No Image
روضة الصائم

ذكر الفساد في القرآن الكريم

31 مارس 2022
تأملات قرآنية
31 مارس 2022

المتأمل في كتاب الله يجد أنه يدعو الناس إلى الإصلاح في الأرض التي استخلفهم الله فيها، ويحذر من كل مظاهر الفساد، وهذه المظاهر المتمثلة في الجانب المادي ومظاهره عديدة وأبرزها إهلاك الحرث والنسل، والجانب المعنوي المتمثل في الفساد الأخلاقي والسلوكي النابع من الفساد الفكري والعقدي، وكل هذه المظاهر مرتبطة ببعضها، وقد استعرض القرآن الكريم مجموعة من مظاهر فساد الأمم السابقة، وما وقعوا فيه من مفاسد أدت إلى هلاكها وهلاك المفسدين فيها.

ومن هذه الأمم التي ذكرها الله تعالى وكان فسادها سببا في هلاكها أو هلاك المفسدين فيها ما ذكره القرآن الكريم في سورة الفجر حيث يقول ربنا جل وعلا: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ» فقد ذكر الله مواطن تمكينهم في الأرض فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا، ويشيدون من الصخور عمرانا عظيما، ولكنهم بسبب إكثارهم من الفساد، صب الله عليهم العذاب.

ومن أبرز الأمثلة على الفساد فرعونُ الذي كان عاليا من المجرمين، فقد وصفه الله بهذا الوصف في كتابه العزيز حيث يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة القصص: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» فقد قام بقتل كل مولود يولد، وفعل الفاحشة بنساء بني إسرائيل، وأتى بأداة التأكيد إن في بداية الآية وكررها قبل أن يصفه بالفساد.

ولكن المفارقة الطريفة التي أتى بها القرآن، وذلك ليدلل على ضلال فرعون، وفساد فطرته، أن فرعون اعتبر موسى عليه السلام هو المفسد في الأرض، فيجب أن يُقتل لكي لا ينشر الفساد في الأرض، فقال تعالى في سورة غافر: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ».

ولو تأملنا أيضا شخصية أخرى مفسدة أوردها القرآن الكريم وكانت مزامنة لفرعون وموسى، وهو قارون الذي آتاه الله من الأموال والكنوز العظيمة، فأمره قومه أن يحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه بهذه الأموال العظيمة، وأن يجعل من تلك الأموال وسيلة له لينال ثواب الآخرة، وأن لا يفسد في الأرض فساد المترفين المتلفين للنعم، فقال تعالى في سورة القصص: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»، فماذا رد عليهم؟ لم يخضع للحق، ولم يرجع الفضل لله الواحد الذي وهبه ما وهبه، « قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي» فخسف الله به وبداره الأرض، وذلك جزاء المفسدين.

ومن الأمم التي أرسل الله عليها صنوفا من العذاب ليرتدعوا عن الفساد هم بنو إسرائيل، فقد كانوا يسعون في الأرض فسادا كما وصفهم رب العزة في سورة المائدة «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» فهم يشتملون على كل صنوف الفساد، وعلى الرغم من أن بني إسرائيل هم أكثر الأقوام التي أنزلت عليهم المعجزات البينات الواضحات إلا أنهم ضلوا، ولم يؤمنوا، بل وتعدى الأمر إلى قتلهم لأنبيائهم.

فكيف لا يؤمن من ينزل له الله عز وجل مائدة يومية من السماء؟ وكيف لا يؤمن من يشق الله البحر أمام ناظريه لينجيه من القتل؟ وكيف لا يؤمنون بتلك المعاجز الكثيرة التي رأوها أمامهم ماثلة؟ فقال تعالى في وصفهم: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ». وقال ربنا تبارك وتعالى في سورة البقرة: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

وأهلك الله قوم ثمود الذين أرسل لهم الله نبيه صالحا، فكذبوه وقتلوا المعجزة التي طلبوها منه ظلما وبغيا وفسادا فأهلكهم الله، فقال تعالى في سورة الأعراف: «وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

وكذلك قوم مدين الذين أرسل الله لهم شعيبا الذي نهاهم عن الإفساد في الأرض فقال تعالى في سورة العنكبوت: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» وكان من ضمن فسادهم وكفرهم أنهم كانوا ينقصون المكيال إذا باعوا، ويزيدون في الوزن إذا اشتروا، ويفسدون في الأرض فقال لهم شعيب في سورة هود: «وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ» وفي سورة الشعراء: «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»، ولكنهم عصوا رسول ربهم فأخذهم العذاب.

كما بين الله تعالى فساد المنافقين، وذلك لفساد قلوبهم، حتى أنهم لكثرة فسادها، تظن أن إفسادها إصلاح، فقال تعالى في سورة البقرة «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ»، ومن رؤوس المنافقين الأخنس بن شريق الذي أنزل الله فيه قوله: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ» فقد أورد البغوي في تفسيره أن الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلة فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم.

ولخطر المفسدين في الأرض وأعمالهم المناقضة لفكرة إعمار الأرض التي من أجلها استخلف الله بني آدم فيها فجزاؤهم كما قال ربنا في سورة البقرة: «إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».