د. أحمد الكعبي
د. أحمد الكعبي
روضة الصائم

رمضان مدارسةٌ علميةٌ، وممارسةٌ أخلاقيةٌ

28 أبريل 2021
28 أبريل 2021

الإسلام بقيمه النبيلةِ، وتعاليمهِ الجليلةِ لم يكن هناك فيه تناقضٌ بين المنهج النظري والواقع العملي، ولم يوجدْ ثمَّ تعارضٌ بين الجانبين العلمي والواقع العملي، بيد أنَّ الإسلام عبر تاريخه قدْ ابتلي بأناسٍ يقولون ما لا يفعلون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، وهم في ذلك يحسبون أنَّهم يُحسنونَ صنعا، إي وربي إنهم بسوء أخلاقهم وانحطاط سلوكهم يعطون مثالًا سيئًا للإسلام وتعاليمه.

لقد كان رمضان في عصر الإسلام الأول بقيادة الرسول المصطفى والنبي المجتبى، صلى الله عليه وسلم، تجسيدًا لقيم الإسلام السامية وترجَمَتِها إلى واقعٍ ملموسٍ في دنيا الناس حيث جمع، صلى الله عليه وسلم، بين النظرية والتطبيق تأكد ذلك في الحديث الشريف عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كانَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، أجْوَدَ النَّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَالَرَسولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ). رواه البخاري.

كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يتدارسُ القرآنَ الكريمَ مع جبريلَ عليه السلامُ كلَّ لَيْلةٍ مِنْ لَيَالِي رمضانَ هذه المدارسة التي لم تكن مدارسةً عقيمةً جوفاء، بل كانت مدارسةً تتضمن أخبار السابقين، وتشريعاتٍ لجماعة المسلمين، وتدبرا في أحوال الغابرين، وتفكرا في خلق الأرض والسماء واختلاف الليل والنهار.

إنها المُدَارَسَةُ التي تأخذ بيد صاحبِها نحو فهمٍ عميقٍ، وفكرٍ دقيقٍ بعيدا عن الأفكارِ المُنْحَرِفةِ والاتجاهات المتطرفة، فيتعبدُ المسلمُ لربِّه على بصيرةٍ وفق منهج يجمعُ ولا يشتتْ، ويوحدُ ولا يفرق، وذلك سيرا على هداياتِ المنهجِ الربانيِّ الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

إنها المُدَارَسَةُ التي كانتْ ولا تزال ُعلامةً على رُقيِّ الأممِ ودلالةً على تقدُّمِهَا، وأمارةً على نهضتِها، فأمَّةٌ بلا قراءةٍ أمَّةٌ بلا حياة، وإن كانت تأكل وتشرب وتتحرك كما تتحرك بقية الأحياء، وسائر الكائنات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

المُدَارَسَةُ التي ترقى بصاحبها نحو وعيٍ صحيحٍ، وفهمٍ راقٍ يستطيع به أنْ يمِيزَ الطيبَ من الخبيثِ، والغثَّ من السمين، فلا يعبثُ بفكره المُرْتَزَقَةُ المُنْحَطُّونَ، ولا يلوثُ عقلَه السفَلَةُ الكذابون.

المُدَارَسَةُ التي يعلو بها شأنُ أمتِنَا، ويرتقي قدرُها، ويُرْفَعُ في العالمين ذكرُها «لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

ومع تلك المدارسةِ كان، صلى الله عليه وسلم، يجودُ بِرا وكَرَما، فلم تكن تَشْغَلُهُ المُدَارَسَةُ عن المُمَارَسَةِ، ولم يكن هناك انفصامٌ أو خِصَامٌ بين الجانبين التطبيقي والواقع العملي، إنَّه الكرمُ النبويُّ والسخاءُ المُحَمَّدِيُّ الذي أفاض به رسولكم الكريم، صلى الله عليه وسلم، على مَنْ حوله من بني البشر الذي جعل أحدهم يذهب إلى قومه فيقول: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ.

من هنا لا صلاحَ لهذه الأمة إلى إذا أخذت بما فيه عزُّهَا وعلوُّ قدرها، لا استقامة لها إلا إذا جعلت من رمضان فرصةً لترجع إلى ربها، وتمازج في تمسكها بتعاليم القرآن الكريم الذي أنزل في هذا الشهر العظيم بين المنهج العلميِّ والتطبيقِ العمليِّ، أو بين المدارسة والممارسة لتصبح بحقٍّ خير أمة أُخْرِجت للناس ليس بالادعاء والمقال، ولكن أيضا بالخُلُقِ والفِعال.