No Image
روضة الصائم

الحكمة

13 أبريل 2022
أفلا تتفكرون
13 أبريل 2022

خالد بن حمدان الندابي

كانت العرب تسمي ما أحاط بحنكي الفرس من اللجام «حَكَمَة»، لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل، وَالْحِكْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَفْضَلِ الْأَشْيَاءِ بِأَفْضَلِ الْعُلُومِ، وَيُقَالُ لِمَنْ يُحْسِنُ دَقَائِقَ الصِّنَاعَاتِ وَيُتْقِنُهَا حَكِيمٌ، وقال ابن دريد في الجمهرة: «فَكل كلمة وعظتك وزجرتك، ودعتك إِلَى مكرمَة، أَو نهتك عن قبيح، فهي حكمة»، فالحكمة فحواها علم خالص شريف، ومعرفة عميقة رصينة، تدعو إلى عمل خير نافع، وقد تكرر ذكرها في القرآن الكريم بمعان عديدة: فقد وردت بمعنى السُّنَّة وبيان الشَّرائع: قال تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، (البقرة: 129)، وجاءت الحِكْمَة بمعنى النُّبُوَّة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ)، (الزخرف: 63). وجاءت الحِكْمَة كذلك في القرآن بمعنى الفَهْم، وبمعنى العلم والفِقْه، وبمعنى حُجَّة العقل وفقًا للشَّريعة، وبمعان أخرى، وإذا تأملنا كذلك اسم الله تعالى «الحكيم»، وصفته جل وعلا «حكيم»، وتكررهما في القرآن الكريم أكثر من 70 مرة.

ندرك أن الله تعالى له الحكمة المطلقة، إذ الحكمة ظاهرة في كل ما نشاهده من إبداع هذا الخالق العظيم، في الأنفس والآفاق، وفي الخلق والأمر، وفي الشرعة والمنهاج، فهو جل وعلا منبع الحكمة ومصدرها، وهو مفيضها ومعلمها، ولم يكن ليخلق هذا الإنسان العاقل على ظهر هذه الأرض دون أن يمده بالحكمة التي تمكنه من العيش فيها بسلام وأمان، وراحة واطمئنان، لذلك عندما خلق الله تعالى أبا البشر آدم، علمه الأسماء كلها: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:31].

فهنا تنزه الملائكة الله تعالى من أن يكون هناك معلم للعلم والحكمة الأولى غير الله تعالى، فلا علم لهم إلا ما علمهم الله فهو العليم الحكيم مصدر العلم والحكمة، ونجد مضمون تلك الحكمة يتجدد مع كل نبي ورسول منذ آدم عليه السلام وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم تخل أمة من الأمم، إلا خلا فيها نبي يعلم الناس ما يحتاجون إليه من العلم والحكمة: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فَاطِرٍ: 24]، حتى جاءت خاتمة الرسالات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حاملة بين جنباتها ما يضمن لها الاستمرار والتألق والوهج، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إذ كان الكتاب المنزل فيها هو المعجزة الخالدة، وأول كلمات تقاطرت منه تحمل أدوات العلم والحكمة الخالدة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[سورة العلق: 1-5] ، وإن من أعظم المنن والهبات الإلهية أن يمن الله تعالى الحكيم على عبد من عباده بالحكمة: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [الْبَقَرَةِ: 269]، وقد اشتهر اسم رجل امتن الله عليه بالحكمة، وهو لقمان الحكيم، حتى إن الله تعالى أنزل سورة في القرآن باسمه، افتتحها جل وعلا بآيات تصف هذا الكتاب العزيز بالحكمة: (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم)، ذكر الله تعالى فيها ما امتن به على لقمان: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)، وأكثر القول أن لقمان لم يكن نبياً، وإنما كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة.

ويذكر أن كلمة «فيلسوف» معناها «محب الحكمة»، وكانت علوم الفلسفة تسمى علوم الحكمة، يقول الطاهر ابن عاشور: «وَعُلُومُ الْحِكْمَةِ هِيَ مَجْمُوعُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ هُدَى الْهُدَاةِ مِنْ أَهْلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ إِصْلَاحِ عُقُولِ الْبَشَرِ، فَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَدْيَانِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهَا مَا أَنْتَجَهُ ذَكَاءُ أَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ أَنْظَارِهِمُ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى أُصُولِ الْهُدَى الْأَوَّلِ». إلا أن الفلسفة مع ما كان لها من إيجابيات في إثارة التفكير والتساؤل عند الإنسان، وإنتاجها للمقاييس العقلية والمنطقية، فقد ظهرت فيها مذاهب عدة -ابتعدت عن هداية الوحي، معتدة بقدرات الإنسان العقلية المجردة- دعت إلى التساؤل والشك لمجرد التساؤل والشك، دون أن يكون من همها أن تصل بالإنسان إلى اليقين، ولا حياة -بطبيعة الحال- هانئة لهذا الإنسان مع الشك والظن، إلا حياة الحيرة والقلق، وربما ذلك ما حدا بعالم الاجتماع ابن خلدون أن يعقد فصلا في مقدمته لإبطال الفلسفة فبعد أن أطال في الرد عليهم قال: «وإذا كنّا إنّما نحصل بعد التّعب والنّصب على الظّنّ فقط فيكفينا الظّنّ الّذي كان أوّلا فأيّ فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنّما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسّ من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانيّة عندهم». وفي السنة النبوية، قد بين النبي صلى الله عليه وسلم قدر الحكمة عندما جعل ما يمكن أن يغبط الإنسان غيره عليه، محصورا في اثنتين: المال النافع، والحكمة النافعة، فقال: «لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»، رواه البخاري.