No Image
رأي عُمان

السقوط السياسي والقيمي والحضاري

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

كان يمكن لكل المؤسسات الأمريكية المدنية منها والعسكرية والمراكز البحثية وجمعيات المجتمع المدني أن تصدر بيانات إدانة وتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان وتضييق حرية التعبير لو أن قوى الأمن في أي دولة من دول العالم الثالث تعاملت مع احتجاجات طلاب الجامعات بالطريقة نفسها التي تتعامل بها الولايات المتحدة الأمريكية مع احتجاجات الجامعات فيها. كان يمكن أن تهدد أمريكا، التي تعتبر نفسها مركز الديمقراطية والحريات في العالم، بالتدخل لحماية الطلاب من التعسف والعنف ووأد حرية التعبير.. أما وقد حدث ذلك في بلاد الحريات فإن أقصى ما يمكن سماعه هو الحديث عن «مراجعة لآليات التعامل» و«مراجعة لمسار الاحتجاجات وموضوعها السياسي» في ضوء الدستور الأمريكي.

يمكن القول إن حرب غزة تكتسب أهمية كبرى ليس لمسار القضية الفلسطينية ولمسار التطبيع العربي الإسرائيلي فحسب ولكنّ أهميتها تكمن، أيضا، في أنها استطاعت أن تضع العالم الغربي على المحك.. المحك السياسي والعسكري وكذلك المحك الأخلاقي والقيمي. فإذا كانت حرية التعبير قيمة أساسية فإن أمريكا تسقط فيها عميقا، تسقط في خطابها الإعلامي المضلّل الذي يتبنى سردية إسرائيل دون تمحيص أو تدقيق، وتسقط في خطابها السياسي المتحيز لإسرائيل بعيدا عن قيم الدستور الأمريكي والمبادئ التي تأسس عليها، وتسقط في قدرتها على إعطاء طلاب الجامعات مساحتهم الحقيقية في التعبير عن رأيهم في قضية إنسانية تمس قيم دولتهم والمبادئ التي «يفترض» أن المجتمع الأمريكي يؤمن بها. وهذا السقوط المتعدد سقوط مجاني، فهو لا يخدم الأمن الوطني الأمريكي، ولا يخدم حتى إسرائيل نفسها، إنه يخدم فقط المافيا الحاكمة في إسرائيل. وما يقال على المشهد في أمريكا ينطبق تماما على غيرها من الدول الغربية الأوروبية.

إن أمريكا التي تعيش حالة سقوط أخلاقي وقيادي منذ غزوها للعراق في عام 2003 وما ارتكبته هناك من جرائم إنسانية وأخلاقية لا تنتمي أبدا إلى قيمها التي يمكن فهمها من دستورها ومن ثقافتها ومن آراء القيادات المؤسسة لها تعمق سقوطها عبر مواقفها من الحرب في غزة، حيث وقفت بصلابة مع عمليات الإبادة الجماعية ودعمتها بالسلاح وبالمواقف السياسية وبـ«الفيتو»، كما دعمتها بإسكات كل الأصوات التي تحاول إيقاظ الضمير الأمريكي والعالمي النائم من أجل وقف الحرب والإبادة.. بل إن كل المواقف الأمريكية في هذه الحرب يمكن أن نفهم منها ضعف أمريكا «الإمبراطورية» التي تقدم نفسها قائدة للعالم؛ ولو كانت أمريكا ما زالت تلك الإمبراطورية العظمى لما احتاجت إلى أن تسقط وجبات الغذاء فوق غزة بعد أن «عجزت» عن إدخالها برا.

كان للحركات الطلابية في أمريكا قوة مؤثرة في تشكيل الرأي العام وفي توجيه مسارات السياسة كما حدث في الاحتجاجات الطلابية ضد حرب فيتنام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ كانت تلك الاحتجاجات التاريخية لحظة مهمة في أمريكا وفي العالم لفهم قوة تأثير طلاب الجامعات والقوى الشبابية، وأدت دورا مهما في إنهاء الحرب. وتحضر أصداء تلك المرحلة وسط الاحتجاجات الحالية في أمريكا.. لكنّ الاحتجاجات الجديدة لا تبدو، حتى الآن على الأقل، قادرة على إحداث التأثير ليس لضعفها ولكن لغياب البوصلة الأخلاقية التي يتكئ عليها الفعل السياسي.

إن أمريكا التي قدمت نفسها راعية للسلام والمبادئ والقيم وحقوق الإنسان وحرية التعبير تعطي الكثير من دول العالم، وخاصة الدكتاتورية منها، مسوغات لكل هذه الانتهاكات التي تقوم بها دول الديمقراطية والليبرالية الكبرى وسيكون لكل هذه الأفعال التي تقوم بها اليوم آثار عالمية بعيدة المدى.

أمّا أمريكيا فإن تعاملها مع الاحتجاجات الطلابية من شأنه أن يضعف مؤسساتها الأكاديمية باعتبارها معقلا للفكر الحر وللحوار ولصناعة الرأي، وباعتبارها أيضا، قدوة للكثير من المؤسسات الأكاديمية في العالم أجمع.

هل يستمر هذا التراجع الخطير أما أن أمريكا بانتظار لحظة صحو إنساني وحضاري طال انتظارها؟