No Image
رأي عُمان

مركزية عُمان وتاريخها يشكلان وعينا الوطني

01 نوفمبر 2025
01 نوفمبر 2025

التاريخ العماني غني باللحظات الخالدة التي صاغها الإنسان في مسيرة بناء مشروعه الحضاري على هذه الأرض العظيمة.. وكلها لحظات مجد تبعث على الفخر؛ منذ الإنسان الأول الذي رسم خطى على صخورها الصلدة في إصرار على بناء الدولة وعزيمة على خلودها.

ومنذ ذلك الأثر الذي لا يُمحى ولا تزول معالمه والعمانيون يواصلون مسيرة البناء التي لم تكن سهلة في يوم من الأيام، ولكن إيمانهم الراسخ بالفكرة ذلل لهم الصعاب وطوّع لهم التضاريس القاسية ليبدعوا هذا الوطن الذي نعيشه اليوم الذي هو حصيلة آلاف السنين من شقاء الأجداد والأسلاف ومن تجاربهم وأفكارهم ونتاج التأثير المتبادل بينهم وبين الأمم والشعوب الأخرى في الإقليم والعالم.

الإيمان بالأرض والإنسان هو الذي يجعلنا نفهم اليوم كيف بقيت عُمان لآلاف السنين كيانا سياسيا مستقلا، توسعت جغرافيا ولكنها لم تفقد مركزيتها على الأرض وإنْ تغيرت الجغرافيا من حولها أو تعاقبت عليها أنماط من الحكم المختلفة. وهذا لم يتكرر كثيرا في التاريخ؛ فنادرا ما احتفظ كيان سياسي بمركزيته منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان. عُمان تفعل ذلك بامتياز. لم تفقد الدولة في عُمان مركزيتها حتى في اللحظات التي جربت فيها الاستعمار والغزو، برغم فترات الانكفاء والضغط الخارجي، وتلك المركزية المبنية على المبادئ والقيم السياسية والفكرية هي التي ساعدت على تجاوز الاستعمار ودحر الغزو وبناء الوحدة والالتفاف حولها دائما. لكن عمر «الدولة» في عُمان أقدم من ذلك بكثير. فقد كان في عُمان تنظيم سياسي وسلطة مركزية معروفة في عهد جيفر وعبد ابني الجلندى، ما سهّل تلقّي رسالة الرسول محمد الكريم، عليه الصلاة والسلام، فلم يأت الخطاب إلى قبيلة أو حي ولكن إلى كيان سياسي هو «عُمان».

كانت عُمان تستحضر مركزيتها في كل مرحلة تواجه فيها تحديات، ومع استحضار المركزية تحضر القيم والمبادئ السياسية والإيمان الذي رسخ تلك المركزية. حدث ذلك بوضوح في لحظة تأسيس دولة اليعاربة وطرد البرتغاليين، وحدث في لحظة تأسيس الدولة البوسعيدية وإعادة توحيد عُمان في لحظة تاريخية مفصلية ليس على مستوى الداخل في عُمان ولكن على مستوى الإقليم الذي كان هو الآخر يشهد تغيرات بنيوية ستبقى تأثيراتها ماثلة إلى اليوم.

هذا السياق التاريخي مهم جدا ونحن ندخل عتبة شهر نوفمبر الذي نحتفل فيه باليوم الوطني. والتاريخ يعيد دائما ترتيب وعينا الوطني؛ فالدولة التي نعيش فيها هي تراكم خبرة الأسلاف لآلاف السنين في منطقة تتقاطع فيها المصالح. والقيم السياسية التي تحكم هذه البلاد هي نتاج توازن بين القوة والشرعية وبين الانفتاح وحراسة الهوية العمانية وبين واقعية المصالح ونزاهة الوسيلة التي لا تنفصل أبدا عن القيم المؤسسة. وهذا التماسك حول المركزية العمانية هو نتاج «عقد اجتماعي» صنعته الممارسة والتجارب على مدى آلاف السنين يقوم على مبدأ العدل والمشاركة وعدم الاختلاف على مركزية عُمان مهما كانت التحديات. وإذا كان الحديث عن التحديات فلا بدّ من الإشارة إلى أن القيم السياسية التي تأسست عليها عُمان كانت حاضرة حتى في لحظات الضعف التي مرت بها الدولة، وكان التحدي الأكبر في غياب أدوات تطبيقها، لكنّ تلك القيم لم تتغيّر أو يُكفر بها. وعندما وجدت الأدوات كان من السهل العودة إلى تطبيقها وبناء مركزية الدولة بها.

تعيش عُمان اليوم في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، سليل سلاطين عُمان العظام، في أزهى مراحلها وقوتها وفي ذروة قيمها ومبادئها السياسية وبنائها المؤسسي ورؤيتها المستقبلية.. وعندما تحتفل في العشرين من الشهر الجاري بيومها الوطني فإنها تحتفل بكل تاريخها العظيم وبكل تلك المركزية التي بنتها عبر تعاقب السنين والقرون.

ويكتب عاهل البلاد المفدى ملاحم عظيمة في كل بقاع عُمان، في جبالها الشاهقة ووديانها الوعرة وعلى صفحات مائها ورمالها في استمرار نسقي لتلك اللحظة الأولى التي حفر فيها أول عماني خطا بإزميل التاريخ على تلك الصخرة التي بقيت تصيخ السمع لكل الأمجاد التي جاءت بعد ذلك.. وما زالت الأمجاد مستمرة.