عمان الثقافي

الرعاة يحرسون براءة الأرض

28 فبراير 2024
28 فبراير 2024

هل كنتَ طائرًا؟

: ربما كنتَ في طفولتي.

هل كنتَ شجرة؟

: لعلَّ روحي تشبه الأشجار.

هل أنتَ نبع جبليّ؟

لعلَّ صوتي يشبه ذلك أيضًا.

لم يكن في البدء، سوى شاعر، لكنه لم يكتب قصائده، ولم يرددها، لم تشغله فكرة الكلمات، ولم ينطق بأيّ كلمة، لم تقلقه فكرة القصائد، بل لم ينبت الشعرُ في سفح لسانه. أغرته موسيقا الينابيع ليُغنّي، أنصت لصوت الريح، نظر إلى الأقاصي الموحشة والمجهولة والمُرتابة من توجس الكائن، رأى الظلال تنام على السفوح، وراقب خوف الفراشات من الزهرة، أنصت لصلوات الطير، فكانت قدماه تكتب أعمق وأنصع القصائد في الجبال والسهول والهضاب، فكانت الدروب الأولى على وجه الأرض هي القصيدة الأولى والأنقى والأصدق من الكلمات، مضى العابرون يبحثون عن صوت الشاعر المُعلّق في الجبال، فلم يجدوا سوى الدروب والرماد والعزلة. أشعلوا نار الفخاخ لينزل من سماء عزلته، أو ينبت من شرايين الأرض، فكان ذئبا أدرك لعبة الفخاخ الأولى.

نبتت زهرة العزلة في البدء في قلب الراعي، وفي لمعة عينيه، وفي رجفة أصابعه وهو يتلمس التراب، وحين نام الراعي في الظهيرة متوسدا دربا، سرق الشعراء زهرته، عندما نهض من قيلولته، وجد نفسه عاريًا من جباله وسهوله وعزلته، أخذ يصرخ، يتبع دروبه القديمة لعلّه يصادف أمه الأولى «العزلة»، الشعراء لم يسقوا زهرة العزلة المسروقة من قلب الراعي، لذا حاصروها بقصائدهم، ودنّسوا قلبها، دمروا جوهرها، جرحوا صوتها، وكادت أن تذبل، وحين نام الشعراء على سرير نرجسيتهم، هربتْ العزلة إلى الجبال؛ لتبحث عن شاعرها الأول «الراعي» فلم تجده، بل وجدتْ رماد عظامه، وقد نبتت بالقرب منه شجرة. فلم تنزل من جبالها حزنا على روح الراعي، وخوفا من خديعة الشعراء. ظلّت العزلة تحرس عظام الشاعر/ الراعي ورماده، لم تنثر الريح رماد الشاعر لأنها تدرك بأنه الرماد الذي لا يتكرر في الخليقة، ولأنّه ليس رمادا لأغصان شجرة ميتة، بل رماد لغابة المعنى.

في قلب كل راعٍ ينام الفجر والنبع والأشجار، ومن لا فجر في قلبه ولا نبع في روحه، فهو ليس راعيًا. الرعاةُ لا يصنعون لحياتهم وترحالهم قواعد، بل يكسرون كل الأنماط، فلا نمط يغريهم سوى الرحلة والهجرة والانتقال. ولا طريق يغريهم سوى طريق الأقاصي والهامش، الرعاة لا يحرسون سوى دهشة الأرض الأولى، وطفولة الطين.

في طفولتي كنت راعيا، ولم أكن شاعرا، قدتُ الماشية وقلقي إلى السيوح والجبال، أنصتُ لأصوات وثغاء الأغنام، لأصوات طيور مهاجرة، ولشهيق حمار في الضواحي، لصوت الريح؛ وهي تعبر على الأشجار الميّتة، تلمّستُ خرائط الحجارة والطين والأشياء المهملة وطين الأودية الجافة، تأملتُ حياة الظلال القصيرة. تنبعث روائح الصيف والخصب، أزهار الشتاء أزهار السدر وبرم السمر، رائحة النار في الفجر، رائحة احتراق جذع نخلة في صباح شتوي، اقتربت من جوهر الظلال، تعلّمتُ درس الظلال باكرا، وخديعة الضوء. تأمّلتُ الجفاف والجدب، أيقنت تجاور الضد للضد، راقبت كائنات الصيف، صادقتها، وقفت على التلال لأنتظر الفجر أو لأودّع المساء، نمت تحت الظلال، أكلتُ من أشجار الحياة كلمات الطفولة المخاتلة.

أعطيت لكل شاة اسما، تفننت في النداء والصراخ، عانقت شروق الشمس بالغناء، ودعتُ غروبها بفرح عابر، قطعت المسافات، صنعت لنفسي دروبا. ماذا لو لم أتبع دروب طفولتي، دروب الراعي الأول. الراعي لا يشبه البحيرة الراكدة، بل هو نهر متدفق، يمتد إلى الأقاصي، الراعي قلق طفولي.

يهرب الراعي بقلبه وأغانيه إلى الجبال والقرى والأطراف والأرياف والصحراء والأقاصي. وفي الأقاصي تتشكل كينونة الراعي وعوالمه وهواجسه ورعبه من المدن المدجّنة، لا تغريه المدن، ولا البيوت، فهو راحل ومرتحل، يتسرب كالماء نحو رائحة الرحلة، الهروب، والمنفى.

في دمنا رائحة السلالات المرتحلة، أسلافنا ارتحلوا في الأرض هربًا من ضجر الأمكنة، وخوفا من شباك الخديعة، بحثا عن روائح وظلال وأصوات أخرى تنبت في ذاكرتهم لكيلا تصدأ الرحلة والطريق. يصنعون للأمكنة حفلة من الأصوات، ويتركون رماد مواقدهم كدمعة وداع أخيرة للأمكنة. لكن بكل تأكيد ليس كل مرتحل راعيا، ولكن في دم كل راع تسري شلالات وبراكين الارتحال. خِفاف يعبرون الأرض والذاكرة، عابرون في المعنى، مجرحون في الهامش. هامشيون في القصائد، وحياتهم قصيدة مستوحدة بأحلامهم. سترى دربا قديمة تشقّ جبلا من جبال الحجر العُمانيّة، أو جبال الهمالايا أو جبال توبقال، تلك هي القصائد التي كتبها الرعاة بدمهم.

رأيتهم في أحلامك، وفي صباحاتك البعيدة، يعبرون الوديان نحو قرى بعيدة، لا يلتفتون إلى الوراء، رعاة في الجبال، رعاة في الغابات، رعاة في الصحاري، ورعاة في الأحلام، رعاة في الماء، لا يحملون على ظهورهم سوى الترحال، أغانيهم أناشيد لسلالاتهم، وتعويبات للفقد والغياب الممتدين. يضعون على رؤوسهم قبعات الرحلة، وعمائم التعب، وقمصان الصعود نحو البعيد. لا تفسدهم سوى المدينة والراحة والضجيج، لا شيء ينعش روحهم سوى العزلة والرحلة والصمت، تمتد رحلتهم بحثا عن زهرة العزلة المفقودة في الجبال وقلب الصحراء.

الصيادون رعاة أغرتهم البحار، الفلاحون رعاة لشرايين الأرض، الشعراء رعاة لخيول المجاز، الساردون لا راعي لهم سوى الخيال.

«لطالما أدركوا

أن الغياب نسر جارح

والجهات محطات

لمن لم يجدوا أرواحهم

حالمة في الحياة

كثيرا أتعبهم الزمن

لكنهم لا يلتفتون إلى أي شيء

عدا الخضرة التي تشع

في النسائم الباردة

إسحاق الخنجري

الحارس

ما الذي يحرسه هذا الرجل الواقف على الأبواب والمدن والمعسكرات والشركات، والمناجم، والأحلام، والكوابيس، والكلام؟ هل يحرس الآخرين من خوفهم أم يحرس خوفه من الغرباء؟ ماذا لو لم يُخلق الخوف في الإنسان، ويتكوّر في المدن، وينساب مع الزمن، هل سيحتاج إلى حرّاس؟ نعم سيحتاج، لأن الجوع سيحاصره، وإذا لم يُوجد الجوع، سيخلق له وهما آخر، وإذا لم يجد له وهما سيزرع الخديعة في مخيلته. لا تقلق حتى اللصوص والقتلة والتافهين لديهم حراس.

ماذا يخيفك أيها العابر، لتحرس نفسك؟ هل هو الخوف مرة أخرى؟ أنت في علب أسمنتية، وأبواب مغلقة، وأسوار عالية، أوهام متجددة. لكنه الخوف. هل ستحرس نفسك من الموت مثلما حرست حياتك من الخوف؟ الخوف الغريزة الأولى التي رافقتك أيها العابر. كيف يمكنك أن تخاتل الخوف؟ جلبت الكلاب لتحرس خوفك، بنيت الأبواب العالية؛ خوفا من سكاكين الخوف.

*** *** ***

للحديقة حارس، وللمدينة حارس، وللمقبرة حارس، وللمدرسة حراس، وللخليفة حارس، وللص حارسان، وللمستشفى حارس، وللمطار حارس. للقصيدة حارس أعمى، للوحة حارس أعرج، للأغنية حارس أصم، الرحلة دون حارس.

للمقهى حارس، وللمسجد حارس، للسوق حارس، للوهم حراس، للخديعة حراس، وللكرة حارس. وللحارس حراس. إنها اللعبة المتدحرجة. علينا إن نحرس كل شيء ونخاف. أو أن يُصنع لنا وهم لنحرسه، وتمضي حياتنا حارسة ومحروسة في أقفاص وأوهام.

حارس الحديقة يراقب ضحكات الأطفال، يحرسها من جروح الزمن، وقسوة الأمومة، يصرخ بضحكات الأطفال ألا تتوقف لكي تكسر وحشة حياته في الليل، حارس المقبرة أكثر وحشة ورعبا من الموتى الذين يحرسهم، ماذا أحرس الآن؟ الموتى، أم خيباتي، أم الليل؟ ماذا يريد الأحياء من الأموات؟

حارس الظلال محروس بالشعر. وحارس العزلة محروس بالأبدية.

حارس الزنازين مسجون، لا يعلم لماذا يقف على أبواب مغلقة، هل يحرس لصوصا أم يحمي لصوصا أكثر وحشيّة؟ عليه أن يتحمل ضجر السجن ويحمله إلى قبره، وأن يروّض الزمن لا ليمتطيه، بل ليخاتله. حتى السجّان يقتله الزمن اللزج.

حارس المدينة فزاعة في حقل ميت. اللوحة تحرس عزلة الجدران، العاشق يحرس هشاشة العاطفة وخيبة الزمن. الفاصلة حارسة صامتة بين جملتين، الجسر حارس مرح للضفتين، وعندما ينام الجسر تتعانق الضفاف، النهر حارس أرواح الغابات. الميناء حارس لعتبات الماء والمدى، وعاشق خجول لأصوات المسافرين.

حارس السينما الأصم، يرى عيون العشاق لكنه لا يسمع كلماتهم الهامسة في الظلام، يعلق أغلفة الأفلام على مدخل السينما، ويحرس الشاشة من القبح. وعندما يخرج المشاهدون من صالة العرض يجمع الضحكات المصطنعة والدموع الباردة، ثم يربطها في كيس أسود، ويرميها في القمامة. حارس الوقت قلق. الشاعر يحرس الشرفات المفتوحة، والسارد يحرس تفاصيل الزمن وعشب الدهشة.

حارس مكتب البريد، جنرال للكلام والأشواق، في المبنى المتهالك الذي تصله الرسائل، يحبسها في أدراجه، يتلصص عليها، يهملها أحيانا، يوصلها أحيانا بسرعة البرق، أخبار موتى، أشواق عشاق، دموع الأمهات، حنين الآباء، لا يعلم هذا الحارس ما داخل هذه الأوراق. فقط يودعها الأدراج أو أيادي المتلهفين والمغتربين.

الشعراء تخلوا عن أحلامهم، تركوا القصائد دون حرّاس ولا أبواب، تلصص النقاد على دهشة الشعر وأفسدوه، نصّبوا أنفسهم حراسا لظلال الشعر.

الشرفة حارسة أولى لدهشة الطفل، الأشجار حارسات لحديقة النبل، الفجر حارس ثمل للزمن. جبال الحجر حارسات لحكايات العمانيين وذاكرتهم.

ثمة حراس لا يتركون أبواب حياتهم، وآخرون يحرقون حياتهم في نوافذ الزمن. وتظل الحكاية حارسة ذاكرة الإنسان وخيباته.

حمود سعود قاص وكاتب عماني