No Image
روضة الصائم

الحِـوار البنَّـاء مع الأبناء

29 أبريل 2022
ذكريات الشهر الفضيل
29 أبريل 2022

في مستهل هذا الحديث الحالم بفكرة بديعة، يبدو أن اجتماع حروف الحاء والواو والراء مع بعضها في وعاء واحد له دلالة لغوية؛ تنسحب نحو الجمال والحسن، ومن ذلك قولنا: (حُوْر و حَوَر وحوريَّة)، وكلها مفردات تنبض بالبهاء والنقاء والطهر، وعليه فإن موضوعنا هذا لا يخلو من الجمال الدافئ والحسن الصافي؛ إذ أنه حوار فيه من الأنس والألفة شيء كثير ولعل الصفة التي أتبعت به تعطيه بُعدا أجمل وأشمل حيث إنه يرنو للبناء والإعمار في النفس الصغيرة منذ نعومة أظفارها؛ لذا فإن الجسر الناعم الذي نحن بصدد المشي عليه يرسم لنا خطوات صديقة لروح الطفل والابن بطريقة مثمرة تتدلّى منها قطوف الحب وعناقيد الوئام في حقل الحياة الكريمة السعيدة الهانئة التي ننهمك للبحث عنها بين عقارب الوقت وأنفاس الوجود، وهذا ما جال في خاطري لأبثه عبر هذه السطور.

إنَّنا ومنذ الوهلة الأولى لسماع طفل يتحدث بطلاقة وثقة واتزان فإنَّ قولَه يُبهرنا، وأمره يُدهشنا، فنتساءل عن مصدر هذه القوَّة وسبب هذا الاعتزاز. فيتضح لنا أنه قد عاش في بيئة داعمة للحوار الإيجابي، وأنه استلهم عبقرية حديث وتواصل من خلال القدوة الحسنة التي كانت تمده بخيوط تشكل عقله وروحه وفكره.

يقول أبو العلاء المعرِّي:

وينشأ ناشئ الفتيان منَّا

على ما كـان عـوَّده أبــوه

حِين يولد الطفل تُولد معه ومن حوله كميَّات هائلة من الأشياء الجديدة مثل اللغة والصوت والحركة والأسماء، وتستقبل عيناه ملايين الصور والأشكال، وتنفتح على عقله عوالم كثيرة من المعلومات والمعارف والخبرات تنمو معها خلاياه العصبية كل لحظة ولحظة، وفي خضم هذا المحيط تتشكل شخصيته من مكوِّنات تقع بالقرب من روحه المتوهجة، وعقله المتوقد، وحواسه العطشى لاكتشاف الكون وسبر أغوار الوجود، ومن هذه المكونات يأتي الأبوان والإخوان والأقارب والأصدقاء والجيران والمسجد والملعب والمدرسة والنادي والسوق وغيرها؛ لتبني له صرحا من التكوين البشري الذي سوف يمشي به على الأرض بين الناس.

لذلك وجدنا أن أغلب المربين من الأنبياء والصالحين حرصوا على أن ينشأ الأبناء نشأة إسلامية نقية قائمة على المودة والحوار والتفاهم منذ الأعوام الأولى لهم، لِما رأوا من الأثر الطيب والاعتدال السوي في أخلاقهم وسلوكياتهم؛ وكل ذلك انسحب على مستقبل حياتهم. فأين نحن من هذا النهج القويم الآن ..؟؟ لقد أخذت تطفو على السطح في الآونة الأخيرة مشكلة غياب الحوار الفعَّال والتواصل البنَّاء بين الأهل والأبناء، وغزى على إثره شبح الجفاف العاطفي مع تأثيرات التكنولوجيا، والانغماس في مواقع التواصل الاجتماعي، والإدمان الشديد على الجري في هذه المسارات، ولقد تفاقمت المسألة لدى البعض لتصبح معضلة ودوائر مغلقة على المرض النفسي والعزلة والتوحد وغيرها من الآثار الجانبية التي تسلب من الابن حياته وعقله وروحه؛ فكان من المهم جدا أن تعالج هذه المشكلات قبل حدوثها باستخدام الحوار الإيجابي النافع، وتخصيص زمان ومكان وفكرة لهذا الأمر المُهم.

ومن بين صفحات القرآن العظيم يمكننا الاطلاع على نماذج مشرقة في الحوار الحَسن مع الابن، نأخذ على سبيل المثال حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل: « فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ١٠٢ »الصافات: 102، وفي قص النَّبي يوسف رؤياه لأبيه وحيٌ إلينا بمدى شُعوره بالثقة والأمان مع أبيه النَّبي يعقوب عليهما السلام، إذ أنَّ زرع الثقة وبث الأمان تُعد من الركائز الأساسية والدعامات الثابتة في نجاح أي تواصل بين طرفين، كما نستشف من مواعظ لقمان الحكيم مع ابنه مدى أهمية استمرارية الحوار من خلال الفعل المضارع : {وهو يعظه}. كل هذه الأدلة شواهد قاطعة وبراهين دامغة على أن الحوار الصالح البنّاء مع الابن يصنع منه قائدا أو حكيما أو هاديا أو مصلحا أو ملكا يرفع شأن الأمة وينقش لها المكانة المرموقة في صفحات التاريخ الإسلامي السامي.

فمن المهم بمكان أن نتعلم نحن الأهل كيفية التعامل مع أطفالنا بالأسلوب الذي يجعلنا قدوات جيدة ورموز تُحتذى في الحِوار الطيَّب والمثمر، كما فعَل النّبي صلى الله عليه وسلّم عند استئذانه أحد الصبيان في مجلسه؛ ليُعلِّم الحاضرين أهمية تقدير الصغار واحترامهم والتلطف معهم. عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بشرابٍ، فَشَرِبَ منهُ وعن يميِنِه غُلامٌ، وعن يسارِه الأشياخُ، فقالَ للغُلامِ: «أَتَأذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ هؤلاء؟»، فقالَ الغلامُ: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، لا أُوثِرُ بنَصِيبي منك أحداً. فَتَلَّهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في يدِه. (رواه البخاري). من هنا كان لابد أن نحرص كل الحرص على مد جسور التواصل مع عقل الطفل وقلبه، وأن نُعطيه المساحة الرحبة الكافية ليشعر أنه بشري يستحق أن يُفتح معه حوار وحديث يرفع من معنوياته ويُعلي من هممه، ويسمو به بمدارج الكمال، وأن نعمل على تزويده بصنوف المعارف وألوان المهارات وضروب المعلومات حتى نُحقق له ذاته ونزرع في نفسه شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وفي هذا الصدد تجدرُ الإشارة إلى طبيعة هذا الحوار المنشود بأن يكون حوارا هادئا دافئا هادفا راقيا متوازنا يخاطب العقل ويُلامس الوجدان؛ دون إغفال لجانب على آخر؛ حتى يجد الابن في داخله توازنا بين حاجاته المادية وتطلعاته المعنوية، وبالتالي تكبر أحلامه وتصعد أماله، ويدفع بنفسه نحو المرامي المأمولة والغايات المعقودة؛ ليكون لبنة صالحة في صرح الأمة، وحجرا متوهجا في مسلكها الذي تود الوصول إليه من خلال هذا الابن الصالح البار بها. وعليه فإن إفراد مثل هذه المساحات الهادئات، وإطلاق آفاق مثل هذه السماوات مع الأبناء هو الأساس المتين، وهو حجر الزاوية في سبيل بناء ابن قادر على النماء، وعازم على السخاء بنفسه وروحه في ميدان إعزاز وطنه وبلده.

وأختم سطوري هذه بكلام رائع للدكتورة الاستشارية غادة حشاد؛ حيثُ ذكرت في كتابها ما نصُّه: «يُحيي الحوار مع الأطفال أَنْفس الآباء والأجداد والمربين، كما يُحيي أيضًا المستقبل المتمثل ‏أمامك في طفلك الذي تحاوره، إنك تكسبه مهارات الحياة، تُنمي عقله وتضيف إليه من ‏خبراتك التي هي عمرك، فكأنك بحوارك مع طفلك تضيف من عمرك إلى عمره، وتضيف ‏عمره إلى عمرك، فهو صدقتك الجارية بعد مماتك، فهو حياة بعد الحياة». (د.غادة حشاد: الحوار مع الأبناء علاج لكل داء، دار عصير الكتب).