمطية الغربيَّة الحديثة القارئة للعالم وفق خصائصها الأنثروبولوجيَّة، حيث قامت بتصنيف الكائنات في شكلها العامّ مقسِّمةً إيَّاها وفقًا لخضوعها لقوانين المادَّة أو لتقلُّبات الأعراف، لكنَّ هذه الأنثروبولوجيا لم تعتمد مقاييس جوهريَّة أخرى كالتَّنوع الثَّقافي والمعرفي النَّاتج عن التَّنوع الطبيعي للمحيط.

وبتركيزه على منطقة الأمازون، حظي الباحث بالنَّظر في تلك العلاقة التي تربط الهنود بالغابة، وهي علاقة مختلفة جدًّا عمَّا يعرفه الإنسان الحديث، فهؤلاء لا يملكون وجودًا اجتماعيًّا، وليس لديهم لا دين ولا معبد ولا بلدة ولا حتَّى قرية في بعض الأحيان. إنَّ وضعيتهم تعبِّر حقًّا عن كونهم في تأقلمهم مع الطَّبيعة، يصبحون امتدادًا لها، لقد قاموا بتوسيع حدود المجتمع خارج عالم البشر.

إنَّهم يقومون كلَّ فجر، بعد أن يجتمعوا حول النَّار، بمناقشة أحلام اللَّيل لتقرير ما يجب القيام به في النَّهار. في هذه الأحلام، تقدِّم الطَّبيعة نفسها في شكل بشري للحالم لتخبره بمعلومات، تبعث إليه رسائل أو تبثَّ له شكوى.

ويذكر الباحث قصَّة مثيرة للانتباه في هذا السِّياق، فلقد رأت امرأةٌ في حلمها أنَّ شابَّةً أتت لزيارتها أثناء اللَّيل وهي تقول: اُنظري، لقد حاولتِ تسميمي، فتقول المرأة: لماذا وكيف؟ فتجيب: لقد زرعتِنِي بالقرب من نبتةٍ سامَّة. كانت تتحدَّث هذه الشَّابة عن نبات البارباسكو (barbasco) الذي يستخدم في المنطقة لتعديل التَّوتر السَّطحي للماء. ليس لهذا النَّبات تأثيرٌ على النَّهر في المدى الطَّويل ولكنَّه يخنق الأسماك، وهو أيضًا نبات يُستخدم للانتحار. تردف المرأة مخاطبةً الباحث بعد حديثها عن الرُّؤيا: إنَّ النَّباتات والحيوانات تعتبر نفسها بشرًا، وعندما تأتي للتَّحدث إلينا، فإنَّها تتبنَّى شكلا بشريًا للتَّواصل معنا.

بالتَّأكيد، لقد انتابَ المرأةَ نوعٌ من الأسى بعدما غرست نبات الكسافا (البفرة) بالقرب من البارباسكو.

تدفعنا هذه القصَّة حتمًا إلى طرح سؤالٍ جوهريٍّ: هل للطَّبيعة عقل؟

في الواقع، لا يوجد عند شعوب الأمازون مفهوم تجريديّ للطَّبيعة، فهي ليست نظريَّة، ولا تملك حتَّى مفردة توجَدُ بها، عندما يتحدَّثون عن الطَّبيعة، فهم يذكرون الأشجار والأنهار والذِّئاب والقردة وغيرها من الحيوانات، إنَّهم بعيدون تمامًا عن إدراك الطَّبيعة بكونها نوعًا من التَّجريد. لا يقتصر الأمر على قبائل الأمازون، فكثيرٌ من الحضارات غير الأوروبية لا نعثر في لغتها على ما يفيد مصطلح الطَّبيعة، بما في ذلك الحضارات اليابانية والصِّينية والعربيَّة.

وخلافًا لذلك، فإنَّ الطَّبيعة التي صنعتها المفاهيم التي تراكمت جرَّاء ما قدَّمته الفلسفاتُ اليونانية وما قبلها والدِّياناتُ أيضًا هي في الواقع أداةٌ لقياس المسافة بين البشر وغير البشر فقط، اخترعها الغرب، في ظلِّ الثَّورة العلميَّة الحديثة، لتحديد كيفيَّة فهمها لتكون نظامًا للموارد والطَّاقات، ومجالًا لاستكشافها في مَهَمَّةٍ لفهم القوانين. ولذلك، أوضح هايدجر أن الطَّبيعة هي نوع من الصُّندوق الفارغ الذي يسمح بإعطاء أهمية لجميع المفاهيم التي سيقف الإنسان ليقابلها على الضِّفة الأخرى منها؛ كالإنسان-الحيوان، الامتلاء-الفراغ، المدنية-التَّوحُّش. لقد صاغ العالم الغربي هذه المسافة انطلاقًا من الكوجيتو الدِّيكارتي خلال القرن السَّابع عشر خصوصًا: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود». بعبارةٍ أخرى، أنا قادر على إدراك نفسي ككائن مفكر، ولهذا فأنا لستُ مختلفًا تمامًا عن الآخرين من غير البشر فحسب، بل إنَّني الوحيد الموجود بينهم في هذا العالم.

بالنِّسبة لقبائل الأشوار الأمازونيَّة، فإنَّ هذه الثُّنائيات غير موجودة، والتَّعارض الذي ينشأ بين «البريَّة والبيت» ليس له معنى أكثر من التَّعارض بين «الطَّبيعة والمجتمع». فالنَّباتات لها أرواح أيضًا، والغابة ليست براري متوحِّشة كما يراها الإنسان الحديث، إنَّها مكانٌ لحدوث الائتلاف الوجودي بين الأجزاء، فهي بالأحرى مزرعة كبيرة يعمل فيها غيرُ البشر.

وإذا كانت قبائل الأشوار الأمازونيَّة تتكلَّم مع الحيوانات عبر الأحلام، وتعيش معها دون أن تنظر إليها من منطلق كونها غير بشريَّة، فإنَّ الحيوانات في الثَّقافة العربيَّة يمكنها أن تتواصل أيضًا مع الإنسان من طرقٍ مختلفة كالهتاف. والهتاف كانت تنسبه العرب لمن يُسمعُ صوتُه ولا يُرى، والمقصود به هو الجنّ. لنلاحظ تلك القصَّة العجيبة التي أمر هارون الرّشيد بتدوينها، وذكرها الميداني في كتاب الأمثال: إنَّ عبيد بن الأبرص سافر في ركبٍ من بني أسد، فبينما هم يسيرون إذا هم بشجاعٍ، (وهو الثُّعبان)، يتمعَّك على الرَّمضاء فاتحًا فاهُ من العطش. [فقال له بعض أصحابه: دونك الشُّجاع يا عبيد فاقتله! قال عبيد: هو إلى غير القتل أحوج، فأخذ إدواةً من ماءٍ]، فنزل فَسَقَاهُ، فلمَّا اِنْتعش، اِنْساب في الرَّمل. فلمَّا كان في اللَّيل ونام القوم، ندَّت رواحلهم وتفرَّقت، فلم يُرَ لها أثرٌ، فقام كلُّ واحد يطلب راحلته، فتفرَّقوا. فبينما عبيدٌ كذلك، وقد أيقن بالهلكة والموت، إذ هو بهاتف يقول له:

يا صاحبَ البكرِ المُضَلِّ مَرْكَبُهْ

دونَكَ هذا البكرَ مِنَّا فاركبُهْ

ما دونَه من ذي الرّشادِ تَصحَبُه

وبكْرُكَ الآخرُ أَيضا تجنُبُه

حتى إذا اللّيلُ تَجَلّى غَيهَبُه

فَحُطَّ عَنْهُ رَحلَهُ وسَيّبُه

إذا بَدَا الصّبحُ ولاحَ كَوكَبُه

وقد حمدتَ عنهُ ذاكَ مَصحبُه

- ويقال إنَّ عبيد لمَّا ركب البكر الذي أعطاه إيَّاه الهاتف، ووصل إلى أهله سالمًا، أطلق سراح بكره، وقال:

يا صاحبَ البكرِ قَدْ أُنقِذْتَ من بَلَدٍ

يَحارُ في حافَتَيها المُدلِجُ الهادِي

هَلاَّ أَبَنْتَ لَنا بالحَقّ نَعرفُهُ،

مَن ذا الذي جادَ بالمَعروفِ في الوادي

ارجِعْ حميدا، فقَد أبلَغتَ مَأْمَنَنا

بُوْرِكتَ من ذي سَنامٍ رائحٍ غادي

- فرد عليه صاحبُ البكر قائلًا:

أنا الشُّجَاعُ الذي ألْفَيْتَنِي رَمِضا

واللهُ يَكْشِفُ ضُرُّ الحائِرِ الصَّادي

فَجُدْتَ بالمَاءِ لمَّا ضَنَّ حَامِلُهُ

تَكَرُّمًا مِنْكَ لَمْ تَمْنُنْ بإنْكَادِ

الخَيْرُ يَبْقَى وإنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ

والشَّرُّ أخْبَثُ ما أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ

هَذا جَزَاؤُكَ مِنِّي لا أمُنُّ بِهِ

فَاذْهَبْ حَمِيدًا رَعَاكَ الخَالِقُ الهَادِي

في الواقع، إنَّ عبارة هارون الرَّشيد عندما يقول بعد سماعه هذه القصَّة: «لا يضيع المعروف أين وُضع» مثيرة للانتباه، إذ إنَّه يرى ما قام به عبيد، مع جزء من أجزاء الطبيعة، هو تعامل لا يقتضي أن يكون إلَّا بين البشر، ولكنَّ قصَّة عبيد، أثبتت أنَّ التَّعامل الإنساني قد نقل الكائن -تحت تأثير المعروف- من حالته الحيوانيَّة غير البشريَّة إلى حالته الشبه بشريِّة وهي التَّجنُّن، أي تحوُّل الحيوان إلى جنّ، وهو ارتفاعٌ بالحيوان لدخول منطقة شبه إنسانيَّة.

وإذا كانت هذه القصَّة تعنينا بالدَّرجة الأولى لسماحها لنا بعقد مقارنة بين مجتمعات شفهيَّة إلى حدٍّ كبيرٍ جدًّا، فإنَّها تؤكِّدُ من جهةٍ أخرى على أنَّ المسافة التي توجد بين البشر وغير البشر، بالنِّسبة للفلسفة الدِّيكارتيَّة، لا تتميز -فحسب- بأشكال مختلفة من الاستمراريَّة الماديَّة باعتبار البشر وغير البشر حيوانات، ولكن أيضًا بالانقطاع النَّوعي باعتبار البشر (الإنسان)، خلاف غير البشر (الحيوان)، يملك عقلا.

تلغي قصَّةُ عُبيد بن الأبرص هذا الانقطاع النَّوعي، مثلما تلغيه قبائل الأشوار الأمازونيَّة، وتؤكِّد على استمرارية الأجزاء الدَّاخلية للعالم والتَّواصل بينها، كتلك الحقيقة التي تسمح للإنسان باكتشاف النَّوايا لدى غير البشر (الحيوان)، ممَّا يجعل هذه الأخيرة، أخلاقيًّا ومعرفيًّا، على قدم واحدة من المساواة في التَّصنيف، بينها وبين الإنسان.

وإنَّه لمن الخطأ، أن نُغْفِلَ الجانب العقلاني عن غير البشر، وننسبُه للإنسان فقط. فكما يقول فيليـﭗ ديسكولا ذو الثَّلاثين عامًا في غابات الأمازون: أتخيل أنَّ الطَّبيعة لها عقل، فهي تتنفَّس، وتحيا، وتنمو، وتتفاعل مع ما يحيط بها، وأنَّ الغريزة الأمومية المتطوِّرة تمامًا لدى الإناث، يمكنها أن تقترب هي أيضًا من الوعي، ويقول أيضًا بشكل أكثر فصاحة: قد لا يكون واضحًا كما هو الحال عند البشر، ولكن في الطَّبيعة، عندما ترتكب الحيوانات أخطاءً فإنَّها تتعلَّم من أخطائها؛ هذا هو الوعي عينُه بالنسبة لي.

وفي الواقع، فإنَّ وجوب البحث عن ابتكارٍ لأشكالٍ بديلة لسكَّان الأرض لاستدراك الخطأ، تسمح بتنظيم العلاقات بين البشر كما تحافظ على العلاقات مع غير البشر أيضًا، وذلك لغرض إيقاف التَّدهور، والأزمات البيئيَّة المذهلة التي حدثت خلال نهاية القرن العشرين. يستخدم فيليـﭗ ديسكولا لذلك عبارة گرامشي: «تشاؤمُ الوضوح وتفاؤلُ الإرادة»؛ أي أنَّ الإنسان باستطاعته دائمًا أن ينجح في تغيير الأشياء.

يبدأ هذا التَّغيير انطلاقًا من الاعتراف بتلك الأخطاء السِّياسيَّة والاقتصاديَّة التي ارتُكِبت بدءًا من فكر ألزمَ الإنسان نفسَه بهِ لقرونٍ ثمَّ ورَّثه لغيره بحيث اعتبر نفسَهُ صاحب الطَّبيعة وسيِّدها، واعتبر الطَّبيعة من جهة أخرى موردًا لإرضاء سيادته. لقد ساهم هذا التَّفكير البرجوازي بشكل فظيع ويساهم حتَّى الآن -لاسيما من خلال الدُّول التي تعرف تقدُّمًا هائلا في البناء العمراني ذي التِّقنيَّة المتطوِّرة- في تحطيم علاقة الإنسان معرفيًّا مع الجميع، مع نفسه، ومع البشر، ومع غير البشر.

ووفقًا لفيليـﭗ ديسكولا، لا يوجد انتقال بيئيّ بدون انتقالٍ ثقافيٍّ، فإذا كنَّا قادرين أخيرًا على إحداث ثورةٍ حيويَّةٍ في علاقتنا مع الطَّبيعة، فلا بدَّ أن يسبق ذلك أوَّلا انتقالٌ ثقافيٌّ يفترض مسبقًا أن نكون على درايةٍ بقدرتنا الحقيقيَّة في إعادة التَّواصل مع الجميع، في إعادة التَّفكير في علاقتنا مع الأحياء، مع البشر وغير البشر، دون بحث عن مكانٍ نقف فيه إزاءهم موقف المُسيطر، ودون أن ينتابَنا شعورٌٍ بعقيدة الهيمنة المتدرِّجة تجاه الطَّبيعة.

وإذا حاولنا، بناءً على ما سبق، تقديم تغطية لبلدان الأطلس الإفريقي (تونس، الجزائر والمغرب)، وفي ظلِّ المفاهيم الاشتراكية التي لا تبعد عن أن تكون بدرجة التَّأثير نفسه للرَّأسماليَّة، فلقد تمَّ ترحيل سكُّان الصَّحراء من بيوتهم التي تسمَّى بالقصور (القرى الصَّحراويَّة القديمة في الجزائر مثلا) نحو عمارات تحتوي على شقق. ساهم هذا التَّرحيل الذي كان بهدف التَّحديث العمراني في انخفاض المنتوج الواحي، الفلاحي والزِّراعي، في انفصال الإنسان عن نسقه الاجتماعي العمراني، وفي تدمير جزء كبير من الهويَّة التي تكوَّنت بفضل علاقة الإنسان في بيئته الصَّحراويَّة بغير البشر، لدرجة أنَّ فراغ القصور قد أفقد الواحات طاقتها البيولوجية ممَّا أثَّر على الطُّيور التي انعدمت لديها هي الأخرى أسبابُ العيش، فهاجرت مثل البشر إلى المدن والمساحات الصِّناعيَّة.

ليس هذا فحسب، فإنَّ السِّياحة بالمغرب وتونس، قد ساهمت في القضاء على الشَّريط السَّاحلي أين ينبغي أن تعيش من المفروض الكائناتُ غير البشريَّة، وهي مساحات ساهمت بإسمنتها المسلَّح من جهة أخرى في رفع درجات الحرارة بسبب ما يصدرُ عن المكيِّفات الهوائيَّة من هواءٍ ساخنٍ جدًّا.

إنَّ النَّظر إلى الطَّبيعة كجزء خارج الإنسان بل وأحيانًا كمنافس على الفضاء هو السَّبب الرَّئيس في حدوث هذا النَّوع من الكوارث البشريَّة، ولننتبه في المقابل وبشكلٍ خاصٍّ إلى تلك التَّجارب الاجتماعية والثَّقافية المتعددة التي خاضتها شعوبٌ تطوَّرت بدون تقنيَّات وعالم صناعي معقَّد، إنَّها تفيدنا -يقول فيليـﭗ ديسكولا- بطرح خيارات أمامنا أوسع من تلك التي يمكن أن نتخيَّلها.

لا يبتعد هذا الباحث في الواقع عن طرح حلٍّ يسمِّيه بالرُّوحانيَّة، وهو اعتراف الإنسان بغير البشر: النَّبات، الحيوان، الأرواح، الجبال، الصحاري، البحار، الأنهار، ودخوله معها في علاقة تبادل دون افتراس أو عنف. ما نجده في المعرفة الصُّوفية يكاد يختصر بشكلٍ عجيب هذه العلاقة أيضًا في ما يسمِّيه ابن عربي في كتابه الفتوحات المكيَّة بأوَّلِ الإنسان وآخر الحيوان، فلقد أعطى اللَّهُ كلَّ شيءٍ خلقه، فبين الإنسان والحيوان وسطٌ وهو القرد والنَّسناس، وهو الحيوان الذي لا يقوى قوَّة الإنسان ولا يبقى عليه حكُم الحيوان، وبين الحيوان والنَّبات وسطٌ مثل النَّخلة، وبين المعدن و النَّبات وسطٌ مثل الكمأة. فهذه النَّظرة الكليَّة لغير البشر باعتبار وسائطها مع البشر يسمح بتطوير الجانب الرُّوحاني والعرفاني لفلسفة الطَّبيعة.

د. الهواري غزالي أستاذ محاضر بجامعة باريس