No Image
روضة الصائم

فتاوى استراحة الصائم

22 مارس 2023
فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
22 مارس 2023

كيف يستثمر المؤمن أوقاته في شهر رمضان المبارك؟

إن شهر رمضان موسم طاعة وإقبال على الله تبارك وتعالى، وذلك يتحقق فيما نجده في كتاب الله عز وجل في جملة أمور، فسياق آيات الصيام ابتدأ ببيان هذه الشعيرة العظيمة وكشف حكمها على العباد حينما قال ربنا تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فجوهر هذه العبادة هو الصيام، وهو الذي يبلغ إلى الغاية منه، وهي التقوى كما هو الشأن في سائر العبادات التي فرضها علينا ربنا تبارك وتعالى، ولذلك نجد أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تؤكد هذا المعنى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

ويقول: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم». وفي الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزة والجلال يقول: «كلُّ عَمَل ابن آدَم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجْزِي به».

هذه الأدلة الشرعية كلها تدور حول تأكيد حقيقة الصيام أن جوهر هذه العبادة وروحها إنما يتمثل في الصيام الذي هو الإمساك الشرعي المعلوم، الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع العلم بكونه صائما والنية لذلك، وورد في سياق آيات الصيام مباشرة قول الله تبارك وتعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»، فلئن كان مقصود الصيام تبليغ التقوى فإن مقصود القرآن الذي جعل الله تبارك وتعالى وعاءه الزماني شهر رمضان هو ما أشارت إليه هذه الآية الكريمة، فالذي يحيا بالقرآن الكريم في شهر القرآن فليجعل غايته أن يهتدي بنور القرآن، وأن يحيي قلبه ويوقظ ضميره، وأن يتبين بآيات القرآن الواضحات الحق من الباطل، والخير من الشر، والصلاح من الفساد، وما يجلب له الخير والرشد في عاجل أمره وآجله، وهذا معلم غاية في الارتباط والتكامل مع فريضة الصيام التي يؤديها المسلم في شهر رمضان فلا انفكاك بين الصيام والقرآن، فلذلك على المسلم الذي يؤمل نفسه أن يحوز منافع الصيام، وأن ينال أجر الصائمين في دنياه وآخرته، وأن يعيش مع القرآن الكريم، وأن يتدبر آياته، وأن يتأمل في عضاته وآياته، وليس في ذلك حد معين، فلينتهز سانحات الفرص على أن يحمل نفسه إلى ذلك، فلا يترك هذه النفس دون أن يوجهها ودون أن يلود إلى تحقيق هذه المقاصد، فإن استعان بشيء من ترتيب جدول له فذلك حسن، وإن لم تواته الظروف ولكن توجه هذه الوجهة فذلك أمر حسن، الحاصل أن عليه أن لا يكون خالي الوفاض في الوقت الذي يتزود منه غيره خير زاد، ثم نجد أيضا في السياق أن ربنا تبارك وتعالى قال: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»، فهنا أيضا إشارة إلى أهمية الذكر والدعاء في شهر رمضان مع بيان الغاية التي يحققها هذا الصائم التالي لكتاب الله عز وجل المتوجه إليه بذكره ودعائه والضراعة إليه من أنها تبلغه الرشد الذي يزيح عنه سجف الظلام ويبعد عنه ظلمات النفس والهوى والدنيا وشهواتها وأهوائها، فلا يستطيع أن يتحقق له نور الرشد إلا بأن يلجأ إلى الله تبارك وتعالى.

ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء والذكر في رمضان، ولهذا نجد أن المسلمين سلفهم وخلفهم يحرصون أشد الحرص على الذكر والدعاء والتبتل إلى الله عز وجل في شهر رمضان في قيامهم وفي صلاة التراويح وفي تهجدهم وعند السحر وآناء الليل وأطراف النهار وأدبار الصلوات لما يجدونه من لذة الذكر وحلاوة المناجاة وأثر الدعاء.

بعد ذلك يأتي في ختام هذه المعالم أننا نجد أن الله تبارك وتعالى ختم آيات الصيام بقوله: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ» لتنبيه هذه النفوس، وما ورد في الآية الكريمة من أحكام وإرشادات إنما هو لتنبيه هذه النفوس أن تقبل على الله تبارك وتعالى برفق ويسر، وألا تنقطع انقطاع رهبانية، وهي مع أدائها لهذه العبادات فإنها لا تتخلى عن أماناتها ومسؤولياتها المنوطة بها في هذه الحياة الدنيا، كل ومسؤوليته، وكل وأمانته التي يؤديها في هذه الحياة. من أجل ذلك، نجد في ختام آيات الصيام هذه المعاني المتعلقة بإباحة العلاقة الزوجية، وبإباحة الأكل والشرب باعتدال، وحتى لا تتجه النفوس أيضا باندفاع إلى هذه المباحات، ويأتي الباعث الإيماني الذي يذكر النفوس مرة أخرى بالله تبارك وتعالى ويعيدها إلى ما تحتاج إليه من تزكية ومن إنعاش فيقول: «وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ» فهي إشارة إلى أن الاعتكاف في رمضان هو من سنن رمضان، وكان ذلك من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمتى ما تيسر ذلك فإنه مما يستحب ويندب إليه لتكتمل هذه المعالم في نفس الصائم، وهو بعد ذلك ينبغي له أن يجدد البواعث في نفسه وأن يحفز هذه النفس بمزيد إقبال يوما بعد يوم؛ لأنه كلما اغترف غرفة بيده من حلاوة الصيام ومن لذة هذه العبادة ازداد شوقا إلى مزيد منها، نسأل الله تبارك وتعالى أن يورثنا ذلك.