No Image
عُمان الاقتصادي

دوغلاس نورث وأهمية المؤسسات في عملية التنمية الاقتصادية

11 يونيو 2025
11 يونيو 2025

  • «الإبداع المؤسساتي لم ينبثق من العدم، بل كان نتيجة لتفاعل بين اتساع نطاق التجارة من جهة، وظهور نظم قضائية وتنظيمية فعالة من جهة أخرى»
  • «المؤسسات هي التي تزوّد الاقتصاد ببنية الحوافز التي تحدّد اتجاه سيرورة التغيير الاقتصادي نحو النمو أو الركود أو التراجع»

يُعدّ المفكر الاقتصادي الأمريكي دوغلاس نورث (Douglas North) أحد أهم الأكاديميين والمفكرين الاقتصاديين المُنتسِبين إلى التيار المؤسساتي داخل علم الاقتصاد، وقد تركّزت معظم أبحاثه النظرية حول أهمية المؤسسات والتغيير المؤسساتي في عملية التنمية الاقتصادية، وقد حصل نورث على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1993 مناصفةً مع عالم الاقتصاد روبرت فوغل (Robert Fogel) تكريمًا لإسهاماتهما النظرية في مجال التاريخ الاقتصادي، وأبحاثهما السبّاقة إلى تطبيق النظرية الاقتصادية والتقنيات الإحصائية على التاريخ الاقتصادي وتأسيسهما بذلك لما يعرف بالتاريخ الاقتصادي الجديد.

ألَّفَ نورث العديد من الكتب في مجال التاريخ الاقتصادي ونشر العشرات من المقالات الأكاديمية في هذا المجال. ونذكر من كتبه العناوين التالية: «النمو الاقتصادي للولايات المتحدة، 1790-1860» (1961)، «التغيير المؤسسي والنمو الاقتصادي الأمريكي» (1971) واشترك في تأليفه مع الاقتصادي لانس ديفس، «صعود العالم الغربي: تاريخ اقتصادي جديد» (1973) وقام بكتابته رفقة روبرت طوماس، «البنية والتغيير في التاريخ الاقتصادي» (1981)، «المؤسسات والتغيير المؤسسي والكفاءة الاقتصادية» (1990)، و«فهم عملية التغيير الاقتصادي» (2005).

لقد آمن نورث في بداية مساره الأكاديمي بضرورة توظيف النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية واعتماد التقنيات القياسية والإحصائية من أجل فهم التاريخ الاقتصادي، لكنه مع مرور السنين وصل إلى قناعة بأن النظرية النيوكلاسيكية عاجزة عن تفسير ظاهرة النمو الاقتصادي تفسيرًا وافيا ومقنعا، فوقف على مسافة من هذه النظرية مراجعًا بعض مسلّماتها مثل عقلانية الأفراد، ومفضّلًا لاستثمار العلوم الاجتماعية من أجل فهم كيفية ظهور وتطور المؤسسات المحفّزة للنمو داخل مجتمعات بعينها، وتفسير السبب في بقاء المؤسسات غير فعّالة بل وأحيانا مثبّطة للنمو داخل مجتمعات أخرى.

دعا نورث في كتابه الموسوم «عملية التنمية الاقتصادية» (2005) إلى جعل المؤسسات في مركز اهتمامات التحليل الاقتصادي، وشدّد على أهمية إيلاء الأولوية لعملية لتغيير المؤسساتي في أي إستراتيجية تنموية باعتبارها محدّدًا مهما وحاسما في تفسير أداء الاقتصادات. فالمؤسسات وفقًا لنورث هي التي تزوّد الاقتصاد ببنية الحوافز التي تحدّد اتجاه سيرورة التغيير الاقتصادي نحو النمو أو الركود أو التراجع.

وكتب نورث في مقالة نشرتها مجلة الآفاق الاقتصادية (1991) تحت عنوان «المؤسسات» أن الناس قد أبدعوا عبر مرّ العصور مؤسسات من أجل ضبط التفاعل بينهم وإرساء النظام، إلى جانب تحقيق غايات أخرى مثل التقليل من حالة عدم اليقين المرتبطة بعملية التبادل وتكاليف التعامل التي تنتج عن ذلك. وعَرَّف المؤسسات على أنها القيود التي صمّمها الإنسان من أجل تأطير التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع، ومَيَّز بين المؤسسات الرسمية من جهة (الدساتير والقوانين وحقوق الملكية...) والمؤسسات غير الرسمية من جهة أخرى (الأعراف والتقاليد والمحظورات وقواعد السلوك ومنظومة الأفكار والقيم والتَمَثُّلات الاجتماعية...).نطلق نورث من قراءة التاريخ الاقتصادي للغرب ولأوروبا على وجه الخصوص من أجل الاستدلال على أهمية المؤسسات، والوقوف على الدور الذي لعبه بروز بعض المؤسسات في التطور الاقتصادي للبلدان الغربية. ويرى نورث في هذا الإطار أن التطور التقني الذي شهدته المجتمعات الغربية عقب الثورة الصناعية لم يكن لوحده كافيًا للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام عبر ازدهار اقتصاد السوق كما حصل في هذه المجتمعات، وإنما تطَّلب الأمر توفر بعض المؤسسات القانونية والاجتماعية مثل التشريعات التي تحمي حقوق الملكية. ويشرح نورث على سبيل المثال أن مشروع السكة الحديدية العابرة للقارة داخل الولايات المتحدة لم يعرف النجاح إلا بعد أن قررت الحكومة الأمريكية أن تمنح الشركات جزءًا من الأراضي المحيطة بخطوط السكة كتحفيزٍ من أجل دفعها إلى الانخراط في هذا المشروع. إذ أن مرور القطار بهذه الأراضي قد أدّى إلى تثمينها، وعرفت الشركات أنها ستحقق أرباحًا مهمة من وراء ذلك. وساهم ذلك في مراكمة الرساميل الضرورية لإنجاز مثل هذه المشاريع الضخمة.

وقد خصّص نورث كتابه الموسوم «صعود العالم الغربي: تاريخ اقتصادي جديد»، والذي نُشر عام 1973، لنظريته هذه حول التغيير المؤسساتي، وبَيَّن من خلال رصده للتاريخ الاقتصادي للغرب، علاقة المؤسسات بالنمو الاقتصادي. وقد ساعد بذلك على تمكيننا من فهمٍ أمثل لتحول المجتمعات الأوروبية من مرحلة الاقتصاد الإقطاعي القائم على الزراعة إلى الاقتصاد الرأسمالي القائم على الصناعة، والتطور الاستثنائي الذي حصل في إنجلترا مع بداية القرن السابع عشر.

يشرح نورث أن الفاعلين الاقتصاديين، في جميع النّظم الاقتصادية القائمة على التبادل، كانوا يملكون حوافز من أجل استثمار وقتهم ومواردهم وطاقاتهم في سبيل اكتساب معارف ومهارات جديدة تمكّنهم من تحسين أوضاعهم المادية. غير أن طبيعة المعارف والمهارات التي تمّ اكتسابها في ظلّ بعض السياقات المؤسساتية البدائية لم تُثمر تطّورًا مؤسساتيا دافعا صوب بناء اقتصاد أكثر إنتاجية. ومن أجل الاستدلال على هذا القول رجع نورث إلى التاريخ فرصد فيه ثلاثة أنواع من نظم التبادل البدائية وهي: المجتمع القَبَلي، واقتصاد الاتِّجار الإقليمي، وتجارة القوافل لمسافات طويلة. ومَيَّز بينها وبين تجارة المسافات البعيدة بين البلدان الأوروبية الحديثة التي، وبخلاف نظم التبادل السابقة، نجحت في الصعود بالعالم الغربي بفضل إحداث تغيير مؤسساتي هائل.

ويرى نورث أنه يمكن تلمّس هذا التغيير من خلال ثلاث ابتكارات أساسية رأت النور في أوروبا ومكّنت من تخفيض تكاليف التعامل بشكل كبير. ويتعلق الأمر بابتكارات رفعت من قدرة الرأسمال على الحركة مثل تطور نطاق استعمال الكمبيالة ووسائل تحويلها إلى النقد (التوسع الجغرافي للمصارف)، والابتكارات التي خفّضت تكلفة الحصول على المعلومة مثل طبع الأسعار وإصدار دلائل تحوي معلومات إضافية عن السلع المعروضة للبيع (الأوزان وبلدان المنشأ مثلا)، وأخيرا الابتكارات التي أتاحت إمكانية توزيع المخاطر مثل آليات التأمين وتنويع الاستثمارات (تطور أسواق الأوراق المالية وتعميمها على العواصم الأوروبية).

ويشير نورث إلى أن إبداع هذه الابتكارات لم يأت من فراغ، وإنما هو راجعٌ إلى تضافر قوتين عملتا معا ودفعتا في ذلك الاتجاه، وهما: وفورات الحجم المرتبطة بالارتفاع الكبير في مستوى التجارة والمبادلات الأوروبية، ووضع آليات تُلزم المتعاقدين باحترام بنود التعاقد (تطور النظام القضائي والقانون التجاري وانتشار المحاكم) مما مكّن من تخفيض تكاليف التعامل وجعل التجارة أكثر ربحية.

انتبه نورث إذن إلى أن الفاعلين في ظل نظم التبادل البدائية أخفقوا في إنتاج المعارف والمهارات القادرة على تغيير الإطار المؤسساتي للاقتصاد والدفع بالإنتاجية إلى الأمام. في حين أن بلدان أوروبا الغربية عرفت تطورًا متّسقا على المستويين التنظيمي والمؤسساتي شجّع على التجارة وأفضى إلى مضاعفة الإنتاجية عدة مرات وبالتالي إلى تعزيز نمو اقتصادي دائم. وأكَّد على أن التغيير المؤسساتي هو الذي كان إذن العامل الحاسم في تحسين الأداء الاقتصادي في الحالة الأوروبية.

لقد وقف دوغلاس نورث بذلك على مسافة من النظرية النيوكلاسيكية في التنمية التي كانت سائدة ومهيمنة في الأوساط الأكاديمية والمؤسسات المالية الدولية، وأحدثت أعماله البحثية قطيعة معرفية معها. وما فتئ يلحّ موضحًا أن النمو الاقتصادي، وخلافا لما تقرره هذه النظرية، ليس ثمرة لتضافر مجموعة من العوامل الاقتصادية الخالصة فقط (زيادة عوامل الإنتاج والتقدم التقني)، ولكنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالسيرورة التاريخية لكل بلد وقدرته على إبداع المؤسسات التي تحرّر ديناميات النمو فيه، وتُطلق طاقات الإنسان نحو السعي والبناء والتقدم.