No Image
روضة الصائم

المبرّد الأزدي

23 مارس 2023
رواد الأدب العماني
23 مارس 2023

المبرد واسمه محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، ولد المبرد في الباطنة بعمان نحو سنة -210هـ - 825م-، وقد لُقب بالمبرد لجمال وجهه، نشأ في البصرة، وتلقى العلم فيها على عدد كبير من علماء عصره في اللغة والأدب والنحو منهم «الجاحظ»، ولم تقتصر روافد ثقافة «المبرد» ومصادر علمه على ما يتلقاه عن شيوخه فحسب، وإنما كان نهم القراءة؛ فكان يقرأ كل ما يمكن أن يصل إليه من كتب السابقين. فصار زعيم النحويين بلا منازع وإمام عصره في الأدب واللغة، فأقبل عليه الطلاب من كل حدب وصوب، وصار بيته كعبة لطلاب العلم ورواد المعرفة من كل مكان، ومنتدى للوجهاء والعظماء والأعيان. واختصه كثير من سراة القوم وأعيانهم لتأديب أبنائهم؛ لما عُرف عنه من العلم والفضل والأدب، وما اشتهر به من المروءة والوفاء.

وبالرغم من أنه عاصر تسعة من الخلفاء العباسيين فإنه لم يكن يحب أن يبيع علمه لهم، فلم يتصل إلا بواحد فقط منهم، هو الخليفة «المتوكل»، وقد جاء خبر قدومه عليه في قصة لطيفة، فقد كان «المتوكل» قد قرأ يومًا في حضرة «الفتح بن خاقان» قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بفتح همزة (أن)، فقال له الفتح: إنها يا سيدي بالكسر، وصمم كل منهما على أنه على صواب، فتبايعا على عشرة آلاف درهم يدفعها من لا يكون الحق في جانبه. وتحاكما إلى «يزيد بن محمد المهلبي»، وكان صديقًا للمبرد، ولكنه خاف أن يسخط أيا منهما، فأشار بتحكيم «المبرد، فلما استدعاه «الفتح» وسأله عنها قال: «إنها بالكسر، وهو الجيد المختار، وذكر تفسير ذلك والأدلة عليه». فلما دخلوا على «المتوكل» سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرأونها بالفتح، فضحك «المتوكل» وضرب رجله اليسرى، وقال: «أحضر المال يا فتح».

فلما خرجوا من عنده عاتبه «الفتح»، فقال المبرد: «إنما قلت: أكثر الناس يقرأونها بالفتح، وأكثرهم على الخطأ، وإنما تخلصت من اللائمة، وهو أمير المؤمنين»!

وتوثقت صلته بالفتح الذي أعجب بعلمه وذكائه وغزارة علمه وحسن حديثه؛ فكان كل منهما يحرص على وُدِّ صاحبه، ويقدر له مكانته.

عرف «المبرد» بطلاقة لسانه، وسلامة عبادته، وكان عذب الحديث حسن الفكاهة؛ ولذلك فقد حرص الولاة والأمراء على مجالسته ومسامرته. وكان أصدقاؤه يحبون ذلك منه، ويجيبون دعاباته بلطائف دعاباتهم. روي أن أحد الأدباء، وكان يُدعى «برد الخيار» لقي المبرد على الجسر في يوم بارد،

فقال: «أنت المبرد وأنا برد الخيار، واليوم بارد، اعبر بنا سريعًا لئلا يصيب الناس الفالج» (مرض يصيب الإنسان فيرخِّي بعض البدن).

كان المبرد إلى جانب ما عُرف به من كثرة محفوظه وقوة حافظته يتمتع ببديهة حاضرة وذهن وقّاد، وأكسبته غزارة علمه قدرة فائقة على الرد على كل سؤال، وكان ذلك مثار عجب أنصاره وحسد أعدائه، حتى إنهم اتهموه بالوضع في اللغة لكثرة حفظه وسرعة إجابته. وقد وثقه العلماء وأصحاب الجرح والتعديل؛ وحينما قدم «المبرد» إلى «بغداد» كان «أبو العباس أحمد بن يحيى» المعروف بثعلب على رأس علمائها ومشايخها، فخشي مزاحمة «المبرد» له، وانتزاع الرياسة منه؛ فأغرى به بعض تلاميذه يعنتونه بالأسئلة حتى يعجزوه؛ فينصرف عنه الناس، وكان «الزجاج» على رأس من أغراهم «ثعلب» به؛ لأنه كان أبرعهم حجة وأكثرهم علمًا وذكاء. ولكن «المبرد» استطاع بعلمه وبلاغته وقوة حجته أن يأخذ بعقل «الزجاج» ويستحوذ على إعجابه؛ فترك «ثعلب» ولزم «المبرد» يأخذ عنه ويتتلمذ عليه. وبالرغم من اشتعال المنافسة بين الرجلين واشتداد التنافر بينهما، وعنف «ثعلب» في الهجوم على «المبرد» وكثرة تعريضه به، وتعرضه له، فإن «المبرد» كان بعيدًا عن العنف به، ويأبى مواجهته بالسوء؛ فلم يُعرف عنه أنه أغرى به أحدًا من تلاميذه، أو أوعز إلى أحد أن يعنته بسؤال. بل إنه حينما سئل عن «ثعلب» قال: «ثعلب أعلم الكوفيين بالنحو»!

والمبرد هو أول من ألف في طبقات النحويين اشتهر بالذكاء والفطنة وقيل فيه:

وإذا يقال من الفتى كل الفتى

والشيخ والكهل الكريم العنصرِ

والمستضاء بعلمه وبرأيه

وبعقله قلت ابن عبد الأكبر

كان «المبرد» مع روايته للشعر وحفاوته به قليل الشعر، ولم يصل إلينا من نظمه إلا النزر اليسير، وهو على ندرته يتسم بالجودة والرقة والعذوبة. ومن جيد شعره قوله في الرثاء:

لعمري لئِن غال ريبُ الزمان

فساء لقد غال نفسًا حبيبة

ولكن علمي بما في الثواب

عند المصيبة يُنسي المصيبة

وله في الحكمة:

ما القرب إلا لمن صحت مودتُه

ولم يخُنك، وليس القرب في النسب

كم من قريب دوى الصدر مضطغن

ومن بعيد سليم غير مغترب

بالرغم من مكانة المبرد الأدبية والعلمية، وغزارة علمه واتساع معارفه، فإنه لم يصلنا من آثاره ومؤلفاته إلا عدد قليل منها: كتاب الكامل: وهو من الكتب الرائدة في فن الأدب، وقد طُبع مرات عديدة، وكتاب الفاضل: وهو كتاب مختصر يقوم على أسلوب الاختيارات، ويعتمد على الطرائف وحسن الاختيار، وكتاب المقتضب: ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، ويتناول كل موضوعات النحو والصرف بأسلوب واضح مدعَّم بالشواهد والأمثلة.

قال عنه «الخطيب البغدادي»: «كان عالمًا فاضلا موثوقًا في الرواية». وقال: «ياقوت»: «كان إمام العربية، وشيخ أهل النحو ببغداد، وإليه انتهى علماؤها بعد الجرمي والمازني». وتوفي «المبرد» في (28 من ذي الحجة 286هـ = 5 من يناير 900م)

عن كتاب الكامل: يصنف كتابه «الكامل» من المصادر الأدبية المهمة، كما عدها في ذلك ابن خلدون حيث قال: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتَبَعٌ لها وفروع منها».

يقول الدكتور محمد أحمد الدّالي: «وعلى أن المبرد قد كسر كتابه على أبواب فالظاهر أن هذه الأبواب لم توضع فيه على نسق أو نظام، ولم يستقل أيّ منها بفن واحد، ولا أستثني البابين اللذين عقد أولهما لـ«بعض ما مرّ للعرب من التشبيه المصيب و المحدثين من بعدهم» وثانيهما لـ«أخبار الخوارج»، فقد وضعت الأخبار والمختارات فيهما على نسق أو نظام يؤلف بينها غير فكرة الباب العامة». ويحتوي الكتاب على كثير من أخبار الخوارج بين دفتيه.

والكتاب قيِّم جدًا يحتوي على كثير من المختارات الشعرية والخطب والقصص والحكم، وإيضاحات لغوية، وشروح نحوية، ولمحات نقدية، فهو بذلك مصدر مهم من المصادر الأدبية الكثيرة في تراثنا العربي، وخلاصة أنه كتاب لا يستغنى عنه لمن أراد القراءة في الأدب العربي القديم، أو أراد دراسته. لما يحوي من معلومات قيمة، وأسلوب موسوعي ثقافي. فكل جزء يضم بين دفتيه أشكالا مختلفة من الثقافة العربية والأدبية والإخبارية والتاريخية واللغوية والنحوية والقرآنية

ويتميز الكتاب بأمور منها: يضم قدرا كبيرا من الآيات القرآنية مع تفسيرها تفسيرا واضحا، ومقدمة أيضا وشواهد نحوية ولغوية وهي منتخبة من 112 سورة، ويضم عددا كبيرا من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة الإسناد وأيضا يستشهد بها. ويحتوي على عدد كبير من أمثال العرب ما يقارب 75 مثلا مع ذكر أصل المثل والمناسبة. والكتاب مليء بأجزائه الأربعة بنماذج من خطب العرب في مختلف العصور حتى العصر الذي عاش فيه، من جاهلية وخطب الرسول والخلفاء الراشدين وملوك بني أمية زعماء الخوارج، وبعض ملوك بنو العباس، فهو قريب من منهج الجاحظ.

وأكثر من أخبار الحكماء مع ذكر أقوالهم وقد حرص على تكرار هذا الموضوع تحت عنوان (نبذ من أخبار الحكماء) على مدى صفحات الكتاب. واهتم بالشعر والشعراء اهتمام كثيرا، فيورد الكثير من أخبار الشعراء ونماذج من أشعارهم وأحيانا يركز على شاعر بعينه وموضوع بعينه، فمن المديح للهجاء للرثاء، للفخر، للرثاء، واهتم على طول صفحاته اهتمام بالغ في البلاغة العربية بضروبها جميعا، ويقدم ذلك مستشهدا بأمثلة وشواهد لشعراء قدامى ومحدثين. وكذلك اهتم بالنحو ويعالج موضوعات النحو عن طريق تناول موضوع بعينه أو عن طريق الإعراب

- الكتاب مليء بالأخبار الأدبية والتاريخية والوثائق من نطاق المعرفة الإسلامية والعربية مثل: الرسائل والأخبار وأقوال الصحابة. ويكثر من القضايا اللغوية درسا وتناولا وشواهد في مختلف أنحاء الكتاب. ومليء بالطرائف الشعرية والعامة والخاصة ، وأيضا بالأخبار القصيرة المليئة بالحكمة الفريدة في غرابتها.