No Image
ثقافة

نوستولوجيا حليم: حكاية حبنا

04 أبريل 2024
04 أبريل 2024

30 مارس عام 1977..كم مرّ من سنوات، وكم سيمر ما دامت الدنيا!

لم نكن نعرفه حتى علمنا برحيله؛ كنت ابن عشر سنوات، حين رحل عن عالمنا، جسدا ليظل فينا خالدا مشاعرا وأفكارا ووجدانا.

في سنوات الطفولة، جمعنا صور الفنانين، وكان حليم واحدا منهم. صحيح أننا كنا نملك مذياعا كبيرا، كنا نسمع فيه ما يسمعه الكبار، فسمعنا أغانيه ولكن لم نكن في عمر يفهم الكلمات، لكن شيئا ما كان يشدنا.

لم تكن سوى بضعة سنوات حتى صرنا نحب عبد الحليم وأغانيه، ونرددها، وكل له قصته مع تلك الأغاني والأشعار. ولعلني أفرد مقالا مرة عن تلقينا لتلك الأغاني، وكيف أسهمت في تكوين وجداننا.

لقد غنى العندليب الأسمر الذي استحق هذا اللقب الجميل 25 عاما، لكن أغانيه لم تمت، وظلت باقية بعده، فبعد 47 عاما على رحيله لا يزال العرب يسمعونه، حتى أولئك الذين لم يعايشوه بل وولدوا وكبروا بعد رحيله.

أنظر حولي، فأسأل عددا من الناس، من أعمار مختلفة، عن عبد الحليم حافظ، فأجد أن معظمهم يعرفونه، من أغانيه التي يحبونها. فاجأني شاب أول العشرينيات يعرف أغنية «عدى النهار» التي غناها حليم عقب هزيمة 1967.

وسط مئات الفنانين وأكثرهم ما زال يحضر حليم بقوة: صافيني مرة، زي الهوا، أهواك، قارئة الفنجان، حاول تفتكرني،..

ها أنذا أبحث عن فيلم حليم، الذي شاهدناه قبل 18 عاما، وهو فيلم مصري من إنتاج عام 2006 من إخراج شريف عرفة وبطولة أحمد زكي، يحكي عن قصة حياة عبد الحليم حافظ، ويعدّ الفيلم آخر أفلام أحمد زكي والذي توفي قبل إنهائه.

لربما دمعت العيون، لعلها ما يتبقى من حزن على الراحلين عبد الحليم حافظ وأحمد زكي، ولعلها حزن على زمن عبد الحليم كزمن مد قومي عربي في زمن الجزر الشديد الذي نعيشه. لعله حلم يعيش أملا بعودة شيء من ذاك الزمن.

ما زال حليم يمثل دلالات ثقافية وإنسانية وقومية ووجدانية وعاطفية، منها الدلالة القومية كون الراحل كان ممن تغنوا بالحلم العربي في التحرر من الاستعمار، لقد غنى العندليب لمصر كما غنى للعرب، وللزعيم الخالد جمال عبد الناصر، ولفلسطين.. فلم ينعزل حليم عن الهم العربي، بل ظل مخلصا لدائرته القومية، ولم يتقوقع في الدائرة القطرية.

في قادم الأيام، يمكن استقصاء أغانيه عن فلسطين: المسيح، أصبح الآن عندي بندقية، أوبريت الحلم العربي، القدس دي أرضنا، ترابك يا فلسطين. والتي تظهر انتماء عبد الحليم حافظ لقضية العروبة، والتي وهبها حنجرته الذهبية بصدق وتعبير إنساني وقوميّ.

كان الفنان أحمد زكي ابن ثلاثين عاما، عام 1977، ولم يكن قد اشتهر بعد، ومن الطبيعي أن يكون قد تأثر بعبد الحليم، مثله مثل الملايين.

أحبّ أحمد زكي زمن عبد الحليم حافظ، ولأنه أحس بخلود عبد الحليم، فقد أراد أن يشاركه الخلود من خلال تجسيد دوره في السينما. وأحمد زكي هو نفسه الذي أدى دور البطولة مع ميرفت أمين في الفيلم المشهور «زوجة رجل مهم» الذي ظهر عام 1988، الذي أهداه المخرج إلى زمن عبد الحليم.

إنها فرصة اليوم وغدا للتعرف على السيرة الذاتية لفنان عظيم، من أجل أن يتعرف الجيل الجديد على ظاهرة عبد الحليم، وأسباب تميزه وخلوده.

لم يردد عبد الحليم كلمات أغانيه هكذا بسهولة من وراء قلبه، بل غنى من داخله، من عمق النفس والروح، بإحساسه قبل لسانه، كان يعيش أغانيه كأنه بطل تلك الأغاني، أو كأنها كتبت له هو لتعبر عنه لا ليغنيها فقط.

لم يكن الراحل إنسانا عاديا، كان فنانا ذا حضور قوي، استطاع التأثير على الملايين من الشباب العربي والشابات، كان موسيقيا وعازفا، وموزعا، ومغنيا لأكثر من لون غنائي، وكان ممثلا سينمائيا محترفا، خفيف الظل مرحا، وكوميديا وتراجيديا حسب الموقف. وقد حدثت عدة مواقف وحوادث في حياته، تتعلق بحياته العاطفية وعلاقاته مع الفنانين العرب، والمرض، والسفر، والمال، والأقرباء، والشركاء، لذلك فإننا حين نشتاق له، فإننا نشاهد أفلامه، كما أننا نعود لفيلم «حليم» لرؤيته ورؤية أداء الفنان الراحل أحمد زكي لشخصية حلم بأدائها سنوات طويلة، ولم يتيسر له ذلك إلا في لحظاته الأخيرة التي أدى فيها دور رحيل العندليب، وكانت مشاهد حقيقية أيضا صورت رحيله هو أيضا.

إن شهرة عبد الحليم عظيمة، وإن حب الناس له، ليس له حدود، لذلك ظلت حياته مثار جدل خصوصا أن هناك شخصيات لها سردياتها معه، كما أن هناك ما يمكن الحديث والجدل حوله، في احتفاء عبد الحليم بناصر بشكل خاص.

إنها فرصة للفنانين والأدباء والعلماء للتأكيد على أن الفن الرفيع أطول عمرا من صاحبه، حتى ينطلقوا في الفن والأدب والعلم من أجل الإنسان في المكان والزمان الحقيقي لا المزيف، وإن الفنان يؤثر في حياة البشر زمنا طويلا، ولا يقل تأثيره عن السياسي والمفكر والقائد.. ما زلنا نسمع، ونغني، لقد حفظ جيلنا والذي قبله وبعده أغاني عبد الحليم، عن اختيار، عن حب، ولم يتم ذلك صدفة، بل أن الصدق الفني لدى عبد الحليم أوصله إلى قلوب الناس قبل آذانهم.

كيف استطاع طفل فقير يتيم أن يصل من بلدة صغيرة في محافظة الشرقية (الزقازيق) إلى الوطن العربي والعالم من خلال صوته.

عدت لمشاهدة «حليم»، حليم الفيلم والقصة هي حكايتنا جميعا، كأفراد وأمة، وهي حكاية مستمرة لأجيال جديدة ما دام هناك الحب النبيل، وما دام هناك الشعور الوطني والقومي الأصيل، وهذا هو سر خلود حليم، خلود أحمد زكي، وخلود الفكرة الجميلة التي تنتصر للحب والإنسان والأرض العربية.

لعله حنيننا إلى بلادنا وأوطاننا، ولعله حنيننا إلى أنفسنا وقلوبنا..