No Image
روضة الصائم

البصيرة

11 أبريل 2022
أفلا تتفكرون
11 أبريل 2022

خالد بن حمدان الندابي

البصيرة بالنسبة لباطن الإنسان إنما هي مثل البصر لظاهره، فكما أنه لا يرى الأشياء الظاهرة إلا ببصر العين، فإنه كذلك لا يعرف حقائق الأمور إلا بنور البصيرة، فالبصيرة نظر القلب، فمن المهم للمرء أن يحرص على سلامة بصيرته كما يحرص على سلامة بصره، وإلا وقع الخلل في حياته، فقد يكون سليم بصر العين، إلا أنه أعمى بصيرة القلب، فيكون ذلك سببا في انحرافه عن سواء الصراط، ووقوعه في المهالك، حيث يقول الله تعالى: (فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الْحَجِّ: 46).

والإنسان وهو يمخر عباب هذه الحياة، المعقدة والمتشابكة والمبهمة في كثير من تفاصيلها، إذا لم يُنِر بصيرته ببصائر من خالق هذه الحياة، توضح له حقيقتها، وتبيّن له طرق السلامة فيها، فإنه لن يستطيع الوصول إلى الحياة الهانئة السعيدة، والعيشة الطيبة الحميدة، بل سيمضي في طرق مبهمة المعالم مظلمة الأرجاء، لا يكاد يهتدي فيها إلى أسباب السعادة ليسلكها، ولا سبل الشقاء ليجتنبها؛ لذلك جاءه من ربه ما ينير له تلك الدروب: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)، (الأنعام: 104)، فمن حرص على أن تكون بصيرته صحيحة سليمة، وسعى إلى الاهتداء ببصائر الحق، فإنه ولا شك سيكون من السعداء، ومن تكدرت بصيرته ولم يدرك بها بصائر الحق فلا شك أنه سيكون من الخاسرين.

ولم يكن الله ليخلق البشر على ظهر هذه الأرض ويتركهم فيها حيارى، معتمدين على عقولهم القاصرة فحسب؛ وإنما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، بصائر للناس تهديهم سبل السلام، (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 203)

وبصائر الخلق متفاوتة، فهناك البصيرة القوية النافذة، التي تصل بصاحبها إلى حد الفراسة الصادقة، وأشار إلى ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)، (الحجر: 75)، فمما قيل في تفسير المتوسمين المتبصرين، ذكروا أن ذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وتفريغ القلب من فضول الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وسيئات الأخلاق، وهناك ولا شك بصيرة دون تلك البصيرة، وهي التي يستطيع المرء أن يفرّق بها بين الحق والباطل والخير والشر، والهدى والضلال، وهناك البصيرة المتكدرة التي أصابها العشى فهي لا ترى الحقائق واضحة على ما هي عليه وإنما متكدرة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، (الزُّخْرُفِ: 36)، فإن العشى المراد هنا هو عشى البصيرة وليس عشى البصر، وهناك من هو أعمى البصيرة، قد أظلمت بصيرته، فلا يكاد يفرق بين حق وباطل ولا بين خير وشر، ولا يمكن له أن يهتدي ببصائر الحق التي جاءته من قبل الخالق جل وعلا، لأنه قد انطمست بصيرته: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ) (الْمُطَفِّفِينَ: 14)، وإن من أعظم أدوية علاج البصيرة لمن يطلبه هو التوبة النصوح ومن أفضل ما يجلي به المرء مرآتها، هو كثرة الذكر وجليل الفكر، وأقوى مشع لأنوارها، هو تدبر آيات الكتاب المبين بحضور قلب، حينذاك تحيا تلك البصيرة وتستطيع تلمح بصائر الحق وهدايات الخالق فتسير في درب الهداية هانئة مستقيمة. والبصيرة كذلك نلمحها حاضرة في الدعوة إلى منهاج الله تعالى، فالله جل وعلا يأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، أن يبيّن للناس سبيله وطريقته ومنهاجه في هذه الحياة: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، فهو ومن اتّبعه صلى الله عليه وسلم، لهم سبيل واضح المعالم، يدعون الناس إلى الله على بصيرة أي على علم وهداية، وحجة وبرهان، ونور وحكمة، ويقين وحق، فمنهاجهم واضح متميز عن غيره من المناهج، فلا مجال لتمييعه، ولا يمكن أن يدخل فيه ما ليس منه، فالبصيرة حاضرة في شتى تفاصيله، مضيئة لجميع جوانبه، فمن سلكه أنار بصيرته، واستبصر بتلك البصائر التي جاء بها، فيعيش حياته في نور وهداية، وسلامة واطمئنان.