No Image
عمان الثقافي

السكوت في الصحراء مشقة لا تُحتمل

29 مارس 2023
29 مارس 2023

«أفضل صفات العرب جاءتهم من الصحراء»

(ويلفريد ثيسجر، رحالة بريطاني)

يُعد السرد الزاد المعنوي للمسافر في الصحراء، حيث يمتد الصمت كامتداد الأبدية، ولا يجد من يؤنس الحادي إلا الترنم بالأشعار والأخبار المروية والقصص المحكية، حتى وإن كانت مكررة ومملة، المهم ألا ينقطع حبل الصوت، ويشعر المرء بوحشة الصحاري ومفازاتها المُهلِكة، ففي الصحراء ليس الظمأ هو المهدد الأول للإنسان بل الصمت. إذ لا يوجد ما يعين ساكن البيداء إلا الكلام، فالحديث أنيس الرُحل حين ينُخون الأجساد العابرة للقفار والوِهاد. هكذا وصفهم الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (1910-2003) في كتابه الرمال العربية «جلسنا في حلقة وتبادلنا الحديث، وهو العمل المفضل لدى البدو فهم يتحدثون بلا ملل. ويروي أحدهم القصة نفسها مرات عدة للأشخاص أنفسهم في غضون شهرين، ومع ذلك يستمعون باهتمام ظاهر، ويعتبرون السكوت مشقة لا تحتمل». هذا إلى جانب الشعر الذي لا يفارق العابر للصحراء، وحيدا كان أم ضمن قافلة، فالحديث والشعر لم يوجدا لأجل الحكاية فقط، وإنما لحاجة ضرورية للتغلب على رتابة الوقت في الصحراء، وإعادة التذكير بما حدث من وقائع في مرويات يتآكل فيها الحدث الأصلي، وتُضاف إليه أحداث أخرى من مخيلة الراوي، ثم لا يلبث أن يتضخم المروي ليصل إلى مستوى الأسطورة.

يصف ثيسيجر البدو بأنهم ينظمون الشعر بسهولة أثناء تنقلاتهم، وسمع «فتى يقدم وصفا شعريا على السليقة لبعض المراعي التي رآها. كان يعبر تلقائيا عن مشاعره وأحاسيسه. لكنهم ومع أنهم شديدو الإحساس بجمال لغتهم، فإنهم لا يرون جمال الطبيعة، فلون الرمال وغروب الشمس وانعكاس ضوء القمر على البحر. كل هذه الأشياء لا يكترثون بها ولا تحرك فيهم شيئا».

يبدو أن ويلفرد ثيسيجر لا يعرف اللغة جيدا التي يبدع بها الشاعر في الصحراء؛ لأن الشعر في الصحاري والجبال باذخ بالصور الحسية التي يُنظم بها الشاعر شعره، فيصف ما يدور حوله على الأرض، أو ما يتشكل في السماء من سحب وغيوم، وبريق نجوم ونور القمر، وغيرها من التصورات الحسية، فمثلا يصف حبيبته بظهور القمر في الليالي، ويشبه تكوّن السحب البيضاء بثغر محبوبه. بل ويغدق على راحلته، فرسه أو ناقته المديح والثناء؛ لأنها رفيقته في السفر، والمؤتمنة على حياته في أشد الأمكنة المهلكة في العالم.

تؤدي الحكايات في الصحراء وظائف مهمة غير الاحتيال على المسافات، والتخفيف من مشقة السير وقطع مئات الأميال. فالقصص المنسوجة بخيوط الأحداث والمواقف والبطولات التي صنعها البدوي في تاريخه، تمثل العمود الفقري للحكاية والرواية التي تقتات عليها ذاكرة البدوي الجمعية، وسجل بطولاته وهزائمه، أفراحه وأتراحه، كرمه وبخله، ورعه وضلالته، هذه وظيفة الحكاية بالنسبة للبدوي. أما الوظيفة الأخرى للحكاية فتكمن في دورها التعليمي، منها يستقي النشء المعارف والخبرات والحكم، ويتدرب على رواية الحكايات وحفظها. لذا أضاف ثيسيجر إلى سجل ملاحظاته عن البدو بأن «سن الفتوة للبدوي هو دور روائي ومبهرج وشعري».

يضفي البدوي على الحكاية والسرد خلاصة مخياله، فالحكاية التي تتداولها الألسن لا تبقى على حالها كما حُكيت في المرة الأولى بل تشهد حذفا وإضافة حسب المناسبة وذهنية السارد، وبما يتناسب مع هواه وعواطفه. دون اكتراث بالفترة الزمنية التي حُكيت فيه القصة.

يستطرد ثيسيجر «كنت أسير في الطريق، متجاهلا أوامر «سلطان» المتكررة للحاق بالآخرين، لأنني كنت أعلم أنها صادرة عن لهفته للحديث الذي لم يكن لي مزاج فيه». ربما ظن ثيسيجر بأن سلطان كان متلهفا للحديث، لكن الحقيقة هي أن التأخر والتخلف عن القافلة في الصحراء يشكل خطرا على الفرد، في ظل نزاعات وصراعات بين ساكني الصحراء على مناطق تواجد الماء والكلأ. ما أن تهدأ عمليات السلب والنهب وتحل الهدنة الهشة، حتى تتجدد عداوات أخرى وحروب أكثر ضراوة وألما وقسوة؛ فالسيادة في الصحاري تحتكم للقوة لا لحجة المنطق، والثأر هو القانون الأكثر ديمومة في الصحراء، لا ينتهي بتقادم الزمن، ولا يقتصر القصاص على صاحب الفعلة، بل يمكن لأي فرد ينتمي إلى قبيلة الفاعل، أن يدفع ثمن فعلة شخص آخر ينتمي لذات القبيلة، التي ربما لم يسمع الضحية بالحادثة، ولا يعلم عنها شيئا.

كل كائن في الصحراء محكوم بإصدار الأصوات، حتى الرمال تحكي، مثلما وصفها ثيسيجر «في الصباح، وبينما كنا ننزل بجمالنا كثيبا شديد الانحدار سمعت فجأة أزيزا منخفضا، ثم ازداد قوة إلى أن بدأ كصوت طائرة تطير على انخفاض منخفض فوق رؤوسنا، وأخذت الجمال الخائفة تشد أزمّتها وهي تلتفت إلى الوراء صوب أعلى المنحدر، ثم توقف الصوت عندما وصلنا إلى الأسفل، كان الصوت (غناء الرمال) ويسميه العرب زمجرة، وهي كلمة قد تكون أكثر تعبيرا، خلال الأعوام الخمسة التي قضيتها في هذه الأرجاء لم أسمع هذا الصوت إلا ست مرات، واعتقد بأنه ينجم عن انزلاق طبقة رملية فوق طبقة أخرى».

وإذا كان ثيسيجر يسميه غناءً، فإن الروائي الليبي إبراهيم الكوني يسميه نواح، بل ويذكر آلهة الريح، كما كتب الكوني في روايته سأسر بأمري لخلاني الفصول «ألا يعرف مولاي آمناي (إله الريح القبلي) إني التقمت الوصية من ثدي الصحراء، ككل أبناء الصحراء». يزنر الكوني رواياته بنواميس الصحراء «آمن بأن الصحراء وطن لا يحتاج أهله إلى لسان، ما دامت كائناته تتكلم بلا لسان كما تكلم القمر في مساء ذلك اليوم»، هكذا تُعبّر كائنات الصحراء عن وجودها في الأراضي القاحلة، وتصدر أصواتها الخاصة «كان يا مولاي صوتا من تلك الأصوات التي تطلقها بعض المخلوقات الصحراوية عندما تُلزم بالتخلي عن حياة الصحراء والانتقال إلى أوطان الخفاء قهرا». عاش ساكن الصحراء في لهفة إلى الأخبار التي يحصل عليها من العابرين الرحل، فبمجرد مرورهم يُطلب منهم التريث والمكوث معهم لعدة ليالٍ، يولم فيها المضيف لضيفه، ثم يسأله عن الأخبار والعلوم. يدفع ساكن الصحراء مقابل الأخبار بعضا من رؤوس ماشيته قربانا للأخبار والحديث، حتى لو لم يحصل إلا على معلومة بسيطة مثل وجود آثار جمال أو رجال.

يجد البدوي متعته في مشاركة الحديث مع الآخرين والجدال معهم، حتى وإن كان الحديث يدور حول حبل لعقل بعير، كتب ثيسيجر «كنت أتوقع أن يكون الصمت مخيما على الجميع أثناء ذلك، لكن كان عليّ أن أعلم من الخبرة أن البدوي لا يمكن أن يظل ساكتا، فكان كل واحد يتحدث بصوت مرتفع».

تضفي الطبيعة على قاطنيها طباعها، فيتأقلم الإنسان مع ظروف بيئته، ويكتسب منها قسوتها ورخاءها، فمن الصحراء يتعلم الإنسان الصبر والحذر واليقظة، ومن البحر الشك ومن الجبال الجلد، ومن السهول السعة. لهذا لا يمكن الفصل بين الإنتاج الثقافي للإنسان وبيئته.

اخترع الإنسان المتوغل في الصحراء عدة حِيل لتبديد الوحشة والشعور بالوحدة، ونظّم الأشعار وردد الأهازيج على ظهر ناقته، كالفنون الصحراوية المعروفة بالتغرود، التي تنقسم بدورها إلى عدة أنواع منها (الطارق وهمبل البوش والونة). والغاية من هذه الفنون خلق الأنس وطرد الوحشة في الوهاد المُقفرة.

محمد الشحري كاتب وروائي عماني