No Image
رأي عُمان

السياسة العالمية تعيش أكبر مراحلها هشاشة

04 أغسطس 2025
04 أغسطس 2025

يبدو العالم من النظرة الأولى أنه يعيش أزهى مراحل قوته بالنظر إلى ما وصل إليه من القوة العسكرية التي نراها تقوم بأدوار الهيمنة والسيطرة لمن يمتلكها، وبالنظر إلى الاقتصاد الذي تعافى بشكل جيد بعد الجائحة، كما يتحول إلى اقتصاد رقمي متطور مدفوعا بالثورة التكنولوجية التي وصلت إلى ذروتها بظهور الذكاء الاصطناعي.. لكن الحقيقة أن هذا العالم في أشد لحظات هشاشته، وتشظيه من الناحية السياسية، وهذا الجانب هو الأكثر تأثيرا في جميع مسارات تقدمه وتطوره إلى حد أن القوى الكبرى في النظام السياسي العالمي باتت عاجزة عن إنتاج الحلول وصنع الخيارات التي من شأنها أن توقف المآسي الإنسانية. يعيش العالم مشهدا مأساويا تبدو فيه المؤسسات العالمية والدولية عاجزة، وتبدو التحالفات مفككة، والكثير من الأنظمة السياسية متآكلة، أما الشعوب فهي تسير في طريق مضطرب وأبعد ما يكون عن أي يقين.

وهذه الحالة ليست طارئة، ولكنها، مع الأسف، أصبحت بنيتها جديدة التي تهدد العالم من داخله، وتتحدى مفاهيم القوة والاستقرار كما عُرفت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ورغم الانبهار والشعور بالإنجاز الكبير الذي حققه العالم مع تقدم ثورة الذكاء الاصطناعي على العقل السياسي، إلا أن الإنسان الذي أبدع كل ذلك يشعر أنه محاصر بين دول بلا إرادة، ونخب بلا قدرة على إنتاج الحلول التي يمكن أن تنقذ العالم وتخلصه من المآسي التي يعيشها، خاصة الإنساني منها. وتطرح الفجوة الكبيرة بين الإمكانات التقنية والقدرات السياسية سؤالا مهما جدا وجوهريا في هذه اللحظة وهو: من يحكم العالم؟

لا يمكن في هذا السياق أن تكون أحداث غزة المستمرة إلا فضيحة سياسية كبيرة للعالم أجمع، وبشكل خاص لمؤسسات المجتمع الدولي وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي الذي كشف عن هشاشة كبرى لا يماثلها إلا هشاشة العالم العربي، الذي بدا مفككا إلى حدّ العجز عن صياغة موقف جماعي، أو حتى الحدّ الأدنى من الرد الرمزي. والهشاشة هنا ليست في غياب القدرة على الردع، بل في عمق الأزمة السياسية والفكرية التي أصابت بنية الدولة العربية، حيث تراجعت السياسة إلى مجرد العمل على إدارة الخوف، وتحول النظام الإقليمي إلى ما يمكن أن يكون ميدانا لتصفية الحسابات بدلًا من صوغ الرؤى التي تعيد للإقليم مكانته.

رغم ذلك فإن العالم العربي ليس الاستثناء في هذا الجانب، فالعالم الغربي، لا يختلف المشهد فيه كثيرا رغم الفارق في النهضة المعرفية والتكنولوجية؛ فلم يعد الغرب ذلك الفضاء الذي يمثل حلم الاستقرار الديمقراطي أو الليبرالية التي وصفت ذات يوم بأنها «نهاية التاريخ». والنماذج التي كان الغرب يريد تصديرها للعالم ذاهبة نحو السقوط والتشظي أمام صعود الشعبوية، فيما تُستبدل القيم الليبرالية القديمة بواقعية مختلفة تماما، تجعل من الفظائع تفاصيل هامشية على خط المصالح.. وهذه البراجماتية المفرطة لا يمكن أن تصنع نظاما عالميا جديدا، لكنها في الحقيقة تعجل في تآكل ما تبقى من النظام القائم. وأمام كل هذا التفكك والتشظي تصبح السياسة فعلا خاسرا، حيث تغيب الاستراتيجيات طويلة الأمد، ويعلو صوت اللحظة بكل مصالحها الآنية، أمّا القيم، التي طالما تغنّت بها الحضارات والدول، فقد تحولت إلى مجرد تنظير خطابي لا يتحمّله منطق السوق ولا حتى مزاج الجمهور الجديد.

لكن الهشاشة البادية على السياسة العالمية لا تتمثل فقط في ضعف الأنظمة، فهناك ما يمكن أن يكون إيمانا عاما أن موضوع الإصلاح ليس ممكنا مع تنامي عدم الثقة في النظام العالمي وفي قدرة السياسات في العالم في حماية إنسانية الإنسان وكرامته أو حتى في قدرة العالم كله في سماع معاناته وألمه وجوعه.. وهذا كله يغيب الشرعية ويعمق الانهيار. والخلاصة أن أكثر ما يفتقده العالم اليوم هو الأخلاق السياسية الجديدة التي تفهم معنى القوة بوصفه القدرة على الحماية وليس القدرة على البطش وهذا الأمر يحتاج إلى بناء وعي عالمي مختلف.