No Image
رأي عُمان

التجويع جريمة لا تسقط بالتقادم

24 يوليو 2025
24 يوليو 2025

مر العالم عبر تاريخه الحديث، على الأقل، بمنعطفات ساهمت في تغيير مساره بشكل عميق وأسست لرؤية إنسانية جديدة، لم تكن على الدوام تطورا للرؤية السائدة في بعدها الإنساني أو السياسي، رغم استمرار مسار المعرفة في التطور. ويمر العالم اليوم بأحد أهم منعطفاته على الإطلاق، وهو منعطف تتساقط فيه إنسانية العالم إلى حد غير مسبوق من قبل، وهذا من شأنه أن يلقي بظلاله على المرحلة القادمة من التاريخ.

فعلى الرغم من المستوى المعرفي والتكنولوجي الذي وصل له الإنسان إلا أنه يفشل فشلا ذريعا في الجانب الإنساني والأخلاقي، وأكثر مثالا بات واضحا للعالم أجمع مأساة غزة، ليس في بعدها السياسي، ولكن في بعدها الأخلاقي الذي يفترض أن ينطلق فيه الجميع من القيم والمبادئ نفسها.

ما يحدث في غزة ليس حربا على الإطلاق، إنه تفكيك منهجي لمجتمع كامل، سواء باستخدام القنابل أو بالحرمان من أبسط مقوّمات البقاء المتمثلة في الغذاء والماء والدواء والمأوى.

يتحول التجويع ـ الذي يحاول العالم تخفيفه بمصطلح آخر هو «حافة المجاعة» أو «أزمة الغذاء» هربا من التبعات القانونية والنفسية ـ إلى أداة للإبادة الجماعية، وجعل الحياة مستحيلة في غزة تمهيدا لتطبيق المرحلة التالية من خطة إسرائيل والمتمثلة في تهجير السكان.

يتطلب تسمية الأمور بمسمياتها وضوحا أخلاقيا وشجاعة فكرية وهذا ما يفتقده الكثيرون في العالم، اللهم إلا بعض أصحاب الضمائر الحية، التي لم تختطفها الدعاية الصهيونية أو الإغراق في الحياة المادية التي أسس لها الغرب طوال القرن الماضي.

إن أبسط المبادئ الإنسانية تفرض على الجميع أن ينتقل من مرحلة التحفظ إلى الإدانة الواضحة رغم أن الإدانة وحدها لا تكفي في هذه اللحظة من الموت الجماعي في غزة، فالدول مطالبة بالفعل الحقيقي الذي يخلص سكان غزة عبر الوقوف في وجه الجريمة الإسرائيلية الرامية إلى إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة بطريقة وحشية.

إن إحدى علامات التردي القيمي والإنساني في العالم أن ينشغل بالجدل حول دقة توصيف ما يحدث في غزة، هل هو «إبادة جماعية» أم «جريمة حرب» أم «إفراط في استخدام القوة» أو «حق الدفاع عن النفس»، فالفلسطيني الذي يموت في غزة من الجوع ليس معنيا بهذا الخلاف، فعندما تموت جوعا لا يفرق حينها إن كان بسبب إبادة جماعية أم جريمة حرب!

لقد شُلّ المجتمع الدولي تحت وطأة توازنات زائفة ومصالح جيوسياسية أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فلم يعد قادرا على انتشال نفسه من كل المآزق التي تفاجئه كل يوم، حتى تلك التي تمس جوهره الأخلاقي، والقيم التي أسس بها لشرعيته طوال العقود الماضية.. وإلا فإن التجويع لم يكن يوما نتيجة حتمية للحرب، ولكنه قرار واع لتحقيق أهدافها.. وحين يُستخدم بشكل منظّم ضد أطفال منتفخي البطون، وأمهات لا يقدرن على الإرضاع، وعائلات تنبش الأنقاض بحثا عن فتات؛ فإنه يغدو فعلا واضحا للإبادة، ويغدو الجدل حوله استراتيجية لكسب الوقت ومحاولة تمييع الجريمة.

على العالم أجمع أن يقول لإسرائيل، وبصوت واحد، كفى! وأن يشرع في مساءلتها قانونيا ليس لإنقاذها من هاوية ذاهبة نحوها لا محالة ولكن لإنقاذ نفسه من الهاوية نفسها في العقود القادمة. وتبدأ أولى خطوات العدالة بتسمية الأشياء بمسمياتها، وما تقوم به إسرائيل في غزة هو استخدام التجويع أداة للإبادة الجماعية ويحدث ذلك بشكل ممنهج وواضح للقوى الغربية التي تدعم إسرائيل.. أما الخطوة التالية فهي التحرك وفق القانون لمواجهة هذه الجريمة ومن يتواطأ معها في كل مكان.

وأي شيء دون إدانة كاملة وصريحة وبتسمية الأشياء بمسمياتها ليس دبلوماسية... بل خيانة، ليس لغزة وحدها ولكن للإنسانية وهي من الخيانات التي لا يمكن أن تسقط بالتقادم؛ لأن العدالة الدولية لا تسقط جريمة الإبادة بالتقادم.