شرفات

تحولات الإنسان في رواية طاووس الأسود

02 يناير 2017
02 يناير 2017

ليلى البلوشي  -

Ghima333@hotmailcom -

«وعندما سأله عن اسمه وعمله من باب الفضول، ابتسم في وجهه ابتسامة غامضة، ثم تطلع نحو الشقيقين دراج بعينين غريبتين، كانتا تلمعان في العتمة مثل عيني قط». تلاحق رواية «الطاووس الأسود» للروائي السوداني حامد الناظر حكاية رجل غامض، الذي يكون له في كل فصل من فصول الرواية شخصية متباينة، كل شخصية لها اسمها وحكاية مختلقة تعيش تأثيرها في كل مرحلة ثم سرعان ما تنتهي مصيرها بغموض.

خطوط السرد تمضي برشاقة، تستأثر أحداثها يقظة القارئ في عرض مشوق يفك حبالها رويدا رويدا رجل يدعى «النعيم دراج» وهو «معارض مطلوب للحكومة على الدوام لأنه شيوعي ملحد في نظرها، وفي بعض الأحيان مخرب وعضو في خلية نائمة وأوصاف أخرى كانت تصيبه بالحنق أحيانا، وبالسخرية في أحيان أخرى».

«النعيم» الذي يبدو في الرواية شخصية متوجسة بالأحلام وخيبات النساء، يتتبّع كمحقق أثر الرجل الغامض، وتبدأ المصادفة الأولى في قصر في حي بُري حيث يقيم رجل غريب عن الحيّ مأدبة عشاء، كان مستشارا للحكومة باسم تاج الدين، يغزل أهل الحيّ حوله الإشاعات مكللا سيرته الغريبة بنهاية تلائم مكانته كرجل مهم في الحكومة، حيث يكون ضحية حادثة سقوط الطائرة التي استهدفت دبلوماسيين مهمين نافذين في الحكومة «تاج الدين غرق، غاص في طين النهر أو ابتلعه سمكة ضخمة أو أكله تمساح أو جرفه النهر نحو مكان بعيد»، منذ هذا السقوط في قاع النهر تجرف السيرة في الرواية حكايتها نحو آثاره التي تظل شاغل «النعيم» المطارد التليد، فيمضي في إثرها وكأنه يشّق إثر نفسه لا تاج الدين المتحوّل، الحيّ، الميت، التائه، الحاضر، المتعدد، الخالد، الأبدي!

مات تاج الدين في نظر من عرفوه، لكنه لم يمت في نظر متتبع أثره ونابش تاريخه «النعيم» الذي يصادف التقاطيع عينها في هيئة أخرى لرجل آخر، يحمل العينين الحادتين نفسهما كعيني قط متأّهب، تستطيل في قامة رجل يدعى «عمار البركس» الشاب الجامعي المتمرد بنزعة إسلامية الذي حاول مرارا تظليل «النعيم» ليسيّره إلى مساره ذا النزعة الإسلامية، عمار الذي استطاع مع جماعته تحويل هوسهم بالعنف إلى سياسة وطنية بحماية قانونية، عمار المحمّل بحكايات المتمردين تغدو نهايته شبيهة بروحه الشيطانية، فقد تعرض للأسر ثم أعلن لاحقا أنه مفقود، ثم أضيف لقب الشهيد إلى اسمه، سرعان ما طويت سيرته كأنه لم يكن.

لتتخلق شخصية الأخرى في رجل يدعى في تحوّله الثالث «شاكر بن عوف» المتحدث اللبق عن الغزالي والحلاج والإسماعيلية الباطنية وابن الرومي وأبي نواس وعمر الخيام، الذي ارتبط بامرأة صادفها في ندوة ووعدها بحياة خالدة «أعدك أنني لن أموت، لدي من الحيوات ما يكفي لأعيش كثيرا، وربما أكثر مما تخيلين..»، بعد أشهر قليلة انتهت حكاية شاكر عبر رسالة من مجهول تخبر زوجته أنه قضى في حادث سير في ماليزيا، صار نثارا كأنه لم يكن يوما سوى في قلوب من ارتبطوا به.

الرواية هي رواية التأويلات والتحولات بامتياز، الإنسان الذي تفلح الحياة في تمديده إلى شخوص أخرى في سبيل مصالح هائلة، مستعيرا حكاية دكتور جيكل ومستر هايد للروائي الإنجليزي الشهير «روبرت لويس ستيفنسون» 1889م، التي وظفّها الروائي الناظر بمهارة وتشويق هائلين.

«ماذا يفعل الإنسان إذا نبت من العدم ونشأ في العدم؟ ماذا يفعل إذا كان مقهورا وخائفا؟ إنه يساوم على بقائه ضمن إطار العائلة، العائلة التي ستهبه اسما ووصفا جديدين، وفي مثل حالتي، شخصية أخرى، بل شخصيات وحيوات لا يربطها بماضيها رابط، كان علي أن أحافظ على ذلك مهما كلفني، وهذا ما فعلته». معظم الشخصيات في الرواية هي كائنات متحولة عن ماضيها، وكأنها تتبرع بتاريخها في سبيل النجاة من توهيمات لا حد لها، وفي سبيل انتزاع فرص حياة جديدة.

لقد نجح الروائي «حامد الناظر» في كتابة رواية غاية في التشويق، رواية تمتاز بأسلوب أخّاذ ولغة سردية محكمة، تمضي الأحداث عبر صوتين، صوت المختلق للشخصية المحورية، يطل في كل مرة بحنجرة اسم ما متكئاً على لغة منولوجية مكثّفة، بينما الصوت الآخر هو متتبع آثار الصوت الأول، وهنا تكمن الإثارة الكاملة.