No Image
عمان الثقافي

«أصابع» عبدالله حبيب

22 فبراير 2023
22 فبراير 2023

يثير فيلم «أصابع» للناقد والمخرج السينمائي العُماني عبدالله حبيب أسئلة كثيرة تتعلق بماهية العمل الفني وبنيته. ما يستدعي سؤال الماهية هو أن عبدالله حبيب استتبع عنوان فيلمه بعنوان فرعي هو: «فيلم شخصي»، وهي عبارة توحي أن هذا الفيلم عبارة عن شأن شخصي لا علاقة له إلّا بعبدالله حبيب، ما يزيد حدة الالتباس هو حضور عبدالله حبيب في مشاهد الفيلم بدءا من اللقطات الأولى التي تظهر فيها جوانب من غرفته، ونصَّه الشعري الطويل «فاطمة»، وشهادة تقدير حصل عليها، وصولا إلى ظهوره الشخصي في عدة لقطات، وانتهاءً بالمشهد الختامي لاثنين من كتبه على شاطئ البحر ومنهما مجموعته القصصية «قشة البحر» تشتعل فيه النيران. أما السؤال عن بنية العمل الفني فيستدعيه تلاعب عبدالله حبيب بالبناء الفني التقليدي للفيلم؛ بل تكسيره إلى شظايا متناثرة، ثم إعادة تجميع هذه الشظايا، وتوحيدها في بنية فنية متماسكة.

بيد أن الأسئلة التي لم تُسأل هي العقبة التي تخفي العالم، وإذا اكتفى المُشاهد بالانطباعات الأولية، ولم يُجهد نفسه في تتبع الترابط الداخلي بين لقطات الفيلم، فسيجد نفسه واقفا أمام هذه العقبة، ولكن إذا اجتازها سيرى نجوما تتلامع في سديم الوعي، ودروبا من المجازات والاستعارات يتقاطع فيها تاريخ الفرد بتاريخ الجماعة، ويرتبط فيها مصيره الشخصي بمصير الإنسانية.

السؤال عن الماهية

السؤال عن ماهية العمل الفني من أصعب الأسئلة، ولقد كدح فيه الفلاسفة والنقاد حينا من الدهر ولا يزالون فيه يختلفون، ولكن ربما نحسن الدخول إليه من باب أن الفنون جميعًا هي وسائل تعبير، والتعبير مشتقٌ من كلمة العبور أي الانتقال من جهة إلى أخرى، وبالتالي فالتعبير الفني هو طريقة لنقل تجربة أو رؤية ذاتية إلى الآخر سواء باللغة أو الصورة أو أي وسيلة أخرى، وكلما كانت التجربة لا تنحصر في ذات الشخص، أي الجزئي، بل تعبر أيضا عن البعد الإنساني، أي الكلي، كلما انتمت التجربة المُعَبَّر عنها إلى ماهية العمل الفني، باعتبار أن الماهية فكرة كلية تعني كل إنسان وليست تفصيلا حياتيا جزئيا لا يعني سوى فرد أو شخص بعينه. بهذا المعني فإن ماهية العمل الفني لا تتعلق بكون الموضوع هو شخص المبدع وسيرته أم أشخاص آخرين وسيرتهم بل في نجاح المبدع في إظهار البعد الإنساني الكامن في موضوعه، فعدد كبير من لوحات رامبرانت ليست سوى بورتريهات شخصية، ولكنها تتجاوز صورة رامبرانت وملامحه الشخصية لتعبر عن البعد الإنساني الكامن فيها الذي يخص كل إنسان. فإذًا عبارة «فيلم شخصي» اللاحقة لعنوان الفيلم، وظهور عبدالله حبيب في الفيلم، واللقطات التي تظهر فيها تفاصيل من حياته ليست سوى المادة الذاتية الأولية التي اشتغل عليها الفنان، أما الإبداع الفني السينمائي فيكمن في مدى نجاحه في التعبير من خلال هذه المادة الذاتية الأولية عن كينونة الإنسان ووجوده في العالم.

حكاية الأصابع

تحتل الأصابع مكانة كبيرة في هذا الفيلم؛ فالعنوان يشير إليها، وأنغام «سوناتا ضوء القمر» لبيتهوفن المتواصلة طوال الفيلم تدل عليها؛ بل إن الأصابع هي الشخصية الرئيسية التي تتركز عليها الكاميرا في معظم مشاهد الفيلم. تظهر هذه الأصابع في الشاشة ككيانين مستقلين، الكيان الأول أصابع يد رجل، والكيان الثاني أصابع يد امرأة، وهما مرتبطان بعلاقة حميمة يعبِّر عنها الكفين المتلاصقين والأصابع المتشابكة طوال الفيلم، لكن هذه الأصابع رغم تشابكها لا تكف عن محاولات الافتراق والاقتران، ويترافق مع حركتها المتناقضة بين الالتحام والانفصال حوارات تدور بين امرأة ورجل، دون أن يظهر وجهيهما، وهو ما يوحي بأن الأصابع تعود للمرأة والرجل اللذان تُسمع أصواتهما دون أن يظهر وجهيهما على الشاشة. إن حركة الأصابع تبدو طوال الفيلم وكأنها تحيك السرد، فمنها تتوالد الأحاديث والحكايات الأشبه بمنمنمات صغيرة؛ أي أن الأصابع هي الحكاية الرئيسية التي تتوالد منها بقية الحكايات؛ مثلما تتوالد آلاف الحكايات في ألف ليلة وليلة من حكاية شهرزاد وشهريار.

لكن أصابع عبدالله حبيب تكتفي بثلاث حكايات رئيسية، أولهما حكاية الأصابع، وثانيهما حكاية موازية تبدو كمشاهد يومية من حياة وسيرة مخرج الفيلم عبدالله حبيب، وأخيرا حكاية أخرى تبدو كلقطات مقتطعة من سيرة السينما وتاريخ السينمائيين. قد تبدو حكاية الأصابع بسيطة؛ إنها حكاية شاب وشابة يتبادلان الأحاديث عن حياتهما اليومية وأحلامهما. توحي أصواتهما، وأسلوب حديثهما، والكيفية التي يناقشان بها قضاياهما بسذاجة وعيهما المغمور في شؤون الحياة اليومية. إنهما شخصان من عامة الشعب لا علاقة لهما بالأفكار أو الثقافة، ولا شيء خارج المعتاد في حديثهما سوى حلم الشاب بأن يصبح سينمائيا بدلا من أن يحلم بأن يبني بيتا جديدا يسكن فيه وأسرته مثل عموم الناس في مجتمعه، لكن هذا الحلم السينمائي الذي استولى على وجدان الشاب وخياله هو النواة التي استل منها عبدالله حبيب خيوط عمله السينمائي ليربطها مع حكاية حبه الشخصي للسينما، ومع سيرة السينما والسينمائيين. إن حكاية أصابع الشاب والشابة، وحكاية عبدالله حبيب، وحكاية السينما والسينمائيين تظهر كثلاث حكايات مستقلة تتنقل بينها مشاهد الفيلم، لكن هذه الحكايات الثلاث تتقاطع وتترافد وتشكل جميعها المجرى الأساسي لموضوع الفيلم.

تأويل الحكاية

إن البُعد الإنساني في العمل الفني لا يتضح إلّا بالتأويل، وتأويل أمرٍ ما هو إرجاعه إلى المعنى الأصلي الذي يؤول إليه كما يقول عبدالقاهر الجرجاني، فإذًا ما هو تأويل الأصابع في هذا الفيلم؟ يبدو واضحا أن الأصابع في هذا الفيلم ليست مجرد أصابع بل هي استعارة تمثل الإنسان، إنها الجزء الذي يُمَثِلُ الكل، يتأكد هذا الحضور الاستعاري للأصابع من خلال ظهورها على الشاشة مستقلة عن باقي الجسد المحجوب في الظلام. إن تسليط الضوء على الأصابع وإبقاء باقي الجسد قابعا في الظلام ليس استعارة لغوية بل هو استعارة بصرية إن جاز التعبير. استعارة تمارسها الكاميرا وتتحول بموجبها أصابع شخصيات محددة يمكن معرفتها وتحديد هويتها إلى أصابع مجردة تُمَثِل، بوصفها استعارة فنية، كل إنسان، فما الذي تقوله هذه «الأصابع» في هذا الفيلم عن الإنسان؟

إن التحام أصابع المرأة والرجل طوال الفيلم لا يعبر فقط عن العلاقة الوجودية الحميمة بين الرجل والمرأة، بل يتعدى ذلك إلى تصوير الكينونة الإنسانية باعتبارها وشيجة وجودية قوامها المرأة والرجل، فالكفان المتلاحمان للمرأة والرجل في الفيلم أشبه بجذع شجرة الذات الإنسانية، لكن هذه الوشيجة الوجودية المتجذرة ليست ساكنة في برزخ المحبة، بل هي تتأرجح بين رغبتين متناقضتين أولهما التوق للتوحد بالآخر، وثانيهما الشوق للانعتاق والتحرر من ربقة الآخر، وهو ما يجعل الأصابع لا تكف طوال الفيلم عن حركاتها المتناقضة للاشتباك بأصابع الآخر والانفكاك من قيدها. إن هذه الحركات المتناقضة للأصابع تصور الديالكتيك الداخلي المحتدم للكينونة الإنسانية بين الحب والحرية، والوجود والعدم، ليست الأصابع هي الاستعارة الوحيدة في الفيلم، بل حتى صوت المرأة والرجل هو استعارة أيضا، فالمُشاهد لا يرى وجه المرأة ووجه الرجل بل يسمع فقط صوتيهما وهما يتحاوران، وهو ما يعني أن الصوتين لا يمثلان أشخاصا بعينهم بل هما استعارة صوتية، إن جاز التعبير، تمثل أي امرأة ورجل. إن أحاديث الرجل والمرأة في الفيلم أشبه بمونولوجات داخلية حميمية تعبر عن أي امرأة ورجل في العالم يحلمان بالحب، والوجود المشترك، ويواجهان معا سلطة المجتمع الخارجي ومتطلباته، بهذا التأويل لحكاية الأصابع والأصوات ترتسم الأبعاد الإنسانية العميقة للفيلم، فهو فيلم يصور العلاقة العميقة بين الكينونة والسينما، وليس شأنا شخصيا كما أراد مخرج الفيلم أن يوهمنا. إن حضور عبدالله حبيب في مشاهد الفيلم لا يعني أن الفيلم شأن شخصي بقدر ما يعني أن حياته الشخصية هي مثال من الأمثلة الحية التي تجسد العلاقة الشائكة بين الكينونة والسينما، إن الحلم المثالي المولع بالسينما الذي تعبر عنه الأصابع يرتطم بالواقع الذي تجسده سيرة عبدالله حبيب السينمائية، فهو العاشق، والشاهد، والمُشاهَد، وهو الشهيد الذي صرعه العشق السينمائي الذي أودى قبله بسينمائيين كبار مثل تاركوفسكي وبازوليني، وهو ما يبرر حضور لقطات من أفلامهم، وسير حياتهم في هذا الفيلم الذي يعبر عن علاقة الكينونة بالسينما.

البنية الفنية

تقول أصابع المرأة لأصابع الرجل وهما يتحاوران في الفيلم: إن فيلمك يخالف مفهوم أرسطو للفن؛ لأنه ليس له بداية ووسط ونهاية. إنه نقد سينمائي ذاتي مبطن يسرح بعفوية داخل الفيلم، وهو يوحي بتعمد مخرج الفيلم الخروج عن الشكل الفني التقليدي للأفلام السينمائية. يبدأ المشهد الأول للفيلم بلقطة طويلة مقربة على ستارة نافذة في غرفة عبدالله حبيب وكأنها ستارة المسرح التي ستنفتح ليبدأ العرض، ثم تتحرك الكاميرا متجولة في أنحاء الغرفة وتعود من جديد للتوقف عند ستارة النافذة، وكأنها تقول: إذا أردتم الشكل الفني التقليدي للفيلم فها هي ذي بداية الفيلم ووسطه وخاتمته، أما إذا أردتم الفحوى والمضمون فليست هنالك حاجة لبداية ونهاية، فالخاتمة قد تكون البداية، والبداية قد تكون الخاتمة، فالزمن النفسي ليس له بداية ونهاية، إنه فيلم يحكي عن الحب، وكل قصة حب هي وقوع في شرك الأبدية التي ليس لها بداية أو نهاية.

تتنقل الكاميرا بين ثلاثة عوالم تبدو منفصلة: عالم الأصابع، وعالم عبدالله حبيب، ولقطات من تاريخ السينما والسينمائيين. ولكن كل قصة من هذه العوالم تحيك بأنوالها ثوب القصة الأخرى، فحلم الأصابع بالإبداع السينمائي، الذي تعرضت ربما بسببه للتحقيق من الجهات الأمنية، يتقاطع مع مشاهد صور مقتل المخرج الإيطالي بازوليني، ومشهد البيت المحترق من فيلم «القربان» لتاركوفسكي يتقاطع مع المشهد الذي يظهر فيه عبدالله حبيب عاري الصدر وهو يواجه الكاميرا ليذكرنا بأن البيت الشعري سميَّ بيتا؛ لأن الشاعر يسكن في هذا البيت الشعري، لكن بيت عبدالله حبيب الشعري المتمثل بمجموعته القصصية «قشة البحر» يحترق في المشهد الأخير قرب البحر وكأنه يحاكي البيت المحترق في فيلم «القربان».

لقد أبدع عبدالله حبيب في فيلمه «الأصابع» السينما التي أحبها، وبالشكل والمضمون السينمائي الذي يعبر عنه. إن فيلمه هو قصيدة شعرية، ومسرحية رمزية، ونقد سينمائي، وسيرة ذاتية، وتأريخ للسينما، وكأنه أراد أن يثبت أن السينما تستوعب كل الفنون، كما أن تكسيره للشكل الفني التقليدي هو تأكيد أن الإبداع السينمائي يتجاوز الأشكال، والتسلسل الزمني الواقعي، والكلمات، والمفاهيم السائدة؛ لأنه في المقام الأول كلمة الفنان الخاصة، وكل كلمة تبدع شكلها الفني الذي لا يشبه أحدا إلا مبدعها، ولهذا فإن فيلم «الأصابع» هو شأنٌ إنساني، ولكن لا يشبه أحدا سوى عبدالله حبيب.