No Image
روضة الصائم

علي بن حمد السيابي الذي بكى أصحابه بعد أن فتك بهم الجدري

09 مايو 2021
يناهز عمره 100 عام
09 مايو 2021

يروي الوالد علي بن حمد بن سعيد السيابي أحداثا مشوقة عاش تفاصيلها في العقود الماضية من حياته المديدة، والسيابي من سكان قرية الصبيخاء بولاية العوابي بمحافظة جنوب الباطنة والتي تبعد عن العوابي مركز الولاية قرابة عشرين كيلومتر.

وقضى الوالد علي السيابي ردحًا من الزمن في التواصل مع الآخرين والسعيّ بالخير بين الناس، وأفنى جزءًا كبيرًا من عمره في تعليم أبناء قريته القرآن الكريم «متطوّعا» دون أجر طالبًا الثواب من الله سبحانه وتعالى، وما زال مواصلا مشوار العمل رغم كبر سنه ولم يتوقف لولا ظروف الجائحة وتبعًا لتعليمات اللجنة العليا.

وعلي السيابي هو الأكبر سنا على مستوى القرية وأحد كبار السن في الولاية، وكل مجايليه في القرية توفاهم الله.

وما زالت حالته الصحية جيدة رغم ما يعانيه من ضعف في البصر ووهن في الجسم بسبب الشيخوخة لكنه ما يزاد متشوقًا للحديث مع الآخرين.

يقول والد علي السيابي: لا أعرف تاريخ ميلادي بالتحديد ولكن أعرف حادثة لم تمحها السنين من ذاكرتي لما فيها من المآسي والذكريّات المرة الحزينة، كيف لا وقد فقدت جل أصحابي خلال أيام متقاربة! ففي عام 1360 هجري تعرضّت القرية كغيرها من ولايات السلطنة لمرض الجدري وكان عمري آنذاك أكثر من عشرين سنة فكانت حادثة عانى منها الناس الكثير ففتكّ مرض الجدري بنحو خمسين شخصا من أهالي القرية من الكبار والصغار والنساء والأطفال وكان والدي (رحمه الله)، من بين الضحايا، كما أصبت شخصيّا بالمرض ولكنّ الله سبحانه وتعالى أنجاني وكتب لي عمرًا آخر بفضله وكرمه.

ما ساعد على انتشار المرض وزيادة عدد الوفيّات عدم وجود الرعاية الصحية، فقبل ثمانين عاما من الآن لم نكن نعرف شيئا عن المستشفيّات والمراكز الصحيّة، ولا نعرف التحصين ولا العلاج الحديث وكان اعتمادنا على العلاج المحلي وتناول الأعشاب.

ويستطرد الوالد علي في الحديث فيقول: أذكر أنه خلال تلك الفترة وصلنا أمر من الإمام محمد بن عبدالله الخليلي (رحمه الله) بأن نستخدم البيض في العلاج بعد أن يخلط مع الصابون ويتم تدهين جسم المصاب كاملا، «لهذا فإن هذا الشيخ يناهز عمره المائة عام وفقًا لمعطيّات الحدث ومقارنة بالتاريخ الهجري».

ويضيف: أرهقنا المرض وكنا نرى شبح الموت في كل بيت، وكان الناس ينامون في بيوتهم وفي الصباح تأتي الأخبار بأن فلانا توفي ثم لحقه فلان وهكذا، وخوفا من الإصابات وتفاديها كنا نحمل الجثث ونضعها داخل الكهوف الواقعة خارج البلد ثم نغلق فتحاتها من الخارج بالطين والحصى وهي ما تسمى «اللجيّة» وغالبا من يتوفى بمثل تلك الحالات لا يقبر وإنما «يلجىّ».

ولكثرة رسوخ هذه الواقعة في ذاكرة الوالد علي ظل يكررها في الحديث لأكثر من مرة.

وعن حياته ونشأته يقول: كنا نعتمد في معيشتنا على تربية المواشي وقد ولدّت في البادية في مكان يسمى «لقريّه» قريب من الصليّة ولطلب الرزق كان والدي يتنقل بين قرى الطوية والصلية إلى أن استقرّ بنا الحال هنا في قرية الصبيخاء، وما كان يجبر الناس على التنقل من مكان لآخر هو طلب الكلأ والمرعى لمن عنده ماشيّه، فكانت الزراعة والرعيّ هما المصدر الأساسي لكسب الرزق والمعيشة في تلك الحقبة، ولم تكن الوظائف الحكومية متوفرة وكان الناس في ضائقة من الحياة فلا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون إلّا القليل فقط.

يقول: عندما استقر بنا المقام هنا تعلمّت القرآن الكريم على يد المعلم ناصر بن سعيد بن علي الحراصي لكنه انتقل إلى الباطنة بحثا عن الرزق فلم يكن يحصل إلا على خمس بيسات من «وقف المدرسة» نهاية كل أسبوع، ثم تعلمّت مع المعلم سيف بن قحطان الرواحي وانتقل هو الآخر إلى قرية الأبيض للسبب نفسه وأخيرا ختمت القرآن الكريم مع المعلم سالم بن حمد الرواحي. وكانت المدرسة مبنية بالطين والحصى، والتعليم كان لفترتين صباحًا ومساء ففي الفترة الصباحية كنا نستظل على جدار المسجد وعندما تشتدّ حرارة الشمس ندخل في المدرسة، وبعد ختمي للقرآن تزوجت بزوجتي

الأولى فتوفاها الله، ثم تزوجت أخرى وتوفيت أيضا، ولم أرزق منهما بأولاد لكنني اعتبر أبناء القرية كلهم أولادي فهم دائما معي ويتواصلون ويقدمون كل أنواع الرعاية والاهتمام لي وأحظى عندهم ولله الحمد بالتقدير الكبير وهذا فضل ونعمة من الله سبحانه وتعالى.

يقول الوالد علي السيابي: مرت علينا أوقات لم نجد فيها ما نأكله إلا ثمار السدر «النبق»، فكنا نأكل ثمارها رطبًا ويابسًا بعد أن جف ويطحن.

وفي المجمل كان اعتماد الناس على تناول التمر وكان الفقراء من الناس لا يجدونه فيعملون عند أصحاب الأموال الخضراء حتى يستطيعوا الحصول على تمر يطعمون به أولادهم، وبلغ سعر «منّ التمر» قرش فضة فرنس ووزن المنّ يقدر بأربعة كيلوجرامات بالوزن الحالي، والقرش الواحد يساوي 120 بيسة فكان العامل يعمل لمدة خمسة أيام متتاليه للحصول على قرش.

وفي صبانا كان الميسور فقط من لديه دشداشة واحدة يلبسها طوال الوقت ولا يخلعها من جسمه إلا ليغسلها ثم يعيد لبسها وأذكر أنه توفي شخص في القرية ولم يجدوا ما يكفنوه به ولجأوا إلى الوقف في القرية علهم يجدوا شيئًا ولكن لم يجدوا ما يكفنوه به فخلع أخي سعيد بن حمد السيابي (رحمه الله) عمامته وكفنّ بها المتوفى.

ويضيف: طلبًا للرزق سافرت إلى مملكة البحرين ثم إلى المملكة العربية السعودية وقضّيت هناك

فترة من الزمن وخلال تواجدي هناك قمت بأداء فريضة الحج مرتين، وقد عشت مع مجموعة من الأصحاب وكانت معاملتهم عندي طيبة جدًا وقضيت أياما جميلة بينهم.

ويتذكر الوالد علي كل منغصّات الحياة السابقة بكل حسرة يقول: كان القليل من يتعلم وكانت الأمراض تفتك بالناس وكذلك الجوع والحاجة ولا يوجد اتصال ولا وسائل نقل فكنا نذهب لمسقط على الجمال ونستغرق سبعة أيام وكنا نتعرض لمخاطر الطريق فكان قطاّع الطرق يتعرّضون لعابري السبيل ولا يتورعون بعد السلب والنهب من القتل وحصلت حوادث كثيرة من هذا النوع فكان الراعي لا يستطيع الخروج بغنمه ليرعاها إلا والسلاح في يده مخافة تعرضه لأيّ من هؤلاء.

أخيرًا تحدّث عن رمضان وقال: كانت نفحات رمضان في الماضي جميلة جدا فيجتمع الأهالي ويلتقون ويتبادلون الوجبات التي تعد في البيوت أما الآن التواصل قليل وما زادنا بعدا هذه الجائحة التي فرّقت وباعدت بين الناس ونسأل الله سبحانه وتعالى زوالها، كما من أسباب عدم تواصل الناس كالسابق هي وجود وسائل التواصل المعروفة الآن فالكثير يقتصر على الاتصالات أو الرسائل لهذا أنصح الناس بأن لا تلهيهم هذه الأمور عن ما هو أهم وأولها عبادة الله سبحانه وتعالى والعمل على طاعته وثانيها صلة الأقارب وخاصة الأرحام وتفقد أحوالهم لأن الدين المعاملة والمروءة تقتضي أن يتبع الإنسان جاره وصاحبه ويعرف حاجته.