No Image
روضة الصائم

عن ظهور التنوير الأوروبي وتداعي الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى

11 مارس 2024
11 مارس 2024

الحرية التي تتمتع بها القارة الأوروبية اليوم تبعد عنها الصراعات المربكة التي عاشتها في القرون الوسطى. تلك العصور التي عرفت بأنها عصور الظلام. لم يكن الإنسان الأوروبي سوى كائن مسكين، هش، ضعيف ومكسور، جل أمنياته في الحياة التي يراها فانية أن يخلّص جسده وروحه من عذاب الآخرة.

ساهمت سيطرة العقلية الدينية الكنسية في تضخيم هذه الصورة. صورة الخوف وهواجس العذاب، ما جعل المرء عاجزًا وزاهدًا في آن. فكيف تحرر الإنسان الأوروبي من قبضة الظلام ليكون منصة عظيمة للانفتاح الإنساني وللحريات الفردية؟ كيف كان طريق التنوير الأوروبي ؟ هذا ما تناوله كتاب "مدخل إلى التنوير الأوروبي" للباحث والكاتب "هاشم صالح" الصادر عن دار الطليعة.

يتوسع الكاتب في تناول الرؤية التنويرية التي سيطرت في العصور الوسطى التي استمرت منذ سقوط الحضارة الرومانية في الغرب عام 476م، إلى سقوط الحضارة البيزنطية في الشرق على يد الأتراك 1435م، أي أنها استمرت نحو ألف عام.

كاشفًا عن نفسية الإنسان في العصور الوسطى؛ فقد كان ميالا للتشاؤم والضعف، انطلاقًا من خوفه من ارتكاب المعاصي والذنوب التي من شأنها أن تجعل الجحيم من نصيبه؛ لذا سعى إلى حرمان نفسه من ملذات الدنيا كي ينفذ بجلده ويفوز بالجنة. هذه التركيبة خلقت شخصية خاضعة تماما لسلطة الكنيسة ولتعليمات البابا الذي كان ذا حظوة عالية حتى أنه رفع بمنزلة الإله والتقديس. ما جعله يميل إلى تصديق الحكايات الخيالية، التي تشي بالمبالغات وتحتفي بالأساطير وتحمل في طيّاتها معجزات، فكل ما هو خارق للعادة ينم عن القدرات الخارقة لرب الكون، لذا كان من المستعبد أن يخالفوا تعاليم رب قادر على كل شيء، كما يقول المؤلف:" العقلية القروسطية هي عقلية رمزية، بمعنى أنها ترى الرموز والآيات في كل مكان. فكل شيء في الطبيعة أو في الإنسان دليل أو رمز على بديع حسن الخلق، وكل شيء رمز عن شيء آخر يقبع خلفه أو يتجاوزه".

هذه العقلية نفسها جعلتهم يأخذون الفهم من بطون الكتب ويدرسون النصوص كما هي دون ميل إلى طرح تأويلات، فالمعلومات عن البيئة الزراعية أو الحيوانية يقتبسونها فحسب من الكتب لا من التأمل في الطبيعة، لم يكن ثمة اجتهاد ولو قليل للتأمل أو توسيع العقل لطرح تساؤلات خارج النصوص المنبثقة من الكتب؛ وكل ما هو خارج سيطرة الكنيسة يعدّ من المحرمات والموبقات؛ فالمتعلمون الوحيدون هم رجال الدين، دون أن يجدوا غضاضة في ذلك؛ فهوسهم بالتهذيب الأخلاقي غلب على هوسهم بالتعليم.

كما أدى انعدام الشعور بالأمن والأمان على كافة المستويات المادية والمعنوية إلى تشبث هذا الإنسان بالدين والخضوع لتعاليم الكنيسة، ناهيك عن سيطرة النظام الإقطاعي والكوارث الطبيعية كلها تكالبت عليهم، وصار الناس البسطاء يزدادون فقرًا بينما الكهان يغتنون بثروات هؤلاء الفقراء.

بعد أن طرح الكاتب الجو النفسي السائد في العصور الوسطى في أوروبا، انتقل إلى طرح الطريق الذي سلكته أوروبا لنفض نفسها من عصور الظلام والانحطاط، وتم ذلك بفضل العرب والحضارة العربية الإسلامية التي كانت في قمة اشتغالها العلمي عن طريق ترجمة كتب أرسطو عن اليونانية. كان من الصعب منع تأثير فلسفة أرسطو في ذلك الوقت، لاسيما وأن المسيحيين كانوا يصطدمون بالإسلام وانتصاراته في كل مكان، ففي الغرب كما يرى الباحث كانوا واقعين في مواجهات عسكرية مع الموحدين على أرض الأندلس، وفي الشرق كانوا يواجهون جيش الأيوبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي..:" الواقع أن الثقافة الأوروبية لم تكن تعرف في ذلك الوقت إلا شيئا يسيرا من فكر أرسطو وأفلاطون. كان عليهم أن ينتظروا سقوط طليطلة في يد الإسبان عام 1085م لكي تبتدئ بعده بخمسين سنة أكبر حركة ترجمة وتثاقف في تاريخ أوروبا".

حيث تلقفهما المجتمع الأوروبي في البدء بتحفظ وحذر كبيرين، فالسلطة الدينية كانت لا تزال مسيطرة على عقول وأعناق الناس، ويمكن القول إن العقلية الأوروبية في القرون الوسطى بدت تتغير بفعل الثورة العلمية التي كانت بفضل العرب، ومن هنا تحديدًا انطلق الصراع بين الإيمان المسيحي والمعرفة العقلانية؛ صار الإنسان الذي يتناول النصوص بسطحية بلا تأويل سابقا هو نفسه يسعى إلى توسيع مداركه الفكرية لينهل من مختلف العلوم والمعارف، ويستقي من الطبيعة متفحصًا ومفكرًا ومتدبرًا وتم ذلك بفعل أرسطو تحديدًا الذي قلب الموازين لصالح ميزان العقل، فقد كان يسعى إلى تفسير الظواهر بطريقة علمية دقيقة مانحًا العقل سلطة لا محدودة للتأمل وتناول النصوص وتأويلها. ليغدو بفكره وفلسفته تهديدًا ومنافسًا شرسًا لعقلية ومكانة السلطة اللاهوتية المسيحية، ما جعل الناس ينشطرون بينهما إلى فريقين، فريق معجب جدا بفلسفة أرسطو ومستعد لتبنيها كليّا حتى لو أدى ذلك إلى طمس التراث المسيحي أو النيل منه، وفريق آخر متشبث بالتراث المسيحي وعلى استعداد لمقاومة هذه الفلسفة الوثنية.

سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".

بعد أن نفضت أوروبا عنها مخلفات العصور الوسطى واشتد عودها صارت تنظر للتاريخ العربي الإسلامي على أنه تاريخ متخلف، متناسية تماما دورها في رفد حضارتهم وانتشالهم من عصور الانحطاط، فبعد أن كان ذكر مناقب العرب من قبلهم يعد مفخرة صار بعد بلوغهم مراتب عالية من العلم والثقافة نقيصة وعارًا؛ فهؤلاء العرب يذكرونهم بتاريخ سعوا إلى طمسه من مخطوطاتهم!

مرحلة اندفع الأوروبيون بشدّة لمحوها من هامش تاريخهم السالف، بعد أن سبقوهم بمراحل ضوئية شاسعة من الصعب ردمها أو حتى محاولة مواكبتها بسهولة.

* كاتبة عمانية مقيمة في دولة الإمارات