شرفات

بعبارة أخرى .. الأدب ملتبساً بفضاءات أخرى

05 ديسمبر 2016
05 ديسمبر 2016

د. حسن مدن -

كان جون بول سارتر فيلسوفاً وكاتباً وروائياً ومسرحياً وباحثاً وناقداً وكاتب مقالة ومناضلاً أيضاً في الحركة الثورية، أي أنه جمع في شخصه عدة شخوص. أكثر من ذلك كان يعتبر نفسه مثقفاً كونياً لا تنحصر اهتماماته في حدود ما يدور في بلده فرنسا وحدها، وإنما تتسع لتشمل قضايا كثيرة ذات طابع إنساني عام، فكان بهذا المعنى نصيراً مثابراً للقضايا العادلة للشعوب الأخرى.

ولم تكن «وجوه» سارتر المختلفة وجوهاً منفصلة أو مستقلة عن بعضها بعضاً، بل أنها تشكل نسيج شخصيته متعددة الاهتمامات والميول والمواهب. فرواياته أو أعماله المسرحية حتى لو جاءت في إطار أو فضاء من التخيل، كانت تقدم أفكاره الفلسفية، وكان بوسع القارئ غير المأخوذ بالفلسفة أن يستوعب أو يمسك بالرؤية الفلسفية لسارتر من خلال قراءته لأدبه، في الروايات أو في النصوص المسرحية أو حتى من خلال دراساته النقدية.

ينتمي سارتر إلى تلك الفصيلة من الفلاسفة الذين كسروا الصورة النمطية للفيلسوف المتأمل المنعزل عن الواقع، القابع وسط صومعة من الكتب والمجلدات لا يدخلها هواء الحياة ولا تحترق بشمس الواقع.

لكن أهم ما في ظاهرة سارتر هو أنه ارتقي بالأدب إلى مقام الفلسفة، ليس بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهب حين نحسب أنه عقَّد الأدب، أي جعله معقداً، وإنما بمعنى أنه ارتقى به إلى مدارج التأمل الواسع.

قبل سارتر نجد أن أبي العلاء المعري والمتنبي وفولتير وحتى ديستوفسكي كانوا أدباء في الأساس، أو أنهم مدرجون في التاريخ الأدبي، لكن من يستطيع أن يجرؤ ألا يتعاطى مع الجانب الفلسفي الكامن وحتى الظاهر في أدبهم؟ وبالمثل هل بالوسع أن ننظر إلى فيلسوف مثل ابن طفيل بعيداً عن المنظور الأدبي ونحن نقرأ قصة (حي بن يقظان) مثلاً.

مؤدى القول أن الأديب داخل الفيلسوف يتمرد على صرامة الفلسفة ويأخذ بصاحبه إلى اشكال تعبير غير فلسفية كالشعر والقصة والرواية، فيما نجد الفيلسوف داخل الأديب يأخذ به إلى آفاقٍ أوسع وأرحب من آفاق الأدب وأدوات تعبيره.

ونظن أن ذلك النوع الذي يحقق الانتشار والخلود من الاثنين هو تلك الفلسفة التي تتوخى من الأدب بعض أدواته وذلك الأدب الذي يكسر محدودية عالمه فيأخذ من الفلسفة بعض رحابة الأفق الذي تسبح فيه.

هذا عن علاقة الدب بالفلسفة، لكن ماذا عن علاقته بالعلم.

مجال العلم هو الخبرة التجريبية الصارمة، أما مجالات الأدب فأكثر رحابة، فهو يُقَدم شهادات حول العَالَم الذي يُولد فيه الناس ويعيشون ثم يموتون، العالم الذي فيه يحبون ويكرهون، يعيشون العز والمذلة، الأمل واليأس، الألم والسعادة، وكل المتضادات والثنائيات من المشاعر والعواطف والسلوك، فيما العلم يعنى بتعميم الخبرات الجماعية المتاحة وصوغها في هيئة قواعد ونُظم وقوانين. وهذه جميعا تصبح ملزمة أو على الأقل يُنظر إليها على أنها أمر اختبر بعناية، فارتدى مهابة العلم وصرامته.

صحيح أن للمخيلة دورها في العلم أيضا، ولكن الحديث يدور فقط عن تلك المُخيلة المُخصبة للبحث والاستكشاف، التي ليس بوسعها التحرر من «قواعد» العلم وقوانينه، وحتى لو حدث أنها تحررت منها، فإنما لكي تضع قواعد جديدة، لها ذات الطابع من الصرامة التي كانت لسالفها.

ولكون الأدب ينطلق من التجربة الفردية فانه غير قابل للتكرار. كل أديب يعبر عن تجربته الخاصة، وهو يفعل ذلك منفردا، حيث لا سبيل لتكرار ما قاله آخرون بذات التجليات الإبداعية. هنا لا قانون صارما، وإنما فضاء رحب من حرية التعبير لا يتوفر للعَالِمْ المُطالب بالدقة والصرامة لكي يصح عليه الوصف بأنه عَالِم.

لا يبالغ المرء إذا قال إن روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس تقدم صورة عن القاهرة زمان، والقاهرة التالية أكثر مما تفعل الكثير من البحوث الاجتماعية الاقتصادية، والأمر نفسه يصدق على روايات حنا مينه عن تحولات المجتمع السوري أو روايات غائبة طعمة فرمان عن بغداد التي كانت، بغداد التي فقدناها.

ألا تضاهي ملحمة عبد الرحمن منيف «مدن الملح» بأجزائها المختلفة عشرات الدراسات التي كتبت عن النفط وآثاره والنتائج العميقة التي ترتبت عليه في البلدان المنتجة له، وبشكل خاص في بلدان الخليج والجزيرة العربية؟ ولم يفعل منيف ذلك فقط في «مدن الملح»، إنما أيضاً في عمله الروائي الكبير: «أرض السواد»، حيث تقصى تاريخ العراق ومحنه وجراحاته عبر الزمن، ومن أجل ذلك اطلع على مادة هائلة من المراجع والمصادر والوثائق التي تؤرخ للعراق مكاناً وشعبا.

بل لعله فعل أكثر من ذلك حين ولج إلى عوالم لم يسبقه إليها حتى المؤرخون أنفسهم فقدمها للمرة الأولى، قبل أن يبدأ مغامرته الإبداعية في كتابة تلك الثلاثية، التي تبهرنا بالمتعة التي تثيرها في نفوسنا ليس لأننا نتابع فقط تفاصيل حياة ومصائر الشخصيات التي ابتكرها، وإنما لأننا أيضا نلج عالم التاريخ ذاته، فنعرف العراق، بعد قراءة الرواية، أكثر مما كنا نعرفه قبل قراءتها.

وما يصح على المجتمع العربي يصح على المجتمعات الأخرى. إن تاريخ أمريكا اللاتينية الغريب والساحر يفهم بشكل أدق عبر روايات ماركيز وايزابيل الليندي وجورج أمادو، ونحن نتعرف إلى أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بشكل أفضل عبر روايات فيكتور هيجو وتشارلز ديكنز، ونعرف أمريكا عبر همنجواي، وروسيا من خلال تولستوي وديستوفسكي وجوجول أكثر مما نعرفها عبر الوقائع التاريخية المجردة حين تسرد سرداً بارداً محايداً.

للأدب تلك الميزة من الحرية، لأنه يقيم بينه وبين الحدث مسافة، ولا نعني بالمسافة المدى الزمني بين لحظة وقوع الأحداث التي يرويها الأديب مختاراً مقطعاً زمنياً معيناً من التاريخ، ولحظة الكتابة، وإنما نعني تلك التفاصيل المرهفة التي تتصل بالعملية الإبداعية حين يستعين المبدع بأدوات أخرى كالمخيلة والتحليل النفسي ودراسة نشاط العقل الباطن، فتأتي الشهادة ثرية، حارة، متدفقة، لا تقارن ببرود البحث وصرامته.

والذين يقرأون التاريخ والأدب معاً يستطيعون إقامة المقارنة بين الطريقة التي يروي بها المؤرخ الوقائع التاريخية وتلك التي يروي بها الراوي جانباً قد يبدو معتماً غير معروف من هذه الوقائع فيضيئه.

وأبدى الروائي العراقي فؤاد التكرلي دهشته من أولئك المؤرخين الذين يقيمون خصومة مع الأدب، فينفقون أعمارهم في التنقيب عن الوثائق والوقائع والسجلات أو يعودون لمن سبقهم في كتابة التاريخ من دون أن يقتربوا من الأعمال الأدبية التي تصوّر المرحلة التاريخية التي هم في صدد الكتابة عنها، سواء أكانت عائدة لتلك المرحلة، أم أنها كتبت في وقت لاحق.

والروائي الحق هو مؤرخ بامتياز، لكنه لا يكتب التاريخ بالطريقة التي يفعلها المؤرخ، وإنما يختار مفصلاً زمنياً من هذا التاريخ يثير اهتمامه فيكسبه حياة من لحم ودم.

مرة عقد ميلان كونديرا مثل هذه المقارنة بين المجالين، أي التاريخ والرواية، فقال: “إن علم التاريخ يكتب تاريخ المجتمعات لا تاريخ الإنسان الفرد”، لكن علينا ملاحظة ان التاريخ هو الآخر يكتب تاريخ الأفراد. ماذا نقول مثلاً بصدد الكتب التي وضعت عن شخصية نابليون ودوره؟

لكن الفرق الأدق هو ذاك الذي يصوغه، مرة أخرى، فؤاد التكرلي حين يلاحظ أن التاريخ يسجل العبور اللامنتهي للحشود الزمنية وهي تقطع الزمن، أما الرواية فتقوم بمهمة تبدو نقيضة هي الإمساك بوجود الفرد الإنساني على صفحة الأيام، فتجعل منه مقيماً لا عابراً على خلاف ما يفعله التاريخ أو المؤرخون.