حديث عن السياسة الخارجية العمانية
09 نوفمبر 2025
09 نوفمبر 2025
لا يمكن الحديث عن عُمان دون الحديث عن سياستها الخارجية التي باتت اليوم أحد أقوى ركائز القوة الناعمة العمانية. حدث ذلك نتيجة تراكم طويل من المواقف والمساعي واتساق كبير بين القول والفعل.
اختارت سلطنة عُمان الواقعة في منطقة حرجة بين الخليج والمحيط وبين جبهات متقاطعة وحسابات متصارعة أن تنأى بنفسها بعيدا عن محاور الاستقطاب، لكن ذلك النأي لم يضعها في عزلة عن محيطها ولا عن قضاياه. وهذا المزيج المعقد بين الاستقلال والانخراط هو جوهر «العقل السياسي» الذي صاغ مواقف سلطنة عُمان من القضايا العربية والإنسانية ومن فكرة العدالة الدولية ذاتها.
يقوم جوهر النهج العماني على فكرة الحياد الفاعل الذي لا يختفي خلف الغموض. ولم يكن استقلال الموقف السياسي العماني وعدم سيرها مع الأحلاف المتصارعة تهربا من المسؤولية، لكن هذا الخط الذي اختارته عُمان كان أحد أهم الشروط لتكتسب عُمان مساحة كبيرة من الثقة والمصداقية التي منحتها مع الوقت قدرة كبيرة على استقبال الخصوم في قاعة واحدة، وعلى تمرير الرسائل حين تنقطع القنوات. وتحوّلت مسقط إلى إحدى العواصم القليلة التي يمكن أن تجتمع فيها أوراق متناقضة دون أن تُحرق الجسور مع أي طرف.
تشكل العقل السياسي العماني نتيجة ميراث حضاري عريق وفهم دقيق للحركة الثقافية والحضارية والأيديولوجية للمنطقة وأطماع العالم فيها وتصوراته حولها.
وامتناع عُمان عن التورط في الصراعات العسكرية حتى تلك المجاورة لها، كما في القضية اليمنية على سبيل المثال، لم يجعلها تستثمر في الأزمة أو تصنع منها ورقة نفوذ؛ ولكنها بقيت منفتحة على جميع الأطراف وفتحت حوارات هادئة من أجل احتواء الصراع بين الأشقاء.
وفي القضايا العربية المركزية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، حافظت عُمان على خطاب متماسك أكد دائما على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، والتمسك بقرارات الشرعية الدولية، وإدانة استهداف المدنيين، ورفض تحويل المأساة إلى مادة للمزايدة الخطابية.
وما يميز السياسة الخارجية العمانية هو التوافق بين القول والفعل؛ فهي لا ترفع شعارات في العلن وتخالف في السر عبر الانخراط في تحالفات تقوض القيم والمبادئ التي تعلنها ولا توظّف العمل الإنساني غطاء لصراع سياسي.. هذا النوع من المبادئ لم يعد حاضرا كثيرا في القيم الدولية التي فقدت بوصلتها الأخلاقية.
ورغم تأكيد عُمان في الكثير من المناسبات على أهمية تطوير آليات العمل الدولي ومراجعة قواعد النظام العالمي إلا أنها تتمسك دائما بأهمية أن يكون القانون الدولي شرطا أساسيا لمنع الانهيار الكامل للنظام العالمي. وهذا المبدأ دفع سلطنة عُمان للتمسك بمبدأ سيادة الدول، واحترام الحدود، وحل النزاعات بالطرق السلمية، ورفض العقاب الجماعي، ودعم دور المؤسسات متعددة الأطراف حين تتعرض للتهميش أو الاستخدام الانتقائي. ويصف خطاب السياسة الخارجية العمانية تراجع القوى الكبرى في العالم عن التزاماتها القانونية بأنه أكبر تهديد للاستقرار.
يمكن القول بكثير من الثقة إن خطاب السياسة الخارجية العمانية متمسك برصانته ومبادئه وقيمه وأبعد ما يكون عن الخطاب الشعبوي الذي باتت الكثير من الدول تركن إليه في ظل تراجع الديمقراطية في العالم وصعود اليمين المتطرف.
تراهن سلطنة عُمان على هذه السياسة وتحاول عبرها أن تمنع نشوب حروب إقليمية من شأنها أن تنهي مسار التنمية في بلدان الشرق الأوسط وبشكل خاص في الخليج العربي الذي يملك مقومات التقدم ولكن الإقليم المحيط به بات أحد أكبر مهددات التنمية والاستقرار.
ثمة أمر أخير لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن السياسة الخارجية العمانية وهو أنها سياسة تنويرية مهتمة جدا باستقرار الجميع وبازدهار الجميع وببناء وعي الجميع عبر مناقشة الحقائق في حوار هادئ بعيدا عن الاستقطاب والمصالح المحدودة. وهذا النوع من السياسة الخارجية منسجم بعمق مع مشروع القيادة السياسية العليا في عُمان التي تنطلق من مشروع حضاري يتجاوز تأثيره الأمة العمانية إلى الإنسانية جمعاء.
