No Image
روضة الصائم

رمضان بين فنتازيا جدي والسحور على مائدة أشعب

22 مارس 2023
كانت لنا أيام ..
22 مارس 2023

لا يرتبط رمضان في ذهني ووجداني بالشهر الزمني التاسع الذي يأتي بعد شعبان ونعده بالأيام، وإنما مرتبط في ذاكرتي بمشاعر لصديق.. إنسان أشتاق لحضوره ووصوله وأحن بعد فراقه لذكرياتنا معا، وأبكي وأبتهج في حضوره؛ لذلك رمضان الأول لا أحمل له من ذكريات سوى أنه بوابة الانتصار على الكبار الذي مكنني أنا وأطفال العائلة من التربع في حلقة الإفطار والسحور وفي كل طقوس رمضان المرتبطة بالأكل خاصة، لا أدري لماذا كانت يد الإقصاء تمارس علينا! وكأن أفواهنا الصغيرة ستلتهم المائدة على الكبار، والله إن هي إلا رغبة طفولية كانت تتقافز في داخلنا لنتعرف إلى عمّنا رمضان الذي كان يدهشنا بتحويل بيتنا إلى حديقة تتنافس فيها أطيب أطايب روائح الطبيخ الشهية.

لقد وصل الأمر بالكبار لاختراع شخصيات رعب فنتازية يتفننون في تخويفنا بها، فمثلا حين ينتصف شهر رمضان ويبدأ العد التنازلي يقولون الليلة (العَقْبة) سنصعد العَقَبة في منتصف الليل -وكأنهم يصعدون جبلا- وسنذهب بهذه المناسبة لإحضار الحلوى من عند الشايب العجوز.

وحين نتوسل نحن الأطفال الشغوفون بالخيال أن يوقظونا لنصحبهم في صعود العقبة لنحظى بشرف ملاقاة الشايب العجوز وأكل الحلوى من يديه الكريمتين؛ يفتح الكبار مندوس مخيلتهم وخيالهم المرعب المخيف الذي ورّثهم إياه أجدادهم، فيردون وأعينهم مفتوحة مثل فنجان القهوة (وييييه) هل تريدون الشايب ذا السن والناب الوحيد الطويل الذي يقلّب بها الحلوى أن يأكلكم؟ لأنه يتخير الأطفال الذين يعرف أنهم غير صائمين، ويبدع خيالهم أكثر حين يرون أننا لم نَكِش من الخوف! يجب عليكم ألا تستيقظوا ومن يخالف ويأتي معنا سنربطه بحبل في ذيل تيس أو ذيل حمار أو ذيل كبش وهو نائم! فنقرر أن ننام رغما عن النوم بعد وجبة الرعب الدسمة.

وفي الصباح حين نستيقظ أول شيء تبحث عنه أعيننا الحلوى، وفعلا نرى صحن الحلوى ولم يتبق منه إلا الشيء القليل الذي تركوه إكراما لعاطفة الأبوة التي لا يهون عليها أن تكسر بخاطر (الصغيرين) أي الأطفال البريئين، فيوزع علينا جدي نتفا صغيرة نأكلها أو نتذوقها أملا في إشباع خاطر خيالٍ بأنها من صنع الشايب ذي الناب الوحيد.

تضحك جدتي اليوم حين يمازحها أولادها وأحفادها الذين كبروا وصاموا رمضانات كثيرة ، جدتي أين الآن الشايب ذو الناب؟! فيرد عنها حفيد من أحفادها الذي استمتع بكل أفلام وألعاب الرعب وصار يتفوق في رسم مشاهد رعب أشد من جدتي وجيلها: ( ربما الشايب مات وأحفاده الحين ما يفزّعوا)!

لكن رمضان الطفولة ارتبط عندي بعشق من نوع آخر، ارتبط بعشق المسلسل التاريخي وشخصياته التي كانت تحقق لي أمنية تعذبني كلما انتهت حصص التاريخ أن أعيش مع الشخصيات التاريخية، أسمع حديثها باللغة العربية وأرى لباسها وحديثها وأسواقها وبيوتها.

الكل كان ينتظر في تلفزيون رمضان ما يخصه، برنامج الفوازير أو المسلسل الكوميدي بعد الإفطار أو المسلسل العُماني، إلا أنا كنت أنتظر بعد صلاة العصر ما سيبث في رمضان من مسلسل تاريخي ؟!

ولهذا تخزّن ذاكرتي ضحكة صلاح السعدني في مسلسل سحور على مائدة أشعب عام 1991 ومناكفاته مع دلال عبدالعزيز في دور رشا .. وكل حصص السيرة النبوية وطريقة الأساتذة المملة في شرحها لم تنافس مسلسل الوعد الحق الذي سرقني من كل واجبات رمضان بالقدرة العجيبة لدى الممثل عبدالله غيث في تقمص دور حرب بن أمية أو حمدي غيث في دور عبدالمطلب بن هاشم ولن أنسى أحمد ماهر في دور أبو جهل لأني كرهته وأنتظر كل يوم اللحظة الدرامية التي يأتي أحد وينتقم فيها منه على ما فعله بالمساكين بلال بن رباح وسمية أم عمار.

وأسجل هنا اختلافي مع بعض النقاد الذين اتهموا المسلسل التاريخي حوش المصاطب الكويتي بعدم النجاح والذي عرض في رمضان عام 1995؛ لأنه يكفيه نجاحا أن انتشل طفلا في قرية بعيدة عن التسالي من ربقة الروتين الممل بقصته الفنية المليئة بالفكاهة والمقالب والسخرية التي كانت تبتدعها شخصيات الحوش المدهشة مثل الممثل أحمد السلمان مع منى واصف وجاسم النبهان وزد عليها الدراما المأساوية بين محمد المنصور ومادلين طبر وبالأغاني التي وظفها المخرج لتكملة البناء الدرامي للحكاية فأزهرت في روحي حنينا لا يشبعه إلا أن أنقر على اليوتويب لأعيد سماعها وسماعها. وغيرها لا يسع المقال لتعدادها.

المهم أن ذلك الشغف بالدراما التاريخية الرمضانية حقق لي ارتباطا وجدانيا ومعرفيا بمادة التاريخ التي كنت لا أرضى فيها إلا بالدرجة النهائية، ونمّى عندي شغفا لا ينتهي بقراءة كتب التاريخ وما زلت أعيش حلما أن أكتب للأطفال واليافعين كتبا وقصصا وروايات تاريخية؛ ليقيني أنه عبر استدعاء التاريخ وتوظيفه فنيا نستطيع أن نعيد بناء قيم ثقافية تُبقي في أولادنا القيم الإنسانية التي تعمل بعض الإنتاجات العالمية للدراما التاريخية أن تلغيها وتجعلها مسخا مشوها.