Untitled-2
Untitled-2
شرفات

«مرعى النجوم» لمحمود الرحبي.. 9 خيانات للظل

23 يناير 2017
23 يناير 2017

طارق إمام -

يلتقط «محمود الرحبي» أشخاصه من قارعة الطريق السردي: عابرين، مهمشين ومنسيين، لا يتوفرون على ما يجعل منهم أبطالاً، وجل أحلامهم أن يتركهم العالم في فردوس عاديتهم حيث حيوات لا تطمح في أكثر من إعادة تدوير أيامها.

شخوص الرحبي تبدو أقرب لظلال فوجئت بتجسدها، وكما لو تمت خيانتها، على يديه بالذات، حين يدفع بها من الظلام إلى النور، مصراً على العثور على الاستثنائي وغير المألوف في أكثر الحيوات الإنسانية مجافاةً للإدهاش أو لبذر الناتئ والمغاير. في مجموعته القصصية الأحدث «مرعى النجوم» (سلسلة كتاب نزوى) يقدم الرحبي ذواتاً في اختبارات عابرة، تغدو وفق الخطابات السردية لقصص المجموعة التسع، إشكاليات وجودية. لا أحد في ذوات هذه المجموعة يبحث عن انحرافة أو يتخذ قراراً، إنهم مجبولون على الاستسلام لما يطرأ على حيواتهم من قبل كافة السلطات الممكنة، والتي لا يدخر الخطاب القصصي جهداً في تعريتها وتقديم وجوهها المتراوحة.

^^^

«الواقف الذي يعكز عينيه بكامل جسده. تعبر عليه كل الأشياء ولكنه يرى فقط ما تسمح به زوايا محجريه. زوايا الرؤية وحدود انحرافات النظر. فهناك ما يكون خلف ظهره ولا يعنيه، وهناك ما يعبر جنب صدغيه ولا يعنيه، وهناك ما يخطر فوق طرفات العين ولا يعنيه. وهناك أمور أخرى كذلك تفوته عندما يسرح، أو في لحظات العطس، أو حين تغطي عينيه الدموع. هذه حدود الواقف لرؤية الأشياء، ولا حدود لما يمكن أن يغيب عن عينيه حتى وإن ظن أنه مراقب جيد». لا يمثل هذا المقطع من قصة «الواقف» نفسه فقط، بل يتعدى نفسه ليمثل في ظني طبيعة الذوات الحاضرة في مجموعة الرحبي كلها. أما السارد «الواقف» الذي سيلتقط من هذا التعريف «الفني» تعريفه لنفسه في ذات النص، فيكاد يتجاوز نفسه كسارد ليكشف وجه المؤلف المقنَّع به: «أنا الواقف الذي يتأمل الواقفين جالساً». نعم، تبدو زاوية الرؤية أو بؤرة النظر في هذه المجموعة متحققة من هذا الركن: كاميرا تلتقط أبطالها من أسفل فتظهرهم عمالقة في تقزمهم. وحيث تتقدم الذوات واحدة بعد الأخرى من جنة «المجاميع الصامتة» لجحيم «البطل المتكلم».

حيوات شخوص هذه المجموعة دائرية الزمن، تصلح كل نقطة على قوسها لتصبح بداية ونهاية معاً. غير أن الرحبي يقرر أن يجعل من كل حياة/‏ دائرة، حكاية/‏ خطاً مستقيماً: له بدايته ونهايته، ومن هنا فإنه في حقيقة الأمر يمنح أبطاله الحكايات التي لم يعتقدوا بوجودها من الأساس. لماذا يمكن أن تكره شخوص مثل تلك ساردها؟ ليس فقط لأنه زج بهم من ظلمات الحياة مرتبكة الدلالة للسرد كخطاب قصدي، بل أيضاً لأنه، بتحويل الشكل من دائرة إلى خط، حوَّل الخلود الذي تعرفه الدائرة اللانهائية، لفناء يعرفه الخط المستقيم، أي: أعادهم بشراً.

ربما للسبب نفسه، ينحو الرحبي لتشييد نصوص سلسة بنائياً، لا تحتفي كثيراً بالارتباكات الزمنية ولا بالتفتيت السردي. القصة هنا تقدم دفقة سائلة ومتصلة من بدايتها لنهايتها، ولذلك فحتى القصص المجزأة لمشاهد لا تحتفي بالترقيم مكتفية بفواصل صغيرة تدعم السيولة والاتصال بأكثر مما تشي بانفصال الأجزاء عن جسدها. تتهادى القصة تعاقبياً، منتقلة بسلاسة من محطة لتاليتها، وفيما توحي ببساطة متناهية فإنها تنفخ في النار الموقدة تحت الرماد بأنفاس هادئة. وبلغة تداولية يتهادى المحكي بحيث تكاد اللغة تتوارى ليتجسد المشهد بلا عائق. اللغة في سردية الرحبي تفضِّل أن تكون باردة، غير متورطة عاطفياً أو بلاغياً، وكأن الدور الوحيد للسارد هو بذل أقصى ما يستطيع للدفع بما وراء المشهد للواجهة.

الفرد/‏ المعرفة/‏ السلطة

تقدم «مرعى النجوم» سؤالها العميق حول علاقة (الفرد/‏ الهامش النسبي: رعاة، صيادون، موظفون صغار)، بالسلطة/‏ (المتن، الإطلاقي اليقيني: القبيلة_ الوعي الجمعي الاتفاقي_ التراتبية الطبقية والوظيفية). وبينهما ينهض سؤال المعرفة، ممزق بين حدين بدوره: الاكتشاف الذاتي للعالم خارج المرجعية الجاهزة أو السالفة/‏ السلطة من جديد، والمعرفة كفعل تلقين أو «نقل» إجرائي سابق على الخبرة المباشرة للعالم ومقيِّد لنزقها.

تنطلق المجموعة بسارد طفل. إنه اختيار جيد عندما نكون بصدد عالم قصصي وليس مجموعة من القصص. تُقدم «ممر العربات ساردها في ذروة خضوعه للسلطة البطريركية ممثلةً في الجد. إنها السلطة المسئولة عن تكريس المعرفة «النقلية» مدعومة بسلطة العقاب إن عجزت الذات عن استظهار تلك المعرفة: «تعلمتُ الصلاة وأمامي بئر. كان جدي ورائي يلقنني كي أحفظ وهو ينقر الأرض بعصا متحفزة للقفز على ظهري في وجه أي غلطة». السارد هو الطفل، والطفولة هنا تتعدى بعدها الأوَّلي كفئةٍ عمرية لتصير طفولة الفرد أمام شيخوخة السلطة التي لا ترى في فردانيته أكثر من نسخة مقلدة من ذات «سالفة»، وحيث لا وجود للذات بالمعنى المكتمل، إن اتفقنا أن الذات فلسفياً هي حضورٌ حالي قائم في الحاضر. وفق هذا التصور، وبشيء من التعميم، فإن ذوات هذه المجموعة تشترك في كونها ذوات لقنتها أدوات السلطة ما ينبغي عليها أن تكونه، كونها محض نسخ من أصل بعيد لا وجود له: «الكبار يعرفوننا وكأنهم يقرأون بصمت صور آبائنا وأجدادنا من وجوهنا». على عتبة التحول «الإجباري» من طفل لرجل، سيمتلك السارد/‏ الطفل حماراً، يمارس عبره لعبة مقايضة بدائية هي الشكل العميق للثقافة مقابل الغريزة. «المعرفة» مكرسة من أجل «المقايضة». دلالة مؤلمة تبذرها هذه القصة الأولى. لكن الثقافة التي جعلت أداتها «حيواناً» نابعاً من الوجود الطبيعي، تعجز عن دعمه بعنصرها العميق، عنصر «الصنعة»، الذي تمثله في هذه القصة «العربة المفقودة». هي الثقافة المبتسرة إذن، ثقافة «الجلب» الجاهز من معطياتها والعاجزة عن دعمه بـ«الصنع» الذي يمثل إرادة تحويل شيء لشيء آخر. وبتحول الطفل لمجرد «وظيفة» بين بيوت البلدة، يفقد إنسانيته ليأخذ دوره كظل بين المجاميع، بدئاً رحلته كـ»ناقل» بالبعدين الحرفي والمجازي.

لن نلبث أن نتجاوز عتبة الطفل حتى نواجه بـ «سالم»، هذه الشخصية الروائية التي تستدعي أسلافها، فكما تنقلب حياة «جوناثان» بظهور حمامة في رواية زوسكيند القصيرة، ستنقلب حياة «سالم»، النازح للمدينة (كأنه مغترب مرتين: جغرافيا ووجودياً). ليس من كابوس يزعج منام غريب على المدينة أكثر من سيطرة علامتها الفادحة: السيارة. وسالم سيتحول فردوس ساعة قيلولته الوحيدة التي تجعله قادراً على مواصلة العمل، إلى جحيم بظهور «أجانس» السيارات أسفل بنايته. كابوس استثنائي من طارئ عادي، يجعل ابن «الفطرة» يواجه آلة «الثقافة» بسلاح نابع من «الطبيعة»: إنه الماء، الذي سيقذف به سالم فوق العالم الاصطناعي ليغرقه وفق وعي غفل. السارد في هذه القصة يقدم بطله في علاقة مرتبكة وشديدة الرمزية بين الكلمات المكتوبة بخط اليد ونظيرتها المصفوفة: «منكباً وهو يرقن وينقل الحروف من مكانها الأول في الأوراق إلى مسكنها الجديد في قلب شاشة الماكنتوش. الحروف وليس المعاني، يرفع الكلمات بعينيه من مكانها في الدفتر حيث تكون مرسومة بخطوط أقلام اليد، إلى مكان أعلى في قلب الآلة». بين الورقة والآلة يعيش سالم كناقل أيضاً (ولنلاحظ أنه ينقل من أسفل إلى أعلى في إعلاء من شأن الآلة الصماء على الورقة الحميمية والحسية). ليست الورقة والآلة سوى تمثيل للقرية/‏ المدينة: الإنساني مقابل الاصطناعي. ومثلما ينقل سالم «أشكال» الكلمات دون النظر لـ»المعنى»، كأنه يدير ظهره للدلالة، فإنه ينقل جسده من البلدة الصغيرة للمدينة، دون أن يلتفت، أيضاً، للمعنى: إنه ينقل جسده كـ»شكل»، كتمظهر، وليس كدلالة، وبالتالي فانتقال سالم مجاني، والجسر الوحيد الواصل بين المكانين هو «النقود» التي يتسلمها ليسلمها لزوجته في عملية آلية أيضاً لا تتوفر على أي رغبة في التجويد. السلطة حاضرة هنا، مثلما تحضر في النص السابق، لكن الجد يتحول هنا إلى «المدير»، والذي لا يقابله البطل وجهاً لوجه، فالسلطة توجه أوامرها عبر «وسيط» يمثل الجسر بين الآمر والمأمور: «غالباً ما ينهي عمله عند الثالثة بعد الظهر، وقد أتى على معظم الرزم التي يرسلها المدير إليه عن طريق المُراسل، يحفظ ما رقنه ويغلق الجهاز ثم يرفع جسده من كرسي العمل إلى كرسي السيارة وينطلق». سلطة «المدير» لن تلبث أن تعثر على سلطة أخرى «داعمة» تتوفر على المال، هي صاحب الأجانس، الذي سيضع سالم في «مقايضة» جديدة: دفع فاتورة الكهرباء نيابة عنه مقابل وضع يافطة إعلانية فوق باب شقته. إنها مقايضة على محو الهوية، فاللافتة هي الاسم، والساكن هنا يجد نفسه في صفقة سيخسر بموجبها ما يدل على وجوده.

بظهور «حمود» في قصة «إسار» (والعنوان ذاهب بلا مواربة لأفق دلالي محوره القيد)، يظهر «الطبيب» كصوت محفز، يتجاوز خطابه أيضاً حدود القصة ليبدو تعليقاً فنياً على كافة ذوات المجموعة: «بعد خروجه من العيادة وفي طريقه إلى البيت، وقد شيعته سحابة من الكآبة، استرجع حمود في ذهنه شطراً من حواره مع الطبيب، وبالتحديد ذلك الجزء المتعلق بدفع الجسد بعيداً من دائرة السكون إلى محيط الحياة والحركة». في القصة التي يلعب الحوار فيها دوراً حيوياً تحضر عبارة مركزية: «لا تفكر.. تحرك وإلا تفاقم الأمر عليك». الصوت يأمر بعدم التفكير، كأن إلغاء العقل لصالح الحركة الأوتوماتية للجسد هو النجاة. حمود، كسالم، موظف في آلة البيروقراطية الصماء، لا يفاجئه حتى إصابته بالصلع (والذي ينطوي على دلالات شتى يصعب ألا ينتبه لها صاحبها إلا بدرجة قاتلة من اللامبالاة وانعدام الانتباه): «حمود، الموظف الذي لم ينتبه يوماً لأمر صلعه إلا بعد أن أمضى اثنين وعشرين عاماً في عمله، ليس فقط لأن أمر شعر رأسه لم يكن يعنيه يوماً، بل لأسباب أخرى... الشعر، شعر الرأس، تلك البقعة التي ترسخت في وعيه وخارجه كعورة يجب أن تظل مغطاة بالعمّة في الصباح الرسمي وبالكمّة في المساء الاجتماعي. وأحياناً لا مبالاته، حيث لم يعد هناك فرق في رأيه بين وجود الأشياء من عدمها، طالما أنها لا تُرى». شخصية عدمية أخرى، لا مبالية، حد أنها تعيش متجمدة في زمنها الخاص الذي يجافي دينامية الزمن كسلطة قهرية تصنع التحول الإنساني. القصة هنا، ككافة قصص المجموعة، تنهض على مشهد عابر، يومي، لشخص «عادي» يذهب لعيادة طبيب حين يشعر بالإجهاد. لكن المشهد الذي «يمسرحه» الحوار مانحاً إياه مساحة هائلة من التجسد المشهدي، ما يلبث أن يتحول للحظة فارقة، لحظة حياة أو موت، رغم أنف بطلها نفسه.

حمود هو الشخصية التي تنتظر دور البطولة، غير أنها، وقد فصلتها عنه خطوة، تظل في عداد الكومبارس طالما ظلت هذه الخطوة مرجأة. هو «نائب»، ينوب عن سلطة ما لكنه لا يتصل بها: «حمود يعمل نائب مدير في وزارة حكومية. وهو على أهبة أن يكون مديراً. وقد كان على هذه الأهبة منذ حوالي أربعة عشر عاماً. ينتظر بتحفز مفعول المثل العماني البسيط ، والذي لا يزيد عن ثلاث متشابهات: إما وإما وإما، فإما أن يتقاعد المدير، وإما أن يترقى المدير إلى مدير عام، وإما الأخيرة وهي أن يموت ليمشي حمود في جنازته، وليحتل مكتبه في الصباح الموالي». إنها لحظة مصير تُرجِّع صدى نهايات «حضرة المحترم» بقدر ما ترسل بتحية لـ«الشحاذ»، وكلاهما لنجيب محفوظ. يتدخل السارد ليعلق على القصة بالضمير الأولى، كاسراً الإيهام بتعقيب يوهم بـ«حقيقية» المروي كأنه واقعة، في تعميق لإذابة الحد الفاصل بين الفني/‏ المختلق والواقعي/‏ القائم في العالم.

«حكاية الوالي وصياد الحمام»، هي مثلما يوحي عنوانها، قصة تتبنى منطق الأمثولة بنائياً ولغوياً، تتحقق العلاقة في شكل جلي يدعمه خيال «الحكاية الشعبية». الصراع هنا يقوم بوضوح بين «الصياد» و»الوالي»، والقصة، المكتوبة ببساطة متناهية، تجسد مباشرة علاقة الفرد بالسلطة، عبر صراع ينتهي بالمصالحة: تخسر السلطة جولة لكنها تربح المعركة. وفي وجه آخر للعلاقة نفسها، تحل السلطة ضيفاً في «يا أبي سأضطر لحبسك»، حيث تنتقل السلطة، مضطرة، للإقامة خارج عرينها، ويصبح «الابن»، سلطةً طارئة غير مستعدة للعب ذلك الدور.

الانتقال والعبور

لا يمثل العبور في (المكان والزمن بالضرورة حيث لا انتقال في المكان بدون انتقال زمني)، انتقالاً حقيقياً إلا لو تمخض عن تحوِّل في الوعي. في جوهره، يمثل العبور انتقالاً من عالم لعالم، ليحقق جسراً بين شرطين يصعب أن يلتقيا. لذلك فالعبور فعل ميتافيزيقي في جوهره وإن تجسد فيزيقياً في شكله الظاهر. يرتبط العبور لذلك بالجسر الواصل بين «أضداد» كاليقظة والمنام، والروحي والحسي، واليومي والمفارق، والفيزيقي والميتافيزيقي. وفي «مرعى النجوم» تمثل فكرة العبور أفقاً رئيسياً في ظني، تبدأ من المستوى الأولي الذي يمثله العبور بين مكانين/‏ زمنين، لتغور في المستويات الأعمق. بلعبة انتقالات تخوضها الذوات، والتي تحضر هنا عالقة بين مكانين أو أكثر. ثمة ذلك الانتقال «المتوتر» من/‏ إلى. وبينما تمثل الأطراف وجوداً «عرفياً» أو أقرب للعرفي، محتفيةً بالشفاهي والحسي، فإن «المركز» يمثل ذروة الاصطناعي، متمثلاً كافة التراتبيات التي تجعل من الفرد محض ترس صغير في آلة جهنمية تدوِّره، مسيراً، ومتشيئاً في عالم تهيمن عليه الوحدة بانتفاء العنصر الإنساني لصالح «الشيء» الذي يحل محل الذات. سواء حضرت الأطراف في بلدات أو قرى غير مسماة، أو تجسدت لافتاتها. «سالم يعمل في مطبعة بروي، ويسكن في شقة بالسيب، وهو بذلك ينتقل بين المكانين مسافة تربو على الستين كيلو متراً». لعبة العبور تتجسد في ذروتها في نص «مرعى النجوم». نحن بلا مواربة أمام شخصية تعمل بالرعي، يمثل نصها نفسه تجسيداً لفكرة الانتقال الخطي ولمفهوم العبور من الفيزيقي نحو تخوم الميتافيزيقي، مدعوماً بالمكان الذاهب للأبدية: الصحراء.

يقطع الراعي رحلة طويلة من قريته «غرابة» إلى مرعى «وادي النجوم». القصة هذه المرة هي الرحلة ذاتها، تسردها لحظة تحققها راسمة صورة للعابر في علاقته العميقة بفكرة العبور. تبدأ القصة من نباح كلب يتقدمه قطيعة، في انفتاح خالص على العالم الطبيعي يسبق دخول العنصر الإنساني الذي سيمثله الراعي. تشهد القصة طويلة تراوحاً خطابياً بين السارد بالضمير الثالث وهو يرصد الرحلة «الظاهرية» مشهدياً، والسارد بالضمير الأول متأملاً رحلته «الباطنية».

^^^

تكاد القصة الأخيرة في المجموعة، بعنوانها الدال «في مديح الضجر»، تكون تلخيصاً لذوات هذه المجموعة ومناخها الدلالي، وكأنها لعبة تعرية مسرحية يصعد فيها الممثلون لتحية جمهورهم وقد أنهوا «أدوارهم». المقهى (كعلامة مكانية تحيل بين ما تحيل للتبطل والفراغ وموت الزمن) الذي يضم ثلة متقاعدين يلخصون الأدوار الفنية الحاضرة في المجموعة: «هؤلاء نحن، ضابط شرطة ووكيل وزارة وخبير حاويات في ميناء مطرح وأنا مدير دائرة المؤونة بوزارة التجارة». قصة أقرب لمونودراما ينوب فيها صوت المفرد عن أصوات الجماعة، وهو أيضاً نص «استعادة» حيث لا وجود لأفق أبعد من موت العرض بموت عارضيه. تظهر قصة الراعية كقصة مولّدة داخل الحكاية الإطارية، المكرسة في الحقيقة لبذر محكيات صغيرة بالأساس، كلعبة «حمصة تخرق الجيب» العدمية والتي تؤكد الضجر عوضاً عن مغالبته. تنتهي القصة، «والمجموعة» بمشهد نهائي يليق بجميع ذواتها على اختلاف أسمائهم: «تظل حبة الحمص تقفز بين وجهٍ وآخر إلى أن تستقر في فم أحدنا، وقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، حيث إننا كثيراً ما نتعمد قذف الحب بعيداً عن الهدف المفتوح، فتدور الدائرة على كلٍ منا، بين الفتح والقذف، ومن تقع في فمه حمُّصة فإن عليه كذلك أن يتكفل بمصاريف السهرة». متى يتعمد الشخص إخطاء الهدف؟ عندما لا يكون ثمة من مستقبل. وعندما يصبح «الفائز» هو المسئول عن «دفع الثمن» فإن الخسارة تصبح أماناً نهائياً. و»مرعى النجوم»، بفضاءاتها وشخوصها الذائبة في لامبالاة لا سبيل لإزاحتها، تبدو أقرب لمرثية طويلة في تسعة حبكات، للعادية التي تجعل الزمن الوحيد القائم هو الماضي، وحيث لا أمل لشخص تحوَّل لظل إلا أن يستدير، للحظة، ملوِّحاً لأنقاضه.