No Image
روضة الصائم

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

27 مارس 2023
27 مارس 2023

ـ تحدث المسلمون كثيرا في أن رمضان يقود النفس إلى الخير ويوجهها إلى الصلاح، قيادة النفس عندما تنفعل بمكوناتها الداخلية بمعنى هرموناتها، ويتحدثون عن الصيام بأن الإنسان أحيانا يفقد قدرا من الجلكوز، فيلجأ إلى الغضب والانفعال، تحدث أحيانا حوادث في بداية رمضان مثل حالات الطلاق وغير ذلك، كيف يستطيع الإنسان بالصيام أن يقود نفسه المنفعلة بمثل هذه الأشياء الطبيعية؟

لعل مثل هذه الآثار يمكن أن نفهم بها توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي حينما قال: "إذا كان يوْم صوْم أحدكمْ فلا يرْفثْ ولا يصْخبْ، فإنْ سابه أحد أوْ قاتله فلْيقلْ إني امْرؤ صائم" فهو مأمور أثناء تلبسه بالصيام أن يملك شهوات نفسه وأن يكبح غرائز غضبه، فلا ينفعل ولا يندفع حتى حينما يساء إليه، فإنه مأمور أن يذكّر نفسه وأن يذكّر غيره بأنه متلبس بعبادة، وهذه العبادة لا تكون إلا بالكف عن محارم الله، فيدرب نفسه على كظم الغيظ واحتمال الأذى وعلى الصبر على طاعة الله عز وجل، وعلى الشعور بلذة هذه العبادة وحلاوتها، فالصوم لا يقصد منه أن يندفع الصائم وراء أي مشاعر يمكن أن تستفزه، وأن يكون سبب ذلك أنه اعتاد على نمط غذائي، لعله يسرف فيه ليلا، أو على عوائد من الطعام والشراب، ثم أنه ينقطع عنها فإذا به يتحول إلى سبع شرس على أهل بيته وزوجه وإخوانه وزملائه في العمل، وعلى من يقدم لهم الخدمة، لا، فالصوم خلق ولا يتحقق معنى الصوم إلا بأحسن الأخلاق، وهذه الأخلاق تظهر في الأقوال والأفعال والاستبشار، فهو لما يستبشر بفيوضات رمضان من الرحمة والمغفرة وعظيم الفضل، ويتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" فبدأ الحديث ببيان فضل الفريضة، ثم يترقى إلى النوافل، بقوله: "ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ثم يترقى في عبادة مخصوصة فقال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" كيف من يسمع هذه البشارات تضيق نفسه ولا ينشرح صدره، ولا يتعامل مع الناس باحتمال أذى وبصبر وحلم وأناة وهو يطمع أن يكون من الذين يغفر له ما تقدم من ذنبه، وهو يطمع أن يستمطر رحمات الله تعالى عليه، أما أن يصوم صوما شكليا لا روح له ولا جوهر، فهذا يمكن أن تضيق نفسه، ومع ذلك فإن عليه أن يتدارك فإن هذه الفرصة قد لا يدركها، فكم فاتت هذه الفرصة أناسا كانوا ينتظرونها ويترقبونها، وكم حرم منها من لم يكتب له أن يشهد الصيام، وإذا به يدرك صوم رمضان، ولهذا أبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذي يدرك رمضان ثم لا يغفر له.

إذن الجانب العلمي أي معرفة ما أودعه الله عز وجل في الصيام، وهذه ما عادت تخفى على أحد فإن العلماء والوعاظ والمرشدين يبينونها للناس، ويعرفونهم بها، ولا يراد من هذا التعريف والتذكير أن تكون مجرد معلومات تحشا بها الأدمغة، فالمراد أن يتلقاها الناس بعقولهم وقلوبهم حتى ينتفعوا بها في واقعهم، "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"، وإذا أردنا أن نأخذ الأمر بأمثلة معاصرة، فنجد أن من كان أسيرا لعادة محرمة كالتدخين، أو معاقرة الخمور، أو شيء من المخدرات أو المفترات ألا ينظر إليه على أنه أسير مقيد مكبل، هو يظن نفسه أنه حر، ولكنه في الحقيقة لا يستطيع أن يعيش دون هذه العادات المحرمة، كبائر من كبائر الذنوب، فإذا نصحه ناصح بأن يترك هذه العادات، هل ينقله من حرية إلى أسر أو العكس، الحقيقة أنه ينقله من قيد وأسر غليظ طوق به نفسه إلى حرية وسعة وأن يتحلل من تلك القيود التي أحاط نفسه بها، هكذا يفعل الصيام، فهو يحررنا من العادات المألوفة التي ألفناها، فهو يحررنا من إلف بعض المباحات، فمن باب أولى يثبت لنا أننا قادرون على أن نتخلص مما يسخط الله تبارك وتعالى، فبذلك نرمي هذه القيود عن أنفسنا وعن قلبونا وأبداننا وعقولنا، لننتقل إلى تحرر وفسحة وسعة من العيش ومن أمر الدين، فهذا هو معنى الصوم، وإذا انتقلنا إلى مثل هذا الفهم فإن نفوسنا تنشرح، ونتطلع إلى مزيد من فيوضات رمضان، وألا نقتصر على القدر الواجب فيه، وإنما نكثر من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن، ومن القيام حسب الاستطاعة، ومن تحري ليلة القدر لأننا ذقنا حلاوة هذه العبادة، وأدركنا أنها تخلصنا من الآثار والقيود التي يغرق فيها الكثير من الناس من حولنا لاسيما في هذا العالم الذي غلبت عليه المادية والشهوات والتسلية والترفيه.

فالصوم يثبت أن هذا الإنسان بالعزيمة والإقبال على الله عز وجل قادر على التحكم في انفعالاته ومشاعره ومطلوب منه ذلك، وأنه يجد حلاوة في مثل هذا السمو الذي يبعثه عليه دينه ورغبته في أن يرضي ربه تبارك وتعالى وأن يتحرى ما ادخره له مولاه من أجر الصيام.