ثقافة

هذا سؤال أصبح يحضرني بقوَّة

23 نوفمبر 2021
أنساغ
23 نوفمبر 2021

(من مشروع الجزء الثاني من "الفراغ الأبيض الذي سيلي: رسائل" الذي كان جزؤه الأول قد صدر عن دار الانتشار العربي، بيروت، 2015).

سان دييغو، كاليفورنيا، ؟/؟/1991

يا قاسم

كيف يستطيع المرء أن يستوعب ما حدث؟ أحيانًا أفكِّر بالأمر كلِّه على أنه كابوس آخر (فحسب)، وأحيانًا أرى أن الحرب [حرب "عاصفة الصحراء"] لم تنتهِ بعد (وهي قطعًا لمَّا تنتهِ بعد كما يعرف الجميع). لكني أعني تحديدًا أن كل ما قيل ومورس نظرًا وارتجالًا في العواقب والعقوبات، وكل الانكسارات، والتناحرات، والانكشافات، وسقوط الأقنعة، وسقوط الأقلام ليس إلا بداية الغيث في الطوفان؛ إذ من يستطيع التكهُّن بالمسوخ القادمة التي تتشكل الآن في رَحِم ذلك الخراب (وما دامت الحرب قد علَّمتنا أن نكون واقعيين أكثر من الفنتازيا، فعلينا أن ننتظر المسوخ لا طائر العنقاء الذي تعِدُنا به الأسطورة كذبًا من زمان). إذًا، فأنت تخبرني بكل ذلك الهول عن المثقَّفين العرب: الأمر يسحقني على طريقة الكوابيس التي تعتقد في كل ليلة أنه لا يمكن أن يكون هناك ما هو أبشع من ذلك، لتفاجأ بضعف مخيلتك في الليلة التالية؛ إذ، منذ ليالٍ بعيدة، خَبِرْتُ عن كثب بعض المثقَّفين والكتَّاب العرب من دول المركز (الذي يبدو أنه ارتكس) وذلك في أثناء علاقتي المتحمسة بالصحافة قبل عقد من الزمان في الإمارات. هناك صُعِقْتُ للأستاذيَّة الجاهلة، والشوفينيَّة المغالية. وأذكر أن الأمر قاد إلى مصادمات علنيَّة في الصحف حيث تبنيت قضية أسميتها "المسالخ الثقافية". ولكن حين بعد عشر سنين من ذلك التاريخ توحدت فيها بلد مثل ألمانيا، وتوحدت فيها بلد مثل اليمن، يأتي الأمر ليتعلق مباشرة بالذبح والسلخ، فإني لا أراني إلا جزِعًا لضعف إمكانات المجاز، والاستعارة، والتشبيه في اللغة العربية (أو ضَعف إمكاناتي أنا في تقدير الإمكانات الحرفيَّة لدى العرب).

لا أريد أن أبدو مؤيدًا لموقفك بلا حدود (رغم أني كذلك بعد قراءة رسالتك). ما أرمي إليه في هذا الديالكتيك البسيط هو أنه قبل رسالتك كنت مشغولًا وبدأت محدودًا في الاشتغال على الجانب الغربي/ العربي من المصيبة؛ إذ، مثلاً، عمدتُ، وبتهيَّب شديد، لمحاولة تفكيك دلالات كهذه: قاذفات أمريكيَّة اسمها "الصَّليبي" (Crusader) تقلع من مطارات في شبه الجزيرة العربية لقصف بغداد (اللغة تخلق تاريخًا، ثم يخلق التاريخ لغة، إلخ)؛ وحافلات ركَّاب مدنيَّة بيضاء كُتِبَ عليها بلون أسود "حملة [فلان الفلاني] لنقل الحُجَّاج" تُقِلُّ جنودًا أمريكيين مسلَّحين إلى الجبهة [...]، إلخ. لكن رسالتك زلزلتني ووضعتني في جانب من الجغرافيا كنت قد وضعتُ فيه ثقة التاريخ والتربية الوطنية التي سقانا بها حتى الارتواء أساتذة أجلَّاء من دول الماء [...]. ذلك لا يعني أنني أقلِّل الآن من همِّ الجانب الغربي/ العربي (ولا أخالك فاعلاً ذلك)؛ فما حدث في الجانب العربي/العربي جذوره، على الرغم من كل شيء، موجودة في الغرب الذي لا أدعو، مع ذلك، أن يكون بمثابة إبليس للمسلمين؛ فالشيطان هو التسمية القديمة للإرادة المريضة. والإرادة -مريضة كانت أم معافاة- هي رَحِمُ الفعل. والفعل هو جسد الفاعل ومسؤوليته.

أنت تعرف أن علاقتي بالغرب قلقة جدًا. في بريطانيا، وهنا [في الولايات المتحدة] سأصارحك أنه لا يزال يشدُّني -ضمن أشياء أخرى- نفس المشهد: الطوابير واحترام الناس لها. طبعًا، لا أريد أن أتعامل مع الأمر على طريقة "تلخيص الإبريز في أخبار باريز"، ولكن المشهد يجدد شخصه في أكثر من نسق، وسأحاول هنا أن أستخلص منه المجاز التالي فيما يخص المثقَّف العربي: يركب واحدهم هنا سيارة، ويركب واحدنا هناك نفس السيارة (المستوردة من هنا). يقود صاحبنا السيارة هنا على طرق حديثة وجسور، ويسوق أخونا هناك سيارته على طرق أكثر اتساعًا وجسور ربما كانت حديثة أكثر. يقف صاحبنا هنا أمام مبنى حديث، ويقف أخونا هناك أمام مبنى حديث كذلك. لا فرق تقريبًا حتى الآن فيما يبدو من الأمور (اللهم إلا إذا كان صاحبنا هنا أكثر احترامًا لقوانين المرور وأنظمة السير، ولكن ينبغي من المرء ألا يغمط حق ثوريّينا في التَّنظير بأن في ذلك خضوعًا كاملًا للسُّلطة). يبدأ الفرق، في أية حال، حين يغلق صاحبنا الذي هنا باب سيارته ويقف اختيارًا في آخر مكان متاح له في الطابور انتظارًا لدوره، بينما سيهرول أخونا الذي هناك، مباشرة بعد أن يوقف سيارته، إلى شبَّاك التذاكر كي يتخانق مع المتخانقين رغبة في أن يكون أول الحاصلين على تذكرة. احترام الطابور هذا هو المكتسب الأخلاقي والحضاري الذي لا يمكن أن تستورده جثث كل البشر، والحيوانات، والنباتات التي صهرتها الأرض على مدار ملايين السنين. وعدم احترام الطابور هو الامتحان الذي يكشف عن اللاحضاريَّة التي انطلت على السيارة، والجسور، والمباني.

هذا بالضبط هو المثقَّف العربي؛ فقد قرأ الرواية، وكتب الشِّعر (ولم يمارسه على الأرجح)، ومارس النقد (غير الذَّاتي غالبًا)، واستورد الماركسيَّة، وتجوَّل على جسور النيتشويَّة، وتوقف أمام صرح الفرويديَّة (وأستخدمُ هذه الأسماء الثلاثة فقط للتدليل على خطاب القرن العشرين الغربي)، ولكنه -أي المثقَّف العربي- حين أراد (أو أُريدَ منه) أن يتحاور مع أي من أولئك (أو مع من تحاوروا معهم) كشف عن غوغائيَّته وهمجيَّته بالفضائح التي ارتكبها، والفظائع والجراح التي تسبَّب بها على نافذة الحوار. وهكذا فإن مثقفي دول الماء يفعلون، في الحقيقة، نفس ما يفعله "البدو الأجلاف الذين انفجرت في كروشهم آبار البترول"، مع فارق واحد لكنه حاد؛ وهو أن أولئك "البدو الأجلاف" ليسوا طليعة مجتمعاتهم، ولكن أولئك المثقَّفين ["العَرَب"] هم البنية الفوقيَّة، وهم زلال الأنهار، وإن هناك، في الصحراء الملتهبة تلك، من انفجرت في صدورهم براكين المرارة، وهُم الطليعة نحو الماء، ونحو الحريق، فوا أسفاه على مثقَّفي الماء خذلوا أصناءهم.

معذرة لهذه اللغة الصحفيَّة الفجَّة (اعتقدتُ دومًا أن ما يكتب عنه المرء يحدِّد لغته، فالعتب هنا على إخوتنا العرب). لكنك لو كنت هنا طوال تلك الشهور المقيتة فإني أزفُّ إليك أن وجعك ما كان ليكون بأقل. ولكن، آه، عليَّ أن أكفَّ الآن إذ يكفينا وجعًا في هذه المرة (فما ضرّنا لو تصرَّفنا وكأن الأمر بأيدينا)؟!

تجد مرفقًا نصِّي “La Primavera”. كذلك، توطيدًا لحوار أرواحنا في ملكوت الألم والقلم، وتدعيمًا للحبل السرِّي الذي يغذينا، تجد هنا "اللَّيلميَّات" الأخيرة (هكذا أسميها لما لا يخفى عليك من أسباب) بانتقائيَّة محدودة هذه المرة. كذلك -وقد شجَّعتَني- تجد عددًا من أوراقي المدرسيَّة التي ربما كان بعضها “seminal” (تعجبني جدًا هذه الكلمة التي معناها الحرفي "منوي" ومعناها النَّسقي "قابل للتطوير") على الرغم من كتابتها في ظروف لا تمتُّ بصلة إلى حساسيَّة الكتابة. وفي ظرفي الدراسي التعجيزي، كما تعرف، فإن الأمر مضاعَف.

لعله سيسعدك أني قُبلت للنشر في “Fiction International”، وكذا بعثت بأشعار إلى “The Berkeley Poetry Review” وأنتظر ردًا قريبًا سلبًا أم إيجابًا [...]. بغض النظر عن مسألة النشر هذه فإن علاقتي بالإنجليزية لا يمكن أن توصف بالهدوء (وأستطيع أن أفهم بول سيلان). أرسل لك هنا واحدًا من الأعداد الأخيرة من “Fiction International” لاحتوائه -ضمن أشياء أخرى جيدة- على محور عن الكتابة النسويَّة في العالم الثالث (أمريكا اللاتينيَّة تحديدًا)، وكذلك مادة عن الكتَّاب الإيرانيين والرقابة؛ فقد شعرت دومًا بتأنيب ضمير للتقصير في التعرف إلى أولئك الجيران، وظروف حياتهم، وكتابتهم، ومكتوباتهم.

بالكاد ألتقط أنفاسي الآن بعد نهاية الفصل الدراسي، ولكن فقط لألهث من جديد خلال أيام إذ أستعد للسفر إلى نيويورك لحضور فصل دراسي سينمائي مكثَّف (إنتاج وتصوير) في جامعة نيويورك، حيث تدبرت أمري بحيث يُحسب لي ضمن البرنامج الدراسي. يفترض، بعد ذلك الفصل، ألا أواجه مشاكل في العمل على كاميرا 16 ملم تصويرًا وما يتعلق به. سأكتب لك بعد عودتي للفصل الدراسي الجديد هنا، لكني حتمًا سأهاتفك من نيويورك وربما قبل ذلك.

حسن أيها العزيز، كانت هذه آخر ورقة غير ملطخة بالدم في تركة الجنرال الميدانية (لدهشتي، هي أوراق زرقاء ربما احتفظ بها التَّعس منذ سنوات طفولته الزرقاء)، وأنت دومًا في أكثر حجرات الروح زرقة، وحياة، وصداقة.*

-----------------------------------

*ملاحظة للنسخة المنشورة من الرسالة:

تزعم الرسالة المكتوب أصلها بخط اليد بُعَيدَ انتهاء الحرب أنها مكتوبة على أوراق وجدتُّها ضمن متعلقات جنرال قتيل. وبعد انتهاء متن الرسالة ترد صفحة -- هي عبارة عن خريطة -- مضافة إلى الرسالة كتبتُ عليها الملاحظات التالية:

"إذاً، لا أتورع أيضاً عن سحب خريطة المسكين القابضة عليها يده لأذكر لك عناوين قراءاتي الحالية فربما رغبتم في أي منها لاحقاً:

--سيرغي آيزنشتاين: "ملاحظات مخرج أفلام"

Notes of a Film Director

--مادان سارول: "دليل تعريفي بما بعد البنيويَّة وما بعد الحداثة"

An Introductory Guide to Post-structuralism and Postmodernism

--وولتر كوفمان: "نيتشه: فيلسوفا، سايكولوجيَّا، عدوَّا للمسيح"

Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist

لكن مثابرتي ضعيفة وتركيزي مشتَّت. قرأت المجموعة التي أرسلتها لي "ليجف ريق البحر". ارتحت لها، خاصة محاولة توليف النقائض التي تعنيني تماما. لكن (بعيدا عن ذلك حد القرب) كيف يقرأ المرء؟ هذا سؤال أصبح يحضرني بقوة. أحاول أن أحافظ على براءتي في القراءة. سأكتب عن هذا تفصيلا في المرة القادمة. كذلك، لم تبعث لي بشيء من كتاباتك منذ مدة.