No Image
روضة الصائم

الفزاري: شاعر الفتوحات والمراثي

12 مارس 2024
12 مارس 2024

بشير بن عامر بن عبد الله الفزاري فقيه، وطبيب، وشاعر، وله مراسلات في الطب، وهو شاعر الفتوحات اليعربية، عاش في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي وأوائل القرن الثامن عشر على الأرجح، سطّر الفتوحات والانتصارات اليعربية شعرا، وهو مع الحبسي أجود شعراء اليعاربة، يقول عنه محمد الحجري: «يعتني الفزاري بغرضين مهمين هما المديح والرثاء، وتمحور مديحه حول سلطان بن سيف وولديه بلعرب وسيف، وفي رثائه اهتم بالإضافة إلى الزعماء والقادة بالعلماء والفقهاء الذين عاصرهم». والحق أن المديح مخلوط عنده بشعر الفتوحات.

ولكننا سنقف أولا عند مقدماته، فهو كسائر شعراء عصره يبتدئ قصائد مديحه بالاستمطار والوقوف على الأطلال، وهو يكرر الصورة العامة ذاتها التي أدمنها شعراء العصر اليعربي في البكاء والاستمطار، ولكنه -مثلهم أيضا- يظهر مختلفا في تفاصيل المشهد وفي الصور الجزئية وفي التشبيهات والاستعارات المكونة لتلك الصور الجزئية، ولذا يبقى الوقوف والاستمطار المضمون القديم الجديد عند شعراء العصر اليعربي، ومن لذيذ شعره في الاستفتاح الطللي:

ديارٌ عفتْ من كل هيفاء ناهد

وقفتُ بها أبكي وللسحب أعينٌ

فأمست رياضا بالربيع ارتضينه

يفوق خدود الغانيات شقيقُها

ويغنيك عن شم الأطايب تربُها

تأرَّجت الأرجاء منها كأنما

وغردتِ الأطيارُ في هام دوحها

كأن غناءَ الورق في جنباتها

وكل غضيض الطرف أغيد ناعم

تُبكّي عليها بالدموع السواجم

وكانت ربوعا للهوى المتقادم

وتحكي أقاحيها ثغور البواسم

وعن كل طيب للخياشيم فاغم

رياح الصَبا يلطمنها بلطائم

فحركتِ الأشواق من كل هائم

غناء جوارٍ من قيان الأعاجم

ويمكننا تتبع نص من نصوص الفزاري، لنرى كيف يبدأ بالمقدمة الطللية، ثم يخلص إلى الغرض، يقول الفزاري مثلا في قصيدة يمدح فيها سلطان بن سيف:

كسا الكون سحب منه طل ووابلُ

وغادته من نوء السماكين مزنةً

لها زجلٌ عال كأن رعودها

وللبرق فيها ضوء برق يهزه

وجادته أخلاف السحاب الحوافل

مدامعها وطف هوام هوامل

ثواكل نوق جاوبتها ثواكل

كميٌ مشيحٌ في الكريهة باسل

وهذا المقطع -كما يرى الحجري- نموذج لتناول الشعراء العمانيين للمعاني القديمة، لتبدو فيه تلك المعاني أبعد ما تكون عن سمة البلى والقدم:

شجتني رسوم باللوى ومنازل

منازل كادت تنمحي وكأنها

وقفت بها أبكي بآماق عروةٍ

لقد أقفرتْ ممن أحب ربوعه

ولم تُشجني من قبل ذاك المنازلُ

سطور زبورٍ ضمنتها الجنادل

وقوف أسير أوثقته السلاسل

ولكنها في القلب مني أواهل

ونلاحظ هنا الإبداع في التصوير، رغم أنه كان تصويرا تقليديا، لكن الصورة بديعة متجددة، وقد أبدع في وصف لوحات الفروسية، فكان شعره حماسيا يفيض وطنية ولهيبا، فهو في مديحه يرسم صورة القائد العربي المملوء بالقيم الأصيلة النبيلة كالشجاعة والكرم والحزم، والعدل والتقوى، يقول في الإمام سلطان:

على رأسه تاج وقارٍ وهيبة

تحمّل عبئا لو تحمل يذبل

له قلم (الويل) فيه لمن عصى

كذاك نبات الأرض والماء واحد

هو الملك الغمر الرداء الذي له

إذا احتيج في الهيجا إلى الجحفل احتمى

وإن ضنت الأنواء جادتْ يمينه

ويصحبه بحران علم ونائلُ

لناءت أعاليه به والأسافل

وفيه لمن والى ولم يعص وابل

تضادد منه لونه والمآكل

ينابيع فضل لم تفز ومناهل

به السيف فاحتاجت إليه الجحافل

وأغنتْ عن الأنواء منه الأنامل

تأمل في مدحه لليعاربة وتوعده للبرتغاليين بسحقهم من العمانيين إن عادوا إلى قتالهم. وكان البرتغاليون قد طردوا من عمان نهائيا سنة 1650، في عهد الإمام سلطان بن سيف، يقول:

ألا بَشّر الإفرنجَ إنْ أقبلوا إلى

لَئِنْ لم يكفّوا أيديا عن قتالِنا

وهِجْنا لهم هيجاءَ تَضْري جُسومَهَمْ

يَذوب الصَّفا من حَرِّها ولهيبِها

قِتال العُمانِيّينَ بالأسْر والقَتْلِ

أذقناهمُ حَرَّ الصّوارم والذُّبْلِ

بأنيابِ أسيافٍ هنالكَمُ عُصْلِ

ويَبْيَضُّ مِنْ أهوالِها مَفْرِقُ الطِّفْلِ

ومما قال في فتح ممباسا وهي من مدن شرق إفريقيا (تتبع حاليا دولة كينيا) بعد أن حررها الإمام سيف بن سلطان اليعربي الملقب بقيد الأرض من البرتغاليين عام 1698م بعد معارك ضارية:

هذا هو الفتح المبين الأنورُ

والحمد لله الذي نصر الهدى

سيف بن سلطان الذي انجابت له

بعث الجيوشَ إلى النصارى غازيا

دُورا حموها بالظُبا وتوهموا

قد حصَّنوا أكواتها بمدافعٍ

وصوارم هندية ولهازم

فأتاهم جيشُ الإمام كأنه

حملتهم في البحر خيلُ سفائنٍ

حتى أتوا ممباسةً فثووا بها

فتقحَّم الأسدُ الشراةُ عليهم

فإذا العقاب من النصارى بلبلٌ

ذبحوهم ذبح الضحايا بالظُبا

هذا هو النصر العزيز الأكبرُ

بإمام صدقٍ فضله لا ينكر

ظلم الظلالة واهتدى المتحير

دُورا لهم بالكفر كانت تعمر

أن ليس يدخلها عليهم عسكر

نيرانها في كل يومٍ تسعر

خطية بأكف أسد تزأر

سيلٌ أبيٌّ بالردى يتحدّر

من دونها الخيل الجياد الضُمَّر

كالأسد تمشي في السلاح وتخطر

أسوارهم وقت الضُحى وتسوروا

والضيغم الضاري هنالك جؤذر

بالكوت حتى الكوت قانٍ أحمر

وقال مادحا:

ألِفَ السياسةَ يافعا ورقى إلى

جُبلتْ على حب المكارم نفسه

ذابت قلوب عداته حسداً له

زهدٌ ومعروفٌ وعرفٌ ساكبٌ

ساد الورى بكماله ونواله

صاد العُلى بحباله من جوده

ضرغام معركة خضّم سماحةٍ

درجاتِ مجدٍ في السماء محلقُ

فهو الكريم وشأوه لم يلحق

فكأنها في لفح جمرٍ محرق

وصباحةٌ وفصاحةٌ في المنطق

فله الفخار بمغرب ومشَرِّق

يوما وقيَّدها بمال مطلق

يرجى ويخشى في الندى والمأزق

أما الغرض الثاني الذي أبدع فيه الفزاري فهو الرثاء، إذ نرى صدق العاطفة، ولوعة الحزن، وجلل الفقد، وعظيم الألم، والحق معظم من رثاهم الفزاري هم من الرجال العظماء، كالقادة والعلماء، ومن ذلك رثاء العلامة أحمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن أحمد بن موسى الأدمي (ت 1096هـ / 1685م:

هو الموت لا ينبو لصارمه حدُّ

فلا تنفقنَ العمر في جمع ثروةٍ

وكن راضيا منها بقوت تعش به

ولا تشتغل فيها بمالٍ وغادةٍ

وأعدد من الأعمال ما كان صالحا

هنالك لا ينجو سوى البر والتقى

وكم من فقيه زاهدٍ متورّع

ثوى في الثرى من بعد ما كان كوكبا

كأحمد المعروف بالزهد والتقى

وليس لنفسٍ في تورده بدُّ

فليس على الدنيا لجامعها خلدُ

كثيرٌ لمن حادي المنون به يحدو

فأفضل أشغال الفتى العلمُ والزهدُ

ليومٍ به مكتوم أسرارنا يبدو

ولا ينفعنّ المرء مالٌ ولا ولدُ...

له خلق رحبٌ ومعرفةٌ عدُ

تضيء به الدنيا ويتضح الرشدُ

فتى خلفٍ وهو الذي هزله جدُّ

وكما ترى فهو يجمع بين الندب والتأبين والعزاء المنتهي بتوجيهات ونصائح وحكم، إذ الحكمة تحضر بشكل لافت في أشعار الفزاري، وشعره يفيض بالحكمة، ومن ذلك:

العدل أفضل ما يساس به الورى

والعلم للإنسان أشرف ملبس

والجود يغرس في القلوب محبةً

والفخر بالخُلق الجميل وبالتقى

والمجد ليس يناله إلا فتىً

والملك ليس يليق إلا بامرئٍ

والحمد أنفس كل شيء يشترى

وبه يصير المرء في أعلى الذُرى

ويفيد صاحبه الثناء الأوفرا

لا بالثراء ولا عظام في الثرى

يقظان لم تقعد به سِنةُ الكرى

عدل سديد الرأي فيما دبرا

وقال متغزّلا:

مرت وطيب ثيابها يتضوّعُ

ويكاد من فرط النعومة جسمها

سقط النصيفُ وما درت بسقوطه

فتساقطت لما رأته ساقطا

فكأنها حببٌ على وردٍ ندا

ظلَّت تقول لأمها ضاع الذي

فأجابت الأم الشفيقةُ قولها

وتلفتت فإذا به في موضعٍ

قالت لها إن النصيف مع الذي

وتجاب أمواج البحار لأجله

وقوامها من لينه يتهزعُ

يعروه من دور القميص توجع

وبدا لنا بدرٌ وليلٌ أسفع

أسفا على الخدين منها الأدمعُ

أو لؤلؤٌ منه النظام يقطع

قد كنتُ عن كل به أتلفع

لا تحزني فعسى نصيفك يرجع

من ردفها يا نعم ذاك الموضع

يصبو الحليم إليه والمتورع

ويجاب داعيه اللطيف ويسمع

وما زلنا مع غزله الرائع من ذلك قوله:

براني الهوى حتى رثى لي حاسدي

كتمت الهوى جهدي فباح بي الجوى

لقد سلبتْ لُبيّ فتاةٌ جمالها

إذا سحبت فضل الذيول حسبتها

تبسم عن دُرٍّ وتحسر عن دجى

وتنظر عن عيني غزالٍ مرشحٍ

ويرشف خمرا من لُماها ضجيعها

وملَّ حياتي عائدي وطبيبي

ودلَّ عليه مدمعي وشحوبي

يغيب لديه عقل كل لبيب

قضيبا من الريحان فوق كثيب

وتسفر عن بدرٍ فويق قضيب

وتعطو برخصٍ في الأكف خضيب

برائحةٍ مثل العبير وطيب

وعموما يتميز شعر الفزاري بالقوة والرصانة، ولعله استطاع أن يفلت من ركاكة المحسنات البديعية، وهو خير من يمثّل القوة الشعرية في هذا العصر.

د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا