655456
655456
عمان الثقافي

أغنية على السطح - بورتريه موسيقي لآمال مثلوثي

26 يناير 2022
26 يناير 2022

هل تفكرت يوما في الحياة دون موسيقى؟ كيف ستمر بنا ونمر بها، بأصواتها الحقيقية المجردة الجارحة؟ هل تشعر بالفجاجة والابتذال في السؤال مجردا دون الإجابة وقبل الإجابة؟

فكّر إذا بفداحة السؤال في زمن الكورونا. في كل الوحدة والوجع والفقد والحب والحنين والعزلة والخوف والترقب، كلها متفرقة ومجتمعة تُعمل أثرها في روحك وأنت وحيد أعزل، دون موسيقاك، دون تهويدتك، ودون أغانيك التي لملمت شتات روحك وحفظتها من العطب بفعل الزمن والبشر ونزوات آلهة الأولمب. الخطأ الذي تحدث عنه نيتشه، سيغدو جريمة!

عندما صدر البيان رقم «صفر» والبيانات التي تلته وتوالت بعده، وبدأت البشرية تحدق في الموت ويتداعى وهم خلودها. عندما أُغلقت الحدود، وأُقفلت الأبواب، وخلت الطرقات، وأصبحت الحياة خارج صناديق الإسمنت جريمة، ألم تفكر في الصعود إلى سطح منزلك لتغني؟ لابد أن الفكرة راودتك. ربما منعك وجه جارك المتزمت، أو وقار ألزمت به نفسك وتورطت به، وربما كان المانع أكثر نبلا، وخشيت من وقع صوتك الصادح بالغناء على آلام من حولك وآذانهم.

أيا كان السبب الذي أوقفك وأنت تهم بصعود الدرج، لابد أن شيئا من الحسد خالج نفسك وأنت ترقب أولئك الذين تخففوا من ذواتهم ومن الآخر، وبينما البشرية تُشرف على خسارة كل شيء، انطلقت حناجرهم تصدح بالغناء. كم بدوا أحرارا أولئك الإيطاليون الذين خرجوا إلى شرفاتهم ليغنوا في وجه الموت والأكفان والتوابيت المرصوصة!

هكذا بدت أيضا آمال مثلوثي، على سطح عمارتها في تونس، وهي تغني للحلم والخيال وانعتاق الروح البشرية من سجن الراهن وقيوده. وجهٌ ملائكيٌ حالم، يخفي خلفه روحا حرةً متمردة، تشي بها خصلات شعرٍ مجعدٍ تعبث بالريح، في إطارٍ أبيضٍ وأسودٍ خارج الزمان والمكان. حين تشاهد الفيديو المصور لها وهي تغني «حلم»، تشعر لوهلةٍ أن ما أمامك هو بورتريه قديم أنطقته اللحظة.

في ١ مايو ٢٠٢٠، نشرت آمال فيديو مصور لأغنية جديدة أسمتها «حلم»، كتبتها ولحنتها وغنتها وصورتها بنفسها، بواسطة كاميرا الهاتف المحمول، على سطح المنزل الذي نشأت فيه في تونس وعاشت فيه طفولتها؛ لتقاوم بتلك الأغنية الحجر والعزلة والقيود. وحصدت الأغنية، في غضون فترةٍ وجيزة، ملايين المشاهدات.

تبدأ الأغنية بـ«للو» كبيرة. «لو» المراوغة الجارحة التي تجترح لك من المستحيل أملا، وتوصلك إلى عتبة الحلم، وتُسلمك للخيال، لكنها أبدا لا تضمن لك النهاية؛ ف «لو» واحدة بريئة في بدايتها، تكفي لكسر عنقك. ومع ذلك، فإن غوايتها -دائما- أكبر من حذرك.

و«للو» آمال، هي «لو» المستقبل، وليست «لو» الماضي التي تفتح عمل الشيطان. إنها «لو» الحلم، والاحتمالات، واللاحدود. إنها «لو» الضرورية، المنقذة، التي بها يتشبث البشر في وجه مأساتهم.

«لو كنت نغمض عينيا

وتأخذني الأحلام من إيديا

ونعلا ونحلق في سما جديدة،

وننسى الوجايع..»

وتغمض آمال عينيها فعلا وهي تغني؛ إذ كيف لها أن تحلُم وهي مفتوحة العينين؟ لا بد أن تُغمض عينيك حتى ترى حُلمك وتسلم يديك إليه ليقودك، مستسلما له، مؤمنا به. وما يصدق على الحلم، يصدق على الحب، لذا غنت أم كلثوم، من كلمات جورج قرداح:

«ثم أغمض عينيك حتى تراني

وليكن ليلنا طويلا طويلا

فكثير اللقاء كان قليلا

سوف تلهو بنا الحياة وتسخر

فتعالَ أحبك الآن أكثر..»

ولم تصدق هذه الأبيات قط كما صدقت في زمن الكورونا؛ فأي سخريةٍ ولهوٍ أكبر مما اقترفه هذا الكائن المجهري الضئيل في حياتنا. وبماذا واجهناه نحن البشر؟ عند الصدمة الأولى، ارتبك العلم، وتكشفت الثغرات في خطوط دفاعنا العملية، واحتاج العقل برهةً من الوقت حتى يستجمع أفكاره، وكان الحب هو الوحيد الذي وقف ثابتا صابرا عند الصدمة الأولى. في تلك اللحظة من عمر البشرية، أدركنا جميعا كم نحب الحياة التي كنا نلعنها، وكم نحب بعضنا، وكم نحب ذلك الذي رحل باكرا، وأولئك الذين بقوا من بعده.

وإلى أن يستعيد العلم والعقل اتزانه بعد الضربة المباغتة، اعتصمنا بملجئنا الأزلي، بالحلم والخيال في سفرنا الذاتي الداخلي، وفيما نقدمه للآخرين من موادٍ إبداعية تتجلى فيها عظمة الروح البشرية وصلابتها وقدرتها على الخلق والإبداع في أحلك اللحظات.

«لو كنت نسافر في خيالي

نزرع ونبني قصور وليالي

يكبر فيها الحب وآمالي،

ونمحي الآلام..»

بصوتها العميق الروحاني، تدعوك آمال إلى حياةٍ أخرى، في خيالك، تزرع فيها وتبني، وتُحب، وتأمل، وكلها أفعال خلقٍ ومقاومة، تخلقُ الحياة وتصنعها، وتقاومُ العدم والموت والضعف والقحط والشح الذي يحاصر وجودك. إنها الحياة الأخرى التي يعدكَ بها الخيال، خصبا ثريا أخضر اللون حتما. ومن لك في سجنك إلا سماوات الخيال في زرقتها اللانهائية؟

ومع ذلك، لا بد أن نسأل: هل تدعونا آمال إلى الحياة أم إلى هروبٍ كبيرٍ منها؟ هل نحلق بخيالنا في سماءٍ مفتوحةٍ، أم نهبط في نفقٍ إليه؟ والحقيقة أن آمال لا تهرب، إنها تلتف التفافةً كاملةً على «لوّها» المراوغة، وتعود لتلقيك ممرغَ الوجه في الواقع؛ فالنصف الآخر من الأغنية، سطلُ ماءٍ باردٍ، أُحذرك من وقعه إن لم تكن قد استمعت إليها.

«دنيا ترى فيها ملامح ناس

قوسها الظلم والبؤس والقهر

من واقعٍ عاسرٍ يعبث بكل ما نبنيه

دنيا علت فيها أسوار طغيان

سحق فينا أحلاماً أحلام

وعم الظلام والأنانية

في كل القلوب..»

في مفارقةٍ صادمةٍ لمطلع الأغنية الحالم العذب الذي يُخرجك من حدود الواقع الضيقة إلى عالمٍ رحب فسيحٍ، يأتي نصفها الآخر داكنا حالكا ليرسم وجوها ألفناها جميعا، وربما رأيناها كل صباح في المرآة. وجوهٌ ترتسم على ملامحها آثار البؤس والقهر، في عالمٍ يسحق الحلم قبل أن يرفع رأسه. أليس هذا هو الواقع ذاته الذي صعدنا معا على السطح لنصدح بالغناء في وجهه؟ ما الذي حدث إذاً؟ ولماذا نجد أنفسنا -بعد ذلك المسير- في مواجهته مرةً أخرى، وكأنها متاهةٌ قاسيةٌ تعيدك لنقطة البداية كلما ظننت أنك ابتعدت عنها؟ ما الذي تحاول آمال أن تقوله؟

لا نعرف -على وجه التحديد- ماذا أرادت آمال أن تقول. ولا نجرؤ على سؤالها عن قصدها، رغم أن الملحق حاورها تمهيدا لإعداد هذه المادة، لأن من الفجاجة والفظاظة أن تسأل شاعرا أو فنانا: ماذا تقصد؟ هل تستطيع أن تفكر في إهانةٍ أكبر من تلك؟! لكننا نستطيع معا أن نخمن، أليس كذلك؟ نستطيع استنطاق تجاربنا الفردية والجمعية لتخبرنا أن الحلم والخيال ليسا مطيةً للهروب ما دامت الروح حيةً، وإنما عتبةٌ نحو تغيير العالم، لذا نشرب، جيلا بعد جيلا، وعصرا بعد عصر، وزمانا بعد زمان، نخب الحالمين الذي أتوا بنا إلى اليوم، وأولئك الذين سيذهبون بنا إلى الغد.

لآمال، كانت قسوة كورونا وشراستها لحظة وعيٍ تدفعها نحو تغيير العالم. سألناها عن الخوف والموت والعزلة والضعف، فأجابت «بالعكس، كانت فرصةً لنتوقف، ونتأمل، ونفكر في تغيير عالمنا نحو الأفضل».

أما موسيقيا، فكانت كورونا فرصةً لآمال لتعود إلى جذورها، وتتواصل مع جمهورها مخاطبةً الروح منهم بأبسط الأدوات؛ بصوتها العميق الدافئ، وجيتارٍ أعارها إياه أحد المعجبين، وكاميرا الهاتف المحمول، على سطح المنزل الذي عاشت فيه طفولتها وشهد أحلامها ومحاولاتها الغنائية الأولى. هذه التجربة، وصفتها آمال في حوارٍ سابقٍ بأنها تجربةٌ علاجية لها ولجمهورها. في أربع دقائق، أرادت آمال للناس أن «يشعروا أنهم أكبر من الأوضاع الصعبة، أكبر من المشاكل. وحتى إن كانت الحياة أكثر تعقيدا من أن نحلها بأغنية، لكن الأغنية فضاءٌ نلتقي جميعنا فيه».

وهل تُعاش الحياة إلا هكذا؟ أغنيةً فأغنية.

آمال مثلوثي مطربةٌ وملحنة وكاتبة أغانيٍ تونسية، اشتهرت بأغنيتها «كلمتي حرة» التي أصبحت نشيد الثورة التونسية في الربيع العربي. وأغنية «حلم» جزءٌ من ألبوم « يوميات تونس» الذي سجلته آمال بإمكانيات فنية بسيطة، وجيتار مستعار، لتوثق من خلاله معايشتها لفترة الحجر والعزلة في تونس.