عمان الثقافي

الشمس المشرقة

24 مايو 2023
24 مايو 2023

دخلت «نِعَم الخبَّاز» إلى ممرات «الشمس المشـرقة» بخطوات ثقيلة ومتعبة وحذرة، كان قلبها يدق بعنف ولم تجد لذلك سببًا واضحًا فواصلت السير في الطرقات التي تعرفها، توقفت قليلًا بعد أن لمحت أمام بيتها عددًا من سيارات الشرطة وسيارات الإسعاف يحيط بها عدد من أفراد طاقم الإغاثة الذين وقفوا بانتظارها، لمحت أيضًا بعض الجيران الذين صوَّبوا نظراتهم المرتبكة باتجاهها، أدركت «نِعَم» آنذاك أنها في مواجهة كارثة، لكنها لم تستطع أن تُقدِّر حجمها أو أبعادها، فالكوارث التي تحدث في الجوار يصعُب عدُّها أو تقدير حجم ما تسفر عنه من خسائر.

حين دخلت البيت، وجدت «نِعَم الخبَّاز» بِكْرها الذي جاوز التاسعة عشرة بقليل ممدَّدًا على الأرض وجهه إلى الأسفل والطلقة التي اخترقت دماغه خرجت من الخلف واستقرت في الحائط، رأت جسده الضخم ممددًا في بركة من الدم الطازَج الذي لم يتجمَّد بعد.

منذ عدة أشهر حدثت تلك الضجة أمام منزل جارتها «سوزانا»، بعد أن قُتلت ابنتها «يولاندا» بعدة طلقات من سلاح صديقها الذي قتل نفسه أيضًا وعبرت الجثتان في سيارة الإسعاف سريعًا، ولم يكن هناك وقت ليفكر الناس كيف ماتت «يولاندا» الصبية الجميلة ابنة الثامنة عشـرة، تلك البنت التي عرفوها منذ كانت تلعب مع الصِّبْية حول تلك البيوت الخشبية المتناثرة، وراقبوا جسدها وهو يتفتح باكتمال ونضارة مثل ربَّات البهجة في الأساطير القديمة، ثم شهدوا خروجها المأساوي من الحياة.

شاهد البعض كيف بكت «سوزانا» بحُرْقة لأنها فقدت ابنتها الكبرى، ثم عادت إلى تنظيف البيوت وفتح صدرها للرجال الذين لم يتوقفوا عن خطْب وُدِّها ومواساتها في تلك المصيبة التي ألَمَّت بها، ماتت البنت الجميلة وبقيت هي في البيت نفسه، محت فقط آثار الدم عن نوافذ بيتها ثم فتحتها كأن شيئًا لم يحدث خلفها من قبل.

قبل ذلك بوقت قصير، شهدت «الشمس المشـرقة» أيضًا مقتل «أوسكار» الذي كان يعبث في ماكينة الصِّـرافة التي تجاور محطة البنزين، وتواجه الرصيف الذي يتكدس عليه عمال كثيرون كل صباح بانتظار فرصة عمل يومي.

في الحادية عشـرة مساء تقريبًا عندما كان كل شيء يبدو ساكنًا في «الشمس المشرقة»، انطلقت رصاصة ما لتستقر في رأسه، وحين خرج الجميع ليتابعوا بقية المشهد، كانت جثة الشاب «أوسكار» ملقاة أمـام ماكينة الصـرافة، ولم يستطيعوا تقدير حجم النَّزْف على السُّترة الحمراء.

كما لم يستطيعوا التأكد أن الرصاصة قد أتت من جهة سيارة الشرطة التي لمحها البعض تغادر الموقع بسرعة، أم جاءت من جهة أخرى. ليس مُهمًّا الوقوف حول التفاصيل، يسقط البشر برصاص طائش طوال الوقت في تلك التلال، يحدث ذلك داخل البيوت الخشبية الفقيرة؛ وبالتالي يرجح أن يكون انتحارا أو مشاجرة عائلية من تلك المشاجرات التي تحدث في «الشمس المشرقة»، وتؤدي إلى نتائج ينساها الناس بعد وقتٍ قصيرٍ لينشغلوا بغيرها.

تشتعل حوادث إطلاق النار كل مرة في أماكن غير متوقعة، فمنذ عدة أشهر شهدت إحدى المدارس الأوَّلية عراكا مصحوبا بإطلاق النار في غرفة مدير المدرسة أثناء اجتماع مجلس الآباء، انطلقت على إثره صافرات الإنذار وانبطح التلاميذ تحت الطاولات ترقُّبًا للإخلاء الأمني، حدث ذلك بعد مشاجرة بين عامل البناء الملون الذي تعود أصوله ربما إلى إحدى الجزر الكاريبية، والذي يتحدث بلغةٍ لم يستطع أحدٌ أن يفهمها. كان غاضبًا جدًّا وتفاقم غضبه في تلك اللحظة التي تيقن فيها من عجز المحيطين به عن فهمه. بعد نوبةٍ من الهياج، رفع سلاحه في وجه مدير المدرسة وهو يردد بشكل جنوني قبل كل جملة وبعدها: «هل تفهمني؟.. أنت لا تفهمني!».

بعد تلك الحوادث العارضة تحول إطلاق النار في الوادي إلى تراجـيديا متسلسلة ذات طبيعة موسمية كالحرائق، لا يعرف أحد كيف تبدأ أو أين تنتهي. كان آخر تلك الحوادث هو ما شهدته مدرسة «مَوِنْتن ليك» الثانوية ذات صباح، حين قرر أحد الطلاب إطلاق زَخَّة من الرَّصاص المتواصل على جدران المدرسة، أصاب خلالها الشاب نفسَهُ وقتل بعض الطلاب العابرين، بعدها أغلقت المدرسة أبوابها لعدة أسابيع ثم فتحت أبوابها بعد أن تأكد للجميع أن إطلاق النار صار جزءًا من الحياة في تلك الأرض، جزءًا من تقاليد التعبير عن الغضب والسَّأم، ذلك الغضب الذي يتفجر فجأة، ويسفر عن ذاته في شكل فاجعة لا يمكن محوها بسهولة.

«نِعَم الخبَّاز» وحدها كانت تعتقد أن إطلاق الرصاص يحدث للآخرين، يحدث لـ «يولاندا» و«أوسكار» و«سوزانا»، ولا يمكن بالطبع أن يصل إلى بيتها، لكنه وصل.

ذات مساءٍ خريفيٍّ انفجر الرصاص المكتوم، ورأت كيف تحول جسد بِكْرِها «جمال» إلى بركة دم، بعد ذلك حدث ما يتكرر حدوثه، كتب رجل الشرطة تقريرًا مختصرًا للواقعة: (إطلاق رصاص من الفم عبر الجمجمة، استقرت الرَّصاصة في الحائط، الضحية يرتدي شورت رياضيًّا أسود، عاري الصدر، تفوح من فمه آثار «الماريجوانا»، ويحمل في يده جهاز تليفون نوكيا أحمر اللون، وجارٍ إكمال البحث عن أسباب ودوافع الانتحار).

أثناء تشريح الجثة توافَد أصدقاء «أحمد الوكيل» الذين يديرون «المغسلة الإسلامية للدفن الشرعي»، وتحدث الإمام «أبو عبد القادر» عن الميت والغُسْل وصلاة الجنازة وإجراءات الدفن وموقع المقبرة. توافدت أيضًا صديقات «نِعَم الخبَّاز»، مثل «فاطيما» و«سوزانا» و«كريستال» مُتَّشحات بالملابس السوداء والبيضاء، وتحدثن إليها عن الصبر، وعلَت أصوات القرآن المرتَّل، وأصوات التوسُّل للرب بإنزال السَّكِّينة، وتناثرت المُصلَّيات الملونة، وفاح البيت بروائح البَخُور والبهارات الشرقية، وبعض الأزهار التي وُضعت على الأرض في موضع الجسد الذي بات في المقبرة القريبة، تلك التي يطلقون عليها «حديقة الأرواح».

في الليل ذهب الجميع وأغلقت «نِعم الخبَّاز» باب بيتها، لكن رائحة الموت ظلت شهورًا تحاصرها ولم تُفلح المنظفات العميقة في إزالتها، حتى بعد أن تكفل الجيران باستبدال سجَّاد أخضـر بلون الصبَّار ببساط البيت القديم، أملًا في أن يبدد ذلك التغير بعض الروائح العالقة بالذاكرة، لكن ذلك اللون المحايد للسجَّاد زاد من كآبة المنظر، وظل الدم المسكوب في ساحة البيت، والرصاصة التي ارتشقت في الحائط جاثمَيْن على المشهد. ومع الوقت انشغلت «نعم الخباز» بأوجاعها، وانشغلت «الشمس المشرقة» بعدة كوارث أخرى، مثل غرق «ميمي دونج»، وفقدان «لوسي» قطة «إيمي»، وهروب «عمر» ابن «نعم الخباز»، وجروح «سليم النجار» ومحاولة انتشال أطفال المرْكَبة المنكوبة «عين الحياة».

***

تنام «الشمس المشرقة» تحت أقدام سلاسل الجبال القرمزية على الساحل الغربي لتلك البلاد، منحنيةً بتواضع بين مفارق الطرق التي تؤدي إلى المنتجعات الجبلية في الشمال، ستبدو صورها من الفضاء مجرد تجويف أرضي منخفض وسط حلقة من التضاريس الصخرية والهضاب الصحراوية، تتماسُّ حدودها الجنوبية مع صحراء قاحلة كانت ولا تزال مَعبرًا حدوديًّا تاريخيًّا للمتسللين، وتطل من الشرق على سلسلة أخرى من التشكيلات الصخرية البازلتية، التي تتدرج ألوانها الرمادية وتتراقص ظلالها كرؤوس شبحية فوق التلال. أما من جهة الغرب فقد احتلَّ الساحلَ جرفٌ صخريٌّ ضخمٌ تحول إلى مقصدٍ لهواة التسلق، وتسبَّب هذا الجرف في تعثر اتصال «الشمس المشرقة» بالمحيط، وانحصر كل ما يربطها بالساحل الغربي بذلك الأخدود أو التجويف المائي، الذي توسع وشق طريقه بمحاذاة الجرف الصخري فصاروا يطلقون عليه مجازًا لقب «الخليج».

ونتيجةً لتلك التضاريس الجغرافية الفريدة فقد اعتادت بيوت «الشمس المشرقة» أن تتنفس كل يوم غبار التلال التي تطوقها وتتصالح مع أبخرة ذلك الخليج الضحل، الذي تفوح منه رائحة ذكور كلاب البحر النافقة بعد معارك ضارية في مواسم التزاوج، ثم رائحة مخاض الإناث اللواتي يضعن صغارهن في جيوب الماء الدافئ.

تهبُّ عليها رياح الصيف فتحمل تراب الجبل وتصفع به النوافذ والواجهات الزجاجية، ثم يسقط المطر فتسيل الأصباغ المتسخة كدموع كابية حارقة تترك آثارها كأخاديد تنحت مساراتها في طبقات الطلاء المتشقق، تُعرِّي الأمطار الموسمية خشب تلك البيوت الفقيرة، وتفتح شهية النمل الأبيض والعقارب الحمراء فتخرج راقصةً من بين شقوق الأرض، وتتسلق أخشاب وقراميد الأسقف، وتشق طريقها زاحفةً من الجحور إلى أصص الأزهار المعلقة في الشرفات.

«الشمس المشرقة» مجرد مستعمرة صغيرة، أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية مهجورة، يقولون إنها كانت في السابق بيوتًا خشبية قميئة يسكن فيها عمال مناجم النحاس التي نضبت، ثم رحل العمال من زمن بعيد تاركين خلفهم بعض الوحدات السكنية الفقيرة، أو سلسلة من الأكواخ الصغيرة التي تتراقص في الفضاء الجبلي منفصلة ومتقاربة وكاشفة لبعضها البعض، ثم توسعت المستعمرة البشرية مع الوقت وضمت إليها غيرها من الأحياء والامتدادات السكنية، التي تجاورت بين الهضاب الصحراوية وتحولت إلى محطة لعبور العمال المتسللين إلى المزارع الجبلية في الشمال. من تلك المستعمرة تخرج حافلات عمال النظافة وتعمير الحدائق كل صباح، تتسلق ممرات الجبل وتسير باتجاه التلال البعيدة حيث تنام منتجعات «الجنة الأبديَّة» عالية بين القمَم الجبلية، يحمل العمال في طريقهم إليها أدوات تهذيب الأشجار، وماكينات قص الحشائش، وتقليم النخيل، وتزيين الحدائق. تخرج أيضًا إليها تلك الحافلات الصغيرة التي تحمل لافتات شركات النظافة «كلين هوم»، «سوزانا كلين»، «ماتيلدا وأخواتها لتنظيف البيوت».

تمر الحافلات في مسارات محددة وطرق ومنعطفات منحوتة بين ممرات الجبال، تتسلق الممرات الجبلية الضيقة لتصل في النهاية إلى «الجنة الأبديَّة»، حيث تتراقص المنتجعات الجبلية البعيدة، وتتكشَّف ممرات القصور العالية، المترفة، التي يحتاج أصحابها إلى خدمات عاملات النظافة والأيدي العاملة باستمرار.

***

المنافذ الحدودية الجنوبية التي قذفت بـ«نِعَم الخباز» وبغيرها من سكان تلك الأرض لم تعُد الآن آمنة أو صالحة لمحاولات التسلل، بعد أن تكفلت قوات حرس الحدود بتأمين تلك المساحات الصحراوية الشاسعة التي نفقت فيها الكثير من الجثث الآدمية عطشًا، وانتهت رحلتهم قبل أن تبدأ. الحدود الساحلية أيضًا تم تأمينها بعد إغلاق مداخل الخليج بخوازيق ومدقَّات من الحديد على مسافات شاسعة من اليابسة، لكن تلك الإجراءات لم توقف تمامًا محاولات التسلل عبر حاملات البضائع، أو سيرًا على الأقدام لمسافات شاسعة عبر الصحراء الممتدة وصولًا إلى أرض «الشمس المشرقة». صارت البلدة الساحلية بمرور الوقت وحسب موقعها الجغرافي هي المحطة الأولى للعبور، يتخفَّى في أزقتها الهاربون عدة أيام ثم يواصلون البحث عن طريقٍ آمنٍ بين ممرات الجبال للهرب شمالًا، باتجاه مزارع الكروم البعيدة، أو تلك المناطق التي لا يسألهم فيها أحد من أين جاؤوا؟، إذا استطاعوا بالطبع تفادي عربات ترحيل العمالة غير الشـرعية، أو تلك الدوريات الأمنية التي تنقضُّ على الطرق الجبلية من حين إلى آخر، وتنجح في مطاردة بعضهم وإجبارهم على العودة عبر الحدود نفسها التي تسللوا منها، بينما يفلح آخرون في الاختفاء حالمين بأن يرافقهم الحظ الطيب ويتم نسيانهم إلى حين.

لم تكن «نِعَم الخباز» من تلك الفئة على أية حال، فقد استطاعت أن تحصل على إقامة شرعية دائمة، وعاشت بما يكفي لتنسى كيف جاءت إلى تلك الأرض، لكن حسب روايتها التي كانت أيضًا غير دقيقة وربما مُتخيَّلة فقد قالت إن اللـه قد عوضها عن طفولتها الشقية خيرًا فحدف بها إلى تلك البلاد مصادفة فقد جاءت كراعية للعجائز، وعملت في بيوت العَجزَة في المنتجعات الشمالية لسنوات لم تعُد تذكرها، لكنها تؤكد أنه تم استقدامها بطريقة شرعية تمامًا، وخالية من الشبهات؛ لذا فقد كان الكثيرون يعتبرونها محظوظة حتى تلك اللحظة المشؤومة التي فقدت فيها بِكْرها، لكن فَقْده لم يكن أول أو آخر تلك الكوارث التي مرت بها في حياتها.

***

في الرابعة من عمرها انكفأت «نِعَم» على راكية النار وترك ذلك ندوبًا عميقة في الشق الأيمن من وجهها الأسمر البالي، وزادت الخدوش من لمعان عينيها الصغيرتين اللتين تشبهان عيون الثعالب الغاضبة.

لم تخبئ «نعم» تلك الندوب التي توارت قليلًا بفعل التجاعيد وغبار الزمن، بل كانت تستخدمها وفقًا لما تقتضيه الحاجة كوثيقة على ما تعرضت له في طفولتها من كوارث تستوجب الشفقة.

حسب روايتها أيضًا، حدث ذلك في يوم شتائي أوْحَلَت فيه الشوارع في الحارات الضيقة وتجمدت أطراف الصبية الذين يركضون طوال يومهم في أزقَّة تلك القرى الصغيرة التي كانت تنام غرب الدلتا، قامت زوجة أبيها الأولى التي يلقبونها بـ«الرَّيِّسة» بإشعال النيران وتوسطت المجلس الذي تَعبَّأ بدخان أرجيلتها.

«الرَّيِّسة» هي السيدة الأولى والمالكة الأصلية للبيت والمخبز ولها وحدها حرية التصرف في شؤون هذه الحياة. يتوسط المجلس أيضًا «جعفر الخباز» الذي يتضاءل وجوده في الحضور الجسدي للريسة، ذلك الحضور الذي يملأ الفراغ بصبغة خُنْثويَّة خالصة؛ فقد أضفت شراهتها في التدخين هذا الإيحاء الخشن للأنوثة. فهي تقوم مثلًا كل عدة ساعات بإشعال النار في حُزْمة من الخشب المتفحم في وعاء فَخَّاري، بغرض التدفئة ولتتمكن أيضًا من رصِّ وتعبئة رؤوس الدخان ولا تنقطع في جلستها من حرق قطَع الفحم وسحب أنفاس الأرجيلة والبصق في كل اتجاه، حتى يتعبَّأ صدرها بالتبغ ويفيض بالبلغم والبصاق. في المساء يضطجع «جعفر الخباز» بجوار «الريسة» متعبًا، ومستمتعًا بمشاركتها في سحب الدخان الذي يغلف حياتهما بتلك القسوة، تمدُّ «الريسة» وَرِكَها الضخمة فيضع رأسه ثم تناوله الأرجيلة، فيلتقم خرطومها ويصبح الدخان العسلي الكثيف سُحُبًا متراكمة فوق فُتات الأطباق الفارغة ونُفايات الأبناء الذين يتقافزون حول مشهد انتهاء النهار. في ليلةٍ من تلك الليالي سقطت «نعم» على الموقد والجمرات المشتعلة، كان «جعفر الخباز» مُقعيًا ككلب على حجر «الريسة» كعادته بينما كانت أُمُّ «نعم» تدلك قدميه، وانشغلت الزوجة الثالثة في تحضير الشاي على موقد الكاز الصغير على طرف المجلس. تلك الليلة كانت النار أكثر توردًا وشراسة توسطت بلهيبها الجلسة، وكان المطر يطرق النوافذ فالتَمَّ الصغار حول طاقة الدفء وتبادلوا بعض الحكايات والشتائم والألعاب الغامضة، ثم الضحكات ثم أطفأ نحيب «نعم الخباز» وتشوُّهات وجهها المحترق مشهد الانسجام العائلي الذي قلَّما يتكرر في البيت. «جعفر الخباز» كان طويلا ونحيلا وله عَيْنَا ثعلبٍ جبلي، عينان مترقبتان، مفعمتان ببريق التنمُّر وحكمة التروِّي، عينان تكشفان قدرات متعددة على القسوة والغدر، ورثت «نعم» عنه تلك العينيْن، لكنها لم ترث منه ملامحه الناعمة التي لا تتلاءم مع أصوله العرقية التي لا يعرفها أحد؛ بخاصة شعره الأشقر الكثيف الذي ينسدل من تحت العمامة، وملامحه القوقازية، وبياضه الرائق، تلك الملامح التي لا تخدش وسامتها سوى دقة الوشم التي تجاور بروز الحاجب الأيمن.

يجلس «جعفر الخبَّاز» في ذاكرة «نعم» متكئًا على الوسائد بجلبابه الكشميري ويمدُّ ساقيه وسط قبيلة من الأبناء، يجلس مبتسمًا متوردًا، راضيًا عن نسائه الثلاث اللاتي أنجبن له عددًا من الذكور زَجَّ بهم مبكرًا إلى مخبزه؛ ليتقاسموا مسؤولية أعمال المخبز، مثل حمل وتفريغ أجولة الدقيق ثم العجن والتقطيع والخَبْز وإشعال الوقود في الأفران.

كان العمل داخل المخبز يسير وفقًا لما حددته «الريِّسة» من مهام يتقاسمها الجميع من دون تفريق أو محاباة بين أبناء الضرائر، بينما يكتفي «جعفر» منذ أن تزوجها بالجلوس جوارها نهارًا على تلك المَصْطَبة الطينية التي تجاور مدخل الفرن. تكون «الريسة» دائمًا منشغلة بعدِّ الأرغفة ومتابعة حركة البيع وعدّ النقود التي تنتهي إلى حافظة من القماش تتدلى برباط من صدريتها التي تظهر بجلاء من تحت قَبَّة ثوبها المرقش بالورد، تفتح صدرها وتنحني فيرتخي صدرها المنفرط بضخامة غير عابئةٍ بنظرات العابرين. تدير «الريسة» عالمها بروح ذكورية خالصة، اكتسبتها بمرور الوقت وبمساعدة ملامحها الحادة، ونبرات صوتها الخشنة، وموهبتها في توظيف الألفاظ والإشارات الجنسية في مواجهة خصومها المحتملين. صحيح أن المعارك التي خاضتها لتفرض هيبتها كانت قليلة، لكنها كانت كافية للتعرُّف إلى هذه المهارات الفردية في فنون التفحُّش، فهي تحلف بأعضائها الجنسيَّة وتشخر من أنفها بتلذُّذ وتستخدم أصابعها الوسطى، وتهز مؤخرتها الضخمة مقلدةً أنثى البط في حالة التلاقح لتوصيل رسائل تعجيزية إلى غريمها.

تمتلك «الريسة» مُخيِّلة خصبة تُمكِّنها من تقييم كل شيء حولها حسب قدراته الإخصابية والجنسية، تجلس بجوار «جعفر الخباز» وتقول هازئة بفلان: «وش القرد» وفلان «أبوخرية» وعِلَّان «أبو رقعة في لباسه»، وفلان «أبو عِدَّة مصدِّية» ولا تخفي في أدائها ما الدلالة الجنسية المستترة وراء كل لفظ تتلفظ به.

كانت تلك الموهبة تضمن لها سطوةً في مملكة الذكور الذين يتحاشون دائمًا لسانها، كما تضمن لها مكانتها بجوار «جعفر الخباز» الذي يعتبرها رَبَّة البهجة، يضحك وينثني على فخذها مبتهجًا كلما انحنت على أذنه لتصف له أحد العابرين أو العابرات بتلك المتخيلات الجنسية التي تدغدغ حواسَّه.

تعتقد «الريسة» أن التلاقُح الجنسـي جوهر الحياة ذاتها؛ لذلك كانت حريصة على تزويج بنات «جعفر» الكثيرات بمجرد بلوغهن. تزوجت بعضهن في القرى المجاورة كبلاد السواركة وبلاد الغرابوة وبلاد البحر، وبعضهن الأخريات تزوجن في بلاد أبعد لا يعرف أحد طريقها، تؤمن «الريسة» أن كل بنت ونصيبها وأن كل امرأة تستطيع أن تخلق الكون الذي تريده.

«جعفر الخباز» بدوره كان قصير النَّفَس في المفاوضات فهو لا يسأل عن المهر أو ترتيبات الزواج، فقط يتفقَّد المؤخر الذي يجعله تعجيزيًّا ويضمن بذلك قدرة نسيبه الجديد على تدبُّر أمر عروسه في بيته لبقية أيام عمرها، فمتى خرجت البنت من بيته فمن الأفضل أن تظل حيثما ذهبت، وألَّا تفكر مجرد تفكير في العودة إلى بيت أبيها إلا لمجرد الزيارة.

لم يتعرف «جعفر» إلى أحفاده فضلًا عن أولاده، ولم يكن مكترثًا سوى بحياته التي تتمحور حول صلواته التي يؤديها بانتظام في المسجد الذي يلاصق مخبزه، قضى «الخبَّاز» نصف حياته في الباحة الخلفية لهذا المسجد الذي تتعهَّده إحدى الفرَق الصوفية، تلك التي يرخص أفرادها كل أنواع المُغيِّبات كالحشيش والأفيون، على اعتبار أن تلك المغيبات تعين العبد على الانفصال النسبي عن الوجود، أو تطلق طاقاته الروحية.

يتبادل «جعفر الخباز» غليونه مع أهل اليقين ويُقسِّم أوراده الرُّوحية بين الصباح والمساء وأحيانًا يتطوع بفروض الضحى إذا كان ذلك ممكنًا. يتطوح «جعفر» بين سُحب الدخان وهو يردد أوراده اليومية، ويشعر في تلك اللحظات بأنه فارق هذا الكون وصعد إلى حيث تجلس «الريسة» على كرسي العرش وحدها، وتدور الفتيات الصغيرات اللاتي ادَّعين أنهن بناته ثم تفرقن في بلاد اللـه يدُرن حولها.

لا يمكن الوثوق بما يراه «جعفر» في شطحاته، يمكن فقط التكهُّن بأنه خُلق ليدور حول قطبها برضا تام.

يواظب على الجلوس بجوار ربَّة البهجة صباحًا، يجلس على باب المخبز بجانبها، حيث يتلقى التحية من العمال ويُمعن النظر إلى العابرين وهو يحتسي فناجين قهوته المعطرة بالأفيون. في المساء يتوسط مجلسه في ساحة البيت الملحق بالمخبز، إلى جوار «الريسة» أيضًا، متصدرًا المجلس، متكوِّعًا، ممتلئًا، غائبًا عن الوجود وسط الأشباح التي تتراقص حوله.

عاش «جعفر الخباز» على جرعتين من القهوة المعطرة بالأفيون، سمحت له تلك الجرعة بالسباحة دائمًا في منطقةٍ ما بين الحياة والموت، هادئًا وغائبًا وحاضرًا حول مقام «الريسة» الذي لا يستطيع تخطيه حتى في شطحاته.

تتذكَّر «نِعَم» من ذلك العالم الذي تركته وراءها تلك اللحظة التي قال فيها «جعفر» شيئًا يخصها، وكان ذلك أول وآخر ما قاله لها: «أنتِ ونصيبك يا نعم.. اللـه يكتب لك الخير يا بنتي مطرح ما تروحي»، كان يفكر أن ابنته مجرد بضاعة بائرة في سوق الزواج، وأن ثمَّة طرقًا أخرى للحياة عليها أن تسلكها لتعيش، وهزت «الريسة» وركها في حركة لا إرادية تصاحب شد أنفاس الدخان عميقًا، ثم ربَّتت على ظهرها وجذبتها من سروالها وقرصتها وقالت ضاحكة وربما ناصحة: «سكة أبوزيد كلها مسالك»، ثم شخرت تلك الشخرة التي يتهاوى «جعفر» أمامها.

لم تظهر أُمّ «نِعَم» في هذا المشهد الأخير لأنها كانت مشغولة بشيء ما، إرضاع طفلة جديدة، غسيل كومة من المواعين في ركنٍ ما... لن تتذكَّر «نعم» ملامح تلك الأم، بينما ظل حضور «الريسة» خالدًا مجسدًا كل مواصفات القوة والقسوة والسلطة التي طمحت «نعم» وسعت إليها.

في ذلك الصباح أوصلها جعفر إلى بيت «أمر اللـه»، وبذلك خرجت «الريِّسة» وأُمُّ «نِعَم» والإخوة الكثيرون والفرن والبيت من حياتها، صارت «نعم الخباز» خادمة صغيرة، تنام تحت قدمَي السيدة «ذات الأوجاع»، السيدة التي تحتاج طفلة صغيرة تؤنسها في الليل بعد أن تركها أولادها وتفرقوا في البلاد.

***

ترحل البنات عن بيوت آبائهن لأسباب متعددة، معظمها زيجات مُدبرَّة في عمر البلوغ لاتقاء اللحظات الحرجة، التي تجد فيها البنات الصغيرات أجسادهن وقد تفتحت فجأة وصرن مطمعًا للقريب والغريب، بعضهن يرحلن أصغر من ذلك ما بين السادسة والثامنة، تتنافس بعض المتخصصات في تدبير خدمة البيوت في التكسُّب بتشغيلهن خادماتٍ صغيراتٍ في المدن التي تتطلب سفرًا طويلًا.

يوم رحلت «نِعَم» كانت في السادسة أو الثامنة لا تعرف بالضبط، لكن ذاكرتها ما زالت عالقة بتفاصيل بيت «أمر اللـه»، ذلك البيت الطيني الذي يُشرف على أحد المصارف التي تهبُّ منها رائحة الماء العطن.

تتذكَّر فقط وجه «أمر اللـه» الذي يرسم رهبته عبر خريطة من التجاعيد والأوشام، تشريط غليظ على ذقنها، عصفورة خضراء مدقوقة أعلى حاجبها، وشمًا آخر لسمكة صغيرة على ظهر كفَّيْها.

«أمر اللـه» لا تبتسم ولا تتحدث كثيرًا ولا تسمح لأحد أن يقترب من طعامها أو شرابها، أو يدخل حجرتها التي تغلقها بالمغاليق، تجلس على فراشها وتنفخ دخانها وتتشكَّى من الضجة ووجع رأسها، لا يمنعها ذلك من مراقبة حركة البنات الصغيرات معظم الوقت. في الصباح تتفقَّد بناتها ثم تلقي على شعر كل واحدة منهن كمية كافية من الكيروسين تكفي لحرق فروة رأسها، ثم تلقي قطعة من الصابون وتشير بيدها إلى إحدى الغرف الخلفية للمنزل، وتترك الصغيرات يتدبَّرن تسخين المياه وحَكَّ أجسادهن بالقَشِّ وفَرْك أقدامهن بالحجر الخفَّاف، وتتغاضى عن صوت الضجيج وهن يتبادلن الكلمات النابية والتراشق بالماء الحار، ثم ارتداء الملابس والانشغال في تضفير شعورهن التي ما زالت تحمل رائحة الكيروسين النفاذة، وفي الليل يتحلقن حولها في صمت بانتظار أوامرها أو استكمال طقوس النظافة بحَكِّ ودَهْن أياديهن المتشققة من أعمال الحقول بقشر الليمون وزيت الخروع.

تتوسَّط «أمر اللـه» مجلسها وتسند ظهرها على الوسائد وتدخن سجائرها التي تلفها بعناية، وتتحلَّق البنات حول قدميها التي تَهُزُّهُما بين حين وآخر ليتتابعن في تدليكهما، ثم تكرر تعاليمها التي تنتهي عادةً بجملة واحدة: «ح ترجع لي وسأعلمها الأدب» تقول مثلًا: «اللي تمد أيدها على حاجة مخدومها ح ترجع لي واعلمها الأدب.. فاهمين؟». تصمت قليلًا كأنها تتذكر ما ينبغي عليها قوله، ثم تكمل: «النظافة أهم شيء، أيدك ولبسك وشعرك لازم تكون نظيفة طول الوقت»، تنظر إلى أظفارهن وتكمل: «أهم شيء في الحياة هو الرضا، اللي يرضي ربنا يرضيه، واللي يتبطَّر على النعمة ح يرجع لي واعلمه الأدب».

لم تكن «أمر اللـه» تصلي ولا تسبِّح ولم يتناقل الناس عن كراماتها سوى أنها تأكل مال النبي، لكنها مع ذلك تضع اسم اللـه في كل جملة، تصمت طويلًا قبل أن تتذكر ما أرادت أن تقول، ثم تكمل كأنها لم تنقطع قطَّ عن الكلام: «نعم وحاضر غير ذلك تحطِّي لسانك في فمك وصوتك يفضل واطي، البنت اللي يعلو صوتها في حضور مخدومها ح ترجع لي مثل الكلبة وح اعلمها الأدب».

كانت «أمر اللـه» تعلم أن بناتها كما يطلقون عليهن لسنَ بناتها في الحقيقة، وأنها لم تنجب قط، وأن الكثير من بناتها لم يعُدن إليها أو إلى غيرها، وأنها لن تستطيع أن تعلمهن شيئًا وأن الحياة وحدها كفيلة بأن تعلمهن المهارات اللازمة للبقاء والنجاة، تعلمهن اللامبالاة والصمت والانكسار، والقدرة على استشعار الخطر، والحكمة في نسج الأكاذيب، والتفنُّن في كسب التعاطف، ثم تدربهن على القسوة والتلوُّن والنكران.

في الغرفة المعتمة التي تنام فيها الفتيات تسمع «نعم» صوت نحيب الخادمات الصغيرات وأمنيات الهرب، لم تعرف «نعم» قط تلك المشاعر، لم تُصب بداء الحنين مثل غيرها من الخادمات الجدد، لم يكن هناك ما تبكي عليه أو يثير الشجن، تتذكَّر فقط أنها وضعت يدها على خدِّها تلك الليلة، وتحسست الحفر الصغيرة التي تركها الحرق القديم على وجهها، ونامت مرتاحةً لفكرة الهرب والسفر والتنقُّل بين البيوت.

في بيت «أمر اللـه» تدربت «نعم» على غسيل وطَّيِّ الثياب وحكِّ الأواني ونظافة البيوت، كما أتقنت بعض التدابير الأخرى اللازمة لخدمة البيوت كالطاعة والتهذيب وسرعة البديهة، تدربت أيضًا على تلك النظرة المتذلِّلة المستعطفة.

بعد أسابيع من التمارين الشاقة على ما تتطلبه الحياة الجديدة من مهارات، عقفت «أمر اللـه» كل بنت في يد الأخرى في رباط طويل، وسحبت البنات الخمس قبل بزوغ الشمس وهي تقول: «أمامنا سفر طويل لا أريد أن أسمع كلمة واحدة طوال الطريق.. ولا واحدة تفتح فمها بكلمة معي أو مع غيري.... مفهوم؟». لم تفتح أيٌّ منهن فمها بالكلام، لم يبتسمن ولم يبكين، كُنَّ يفتحن أفواههن في دهشة وحيرة، ولم تجرؤ إحداهن على التنفس بصوت مسموع.

ذلك الصباح قصدت «أمر اللـه» وبناتها ساحة البلدة، وعبرت إلى موقف عربات نصف النقل التي تنتظر ركابها في ذلك الشارع الترابي الطويل، حيث يقع مركز البلدة التي لا تزال قرية صغيرة رغم التوسع، تناثرت على جانبَي الشارع الترابي عدة مبانٍ حكومية، عُلق عليها لافتات إرشادية لا يقرؤها أحد؛ لأن معظم العابرين لا يقرؤون إنما يعرفون بمجرد النظر ما تشير إليه تلك اللافتات، هنا تقع الوحدة المحلية وهناك مكتب البريد بجوار مركز الشرطة وفرن جعفر الخباز الذي كان عنوانًا كبيرًا لتلك الحاضرة الناشئة. كان هناك أيضًا بعض دكاكين العطارة والشموع وبعض السلع التموينية البسيطة بجانبه، بعد ذلك ينحدر الطريق ليصل إلى السوق والمقابر.

ركبت «أمر اللـه» وبناتها الخمس في وسيلة المواصلات الوحيدة التي كانت متاحة آنذاك، صندوق عربة نصف نقل مكتظ بالبشر ورائحة الطين والفقر، يقرفص فيها طلاب المدارس العليا، وعمال اليومية الذين يضمون إلى صدورهم بعض أدوات الحفر والبناء، وتتكوَّم في قعره بعض البائعات القرويات اللاتي يحتضنَّ أقفاص البيض والجبن وغيرها من المنتجات الريفية لبيعها في أسواق المدينة الكبيرة.

بعد امتلاء الصندوق، خاضت العربة في ذلك الطريق بين الحقول الواسعة، توقفت أيضًا في بعض محطات الطريق ليهبط البعض ويحل آخرون محلهم، الركاب الجدد يتطابقون في الهيئة ولكنة الحديث مع الركاب القَدامَى. تغيرت بعض الوجوه بينما ظل جسد «أمر اللـه» وبناتها يهتز في صندوق السيارة حتى وصلنَ أخيرًا إلى موقف سيارات الضواحي، ذلك الموقف الذي يفضي إلى محطة القطار، حيث ركبت، وكان مكتظًّا كعادته فوقفت البنات الخمس حولها، اهتز بهن القطار في محطاته الكثيرة، ونزل بعض الركاب وحل محلهم آخرون فلم تجد الفتيات بُدًّا من افتراش الأرض بين المقاعد والجلوس بانتظار محطة الوصول.

توقف القطار أخيرا فنزلت «أمر اللـه» ببطءٍ يتناسب مع عمرها، ونزلت الصغيرات خلفها، سارت باتجاه الكورنيش المطل على البحر، فواصلن السير خلفها حتى فقدن القدرة على الاتزان، وتخبطت أقدامهن في الأحذية البلاستيكية الملونة وتسارعت نبضاتهن، لكنها لم تلتفت إلى بطء خطواتهن.

واصلت السير بمحاذاة البحر الهائج، كان فصل الشتاء ما زال في ذروته، فهبت أمواج البحر واصطدمت بالصخور وتركت رذاذها على ثوب «أمر اللـه» الأسود. بعد السير المتواصل لمسافة ليست قصيرة، شعرت بالتعب، فجلست بعدها قليلًا على الطُّوَار المحاذي للبحر، وجلسن حولها، أشعلت سيجارتها وراقبت السيارات التي تمرُّ أمامها، حدَّقنَ في السيارات مثلها، لكنهنَّ لم يفهمنَ قط ما الذي كان بانتظارها أو انتظارهن.

قامت «أمر اللـه» بعد ذلك وعبرت الطريق باتجاه بعض البنايات المواجهة للبحر، وقفت عند أرقام بعينها، دخلت وخرجت من بيوت كثيرة يعرفونها وتعرفهم، خاضت بعض المجادلات وبعض المحادثات الجانبية التي ارتفع صوتها فيها قليلًا عن المعتاد، وهمَّت في بعض اللحظات أن تجذب رباط الفتيات الخمس والعودة بهن عبر الطريق نفسه، لكنها في نهاية النهار كانت قد أدارت تلك المجادلات بمهارة وأتمَّت تسليم كل واحدة من بناتها إلى بيت مخدومها نظيفة ومعطرة بتلك الرائحة، التي هي مزيج من الطين والتراب والكيروسين والصابون الرديء والترقب والخوف.

ميرال الطحاوي كاتب وروائية مصرية

النص فصل من رواية أيام الشمس المشرقة