No Image
عُمان الاقتصادي

هل يتخلى الشباب عن طموحاتهم؟ التمويل .. ازدهار الأفكار وتطلعات المبتكرين

12 نوفمبر 2025
12 نوفمبر 2025

محمد بن أحمد الشيزاوي -

على مقاعد الدراسة تزدهر الكثير من الأفكار لمشروعات شتى؛ حيث يسعى الطلبة والطالبات للتغلب على الواقع بابتكارات جديدة تلبي طموحاتهم، وتتحدى العصر الذي يعيشون فيه. قد تكبر هذه الأفكار لتصبح مشروعا بعد عدة سنوات، وقد تتوارى عندما يجد الطلبة أن الواقع أقوى من طموحاتهم، وأن هذه الأفكار تحتاج إلى من يؤمن بها من المستثمرين والبنوك وشركات التمويل.

قد تكون هذه -أي معضلة التمويل- أولى المشكلات أو التحديات التي تواجه «الأفكار» قبل تأسيس أي شركة، ولكن بعد ذلك تظهر تحديات أخرى لا تتعلق بالتمويل فقط، وإنما تشمل أيضا بيئة التمويل بشكل عام وأسلوب الإدارة، ومدى إيمان العاملين بفكرة المشروع وطموح الشركة ورؤيتها للمستقبل.

يعد التمويل واحدا من أبرز التحديات التي تواجه الشركات منذ الفكرة الأولى للمشروع. بل إن التمويل قد يحدّ من نمو الأفكار وازدهارها حتى وإن بدا في أحيان كثيرة صامتا وخفيا، وبدلا من أن يفكر الشباب في تحقيق كل أهدافهم يقتصرون على مرحلة أولى قد تقودهم بعد ذلك إلى مراحل أخرى أو يتراجعون عن ذلك بعد حين.

وعلى الرغم من أننا قد نتمكن من تنفيذ الكثير من الأفكار بتمويل ذاتي محدود؛ إلا أن الواقع يؤكد أنه لا يمكن للمشروعات أن تحقق أهدافها إن لم تجد التمويل الكافي. وكثير من الشركات ظلت تعمل في الحيّ الذي نشأت فيه لعدة عقود؛ لأنها لم تطرق باب التمويل لتنمية أعمالها في الفرع الأول وافتتاح فروع جديدة في الأحياء المجاورة أو خارج حدودها المحلية، وهناك مشاريع كثيرة ظلت حبيسة الأدراج لعدة سنوات حتى وجدت التمويل الذي يخرجها إلى الواقع.

وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا تتباطأ الجهات التمويلية في تمويل الشركات الناشئة والأفكار الطلابية؟ ولماذا تجد الشركات الجديدة حول العالم صعوبة في الحصول على التمويل؟ قد يبدو الأمر معقدا جدا؛ فالجهات التمويلية كالبنوك تعتبر تمويل الشركات التي لا تمتلك سجلا للإيرادات والأرباح، وليست لديها ضمانات كافية فيه مخاطرة بأموال المساهمين والمودعين، وهو ما يستدعي جهودا أكبر من قبل الشركات الناشئة لإقناع الممولين بأهمية المشروع وجدواه الاقتصادية. الجهات التمويلية كثيرا ما تحتاج إلى دراسات جدوى اقتصادية أكثر عمقا، وخطة زمنية مفصلة لتسديد الالتزامات المالية، وتصورا واضحا لحجم الإيرادات وقدرة المشروع على النجاح. وكلما كانت الفكرة واضحة لدى المستثمرين استطاعت الشركة إقناع الجهات التمويلية بجدوى التمويل وأهميته للطرفين. ورغم ذلك نجد كثيرا من الجهات التمويلية تتجه إلى «التشدد» في سياساتها لتمويل مشروعات الشركات الناشئة والأفكار المبتكرة، وهو ما يجعل الكثير من الشركات تتراجع عن أفكارها وتتخلى عن طموحاتها.

إذن ما هو الحل؟  في الحقيقة هناك الكثير من الحلول، وعلى سبيل المثال؛ فإن تنوع البرامج التمويلية لدى البنوك وشركات التمويل في سلطنة عُمان يتيح آفاقا عديدة لنمو الشركات وازدهار الأعمال. فمثلا، يقدم بنك التنمية العُماني قروضا متنوعة لتمويل المشروعات بدءا من المشاريع متناهية الصغر إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة والتمويل الموسمي للمشروعات الزراعية وانتهاء بتمويل الشركات، وتقدم البنوك التجارية والبنوك والنوافذ الإسلامية حلولا تمويلية متنوعة بما في ذلك تمويل المشروعات الكبرى. وقد شهدت شركات التمويل والتأجير التمويلي تحولا مهما في حلول التمويل بعد أن أتاح البنك المركزي العماني في عام 2023 لهذه الشركات توسعة أنشطتها لتشمل «تمويل المشاريع التجارية ومشاريع التطوير العقاري؛ من أجل بناء الوحدات السكنية، ومنح تسهيلات رأس المال العامل؛ لتشجيع هذه الشركات على زيادة تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها من القطاعات بالإضافة إلى قبول الودائع من المؤسسات، ومنح قروض شخصية للأفراد وفق ضوابط محددة».

وعلى هذا فإنه لا توجد لدينا مشكلة في البرامج التمويلية أو جهات التمويل، كما أنه لا توجد أي إشكالية في السياسات العامة للتمويل. ورغم كل هذا تظل مشكلة التمويل قائمة، ويرجع السبب في ذلك إلى ضعف ثقافة التمويل المبتكر لدى العديد من البنوك وشركات التمويل التي تميل إلى تمويل الأنشطة التقليدية التي تتميز بمخاطر منخفضة في حين لا تحظى المشروعات الجديدة أو القطاعات الناشئة والأفكار المبتكرة باهتمام الجهات التمويلية، وهو ما يشير إلى وجود فجوة بين السياسات والبرامج التمويلية وجهات التمويل من جهة، والواقع الذي تعيشه الكثير من الشركات الناشئة من جهة أخرى. فهذه الشركات لديها العديد من الأفكار المبتكرة غير أن هذه الأفكار لا تحظى باهتمام البنوك وشركات التمويل؛ ولهذا فإن كثيرا من الشركات الطلابية لم تتمكن من الخروج من «الورق» إلى الواقع ليس لضعفها، بل لعجزها عن النفاذ إلى منظومة التمويل وقدرتها على إقناع الجهات التمويلية بجدوى مشروعها وقدرة أفكارها على تحقيق النجاح.

وبناء على هذا فإن معالجة هذا التباين في وجهات النظر بين الجهات التمويلية من جهة والمبتكرين والشركات الناشئة من جهة ثانية تتطلب تحولا في التفكير لدى البنوك وشركات التمويل والجهات المنظمة للقطاع، فعلى البنوك والجهات التمويلية الأخرى أن تنظر إلى التمويل على أنه استثمار ينعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني والمجتمع وليس مجرد عملية إقراض تخضع لضمانات ملموسة، وعلى الجهات التنظيمية توفير أُطُر تشريعية تمنح الجهات التمويلية مرونة أكبر لتمويل مثل هذه المشروعات وتشجيع التمويل المبتكر، وعلى الشركات الناشئة والمبتكرين كسب ثقة الجهات التمويلية وبذل جهود أكبر في إعداد دراسات الجدوى التي تُسلط الضوء على أهمية الأفكار وقدرة الشباب على تحويل هذه الأفكار إلى واقع حقيقي.

إن المراكز المتقدمة التي حققتها سلطنة عُمان في مؤشرات الابتكار العالمي وتنمية المواهب تعكس قدرات الشباب العُماني والإمكانيات التي يتمتعون بها، وفي المقابل فإن تشدد الجهات التمويلية من شأنه أن ينعكس سلبا على قدرات الشباب على تحويل الأفكار إلى مشاريع وقد يؤدي إلى تباطؤ نمو الشركات الناشئة، ورغم كل هذا لدينا تفاؤل بأن تتغلب أفكار الشباب ومشروعاتهم على تحديات التمويل وعقباته، ولعل تخصيص صندوق عُمان المستقبل (برأسمال عند ملياري ريال عماني) 10 بالمائة من رأسماله للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة من شأنه تقليص فجوات التمويل، وحتى نتجاوز الكثير من عقبات التمويل التي تواجه أفكار الشباب وطموحاتهم علينا بناء منظومة تمويلية تدعم المخاطرة المدروسة وتشجع الابتكار؛ فالتمويل محفّز للتنمية وشريك فيها، وعلى الجهات التمويلية ألا تنظر إلى نفسها على أنها مجرد جهة مُقرضة وإنما جهة مشاركة في التنمية، وفي نفس الوقت على الشباب والمبتكرين أن يبذلوا مزيدا من الجهود لإقناع الممولين بجدوى المشروع وتفرده وأنه ليس مشروعا عاديا وإنما ابتكار يستحق الاستثمارَ والعناءَ والمخاطرة.

محمد بن أحمد الشيزاوي كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية