No Image
ثقافة

مهند يونس يسرد بتأملٍ عالمًا غرائبيًا

10 نوفمبر 2023
في قصصه "الآثار ترسم خلفها أقدامنا"
10 نوفمبر 2023

في مجموعة القاص الغزي الراحل مهند يونس، لا نعثر بسهولة على غزة المدينة والناس ولا على أسئلة الهوية الوطنية أو شعارات التصدي للاحتلال، كما اعتدنا رؤيتها في السرد الفلسطيني التقليدي، يقول مهند في حوار مع أصدقاء: لقد كُتب الكثير بهذه الطريقة، وعلينا نحن الأدباء الشبان، البحث عن صوتنا الخاص وسط كل هذه الأصوات الجماعية المكررة، وهذا ليس تنصلا من الانتماء للقضية والهوية بل هو بحث مشروع وطبيعي عن مقاربات وجودية أخرى للوطن، بمساندة من لغة عالية التأمل، يحفر السارد الذي مات منتحرا قبل عدة سنوات صوره في عالم غير مرئي، ويتعامل مع معطياته بمزيد من الغرائبية لغة ومضامين، مهند من جيل فلسطيني خاص، تجاهل وبشجاعة ميراث القصة الفلسطينية، وذهب إلى مناطق لم يجرؤ على طرقها أحد، كانت قصة غزة وإن كنا لا نحبذ تقسيم القص الفلسطيني مناطقيا، ترزح تحت إرث إبداعي راسخ تماما كما هو الوضع في الضفة والـ 48، وكان مجرد النظر من نافذة مختلفة إلى العالم يشبه خروجا عن عادات العائلة في المأكل والملبس، وطقوس الأعياد، تستحق غزة بكل حضورها المختلف وجغرافيتها العجيبة وتناقضات حياتها وغنى تاريخها الأدبي أن ُيدرس أدبها مرتبطا بسياقها الذي يختلف بوضوح عن سياق باقي مناطق فلسطين كالضفة أو فلسطين 48، في كتابه القصصي الذي صدر عام 1918 يتجول مهند مع الموت، يسائله ويترصد له ويفكك آلياته، والموت هنا ليس الموت الغزاوي المعتاد قصفا بصاروخ احتلالي أم رفضا من قبل الاحتلال لعلاج مريض بالسرطان بالقدس، أم اغتيالا لقادة من طائرات الاحتلال، الموت في هذا الكتاب واسع الأبعاد، وربما يكون موتا داخليا، غريب الحضور وفيه من المصادفات والتناقضات ما يكفي مهندا ليصوغ منه قصة قصيرة. عاش مهند ثلاث حروب شرسة سنوات 1908 و1914 و1918 أذاقت فيها إسرائيل الويلات لقطاع غزة بنايات وأطفالا وعائلات، أصداء ويلات هذه الحروب، أحدثت فعلها داخل مضامين قصص مهند، لكن فعل التأثير هذا تجاوز إغواءات المباشرة في نقل الشعور والتركيز على الحنين ونزعات الأسئلة العادية و التحسر والغضب والشكوى، ذهب مهند إلى الموت الذي خبره قادما من محتل غاصب، فككه وذوبه في بوتقة تأملاته وهواجسه الوجودية العليا، لينتج منه سؤال الموت الكبير، فجاءت قصص الموت في الكتابة محولة من واقع أليم وفجائعي، إلى واقع فني سردي مواز وخال من الصراخ والدم الواضح.

الكتاب الصادر عام 1918 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمَّان، والذي لُفِت النظر إليه من قبل (جائزة الكاتب الشاب) في مؤسسة عبد المحسن القطان، أحدث هزة إبداعية لطيفة في فلسطين، فهذا صوت شاب من غزة، يلفت الانتباه بقوة إلى مقترحاته الجمالية الجديدة، الكتاب السردي يضم تقريبا 30 قصة قصيرة، مكتوبة معظمها بضمير المتكلم، يشتغل فيها القاص الموهوب على تعاسة وحدة الكائن البشري، ووحشته في عالم بارد ومتوحش، ففي قصة كوب من مطر، كانت هناك سيدة مسنة تأتي إلى الراوي، الذي أظنه هو القاص نفسه، لتشتري الدواء من مسكنات وأدوية ضغط وسكري، ثم انقطعت فجأة العجوز عن المجيء، وصار الراوي يشتاق لها، وشعر كأنها جدته، حتى أنه لم يشطب اسمها من دفتر الديون، وزار الراوي مرة أحد أبناء العجوز وأعاد له الأدوية معتذرا ومُبلغا إياه أن أمه العجوز ماتت، ظل الكيس في الدرج من السنة الماضية يكتب القاص (لكن المطر عاد وأعاد لي الذكرى، وبالأمس ذهبت إلى المقبرة، أمضيت طول النهار هناك، تعرفت على قبرها بصعوبة، ليس من عادتي زيارة القبور، ولا أدري لم أفعل ذلك مع امرأة غريبة، لكني وصلت القبر ومعي كيس الأدوية، كان هناك كرسي ولم يكن هناك حارس، وجلست هناك طول اليوم صباحا ومساء وعشاء بذرت لها حبوب الضغط والسكري والنقرس، و كل بموعده، لم أسكب الماء لها، فقد الدنيا تمطر).

وعن تجربة مهند يونس السردية الجديدة تكتب لجنة التحكيم في جائزة عبد المحسن القطان على غلاف الكتاب: (تميزت المجموعة بمقاربتها لثيمة الموت عبر الغوص في سرديات الفرد والجماعة في حيز سياسي معدوم الأفق، حيث تلامس المجموعة السريالية من جهة وأسلوب قصة النثر من جهة أخرى، وهي تتمتع بلغة فنية واضحة تتوجها حبكة قصصية غرائبية غالبا ما تبدو مبتكرة وبخاصة على مستوى البحث الذهني، وحتى حين تبدو مباشرة تتحول إلى أداة مساعدة في عوالم أكثر تحليقا، موهبة القص واضحة والسرد أنيق محكم ومقتصد ومفعم بالإحساس العالي، مع تأمل وجودي عميق، وانتباه لعنصر الزمن بمعنييه الفلسفي والسردي).

من زمن طويل وأنا أحدس بأن الأدب الجاد والعميق والمختلف في فلسطين سيأتي من منطقتين اثنتين هما غزة ومناطق الـ 48 فهما زخم حياتيّ شاسع وأسئلة مركبة وتعقيدات جغرافية واجتماعية، وتحديات مربكة، في الـ 48 هناك مبدعون جادون ومثابرون يشتغلون على سؤال الهوية بأسلوب جمالي فائق، أبرزهم علاء حليلحل ومجد كيال، في غزة كان يمكن لحركة التحديث الشبابية هذه التي قادها المرحوم مهند يونس، أن تتحول إلى تيار لكن صاحبها ومفجرها انتحر فجأة وكأنه اعتبر أن الانتحار نفسه أيضا هو خروج عن القواعد. هل سيأتي شخص آخر ليكمل مسيرة تحديث السرد في فلسطين؟ للأسف لا أحد بعد مهند بعد غيابه الطويل استطاع أن يقنعنا بأن ثمة رحلة تحديث أخرى انطلقت، فتبقى مجموعة هذا السارد الغزي الحساس مثار إعجاب وحسرة في آن.

وهذه قصة قصيرة من المجموعة وقد تُرجمِت إلى لغات عدة وهي تلخص المنحى الوجودي في قصص المجموعة:

عائلة مؤقتة

(في طريق العودة إلى المنزل، هربًا من نصف محاضرة، سحبت نفسي خارجًا منها كالهارب من ساحة قتل، كانت بانتظاري سيارة أجرة، فوّت عدة سيارات قبل أن أركبها، لا أعلم لماذا استقللتها، وكان في المقعد الأمامي بجانب السائق رجل خمسيني، يبدو أبًا مثاليًا بحلة وشعر أشهب يساعدانه على لعب ذلك الدور بحرفّية. تقدمت السيارة عدة أمتار، لتركب إلى جانبي سيدة أربعينية، ولا أعلم لماذا اعتقدت أنها زوجة ذلك الرجل، لكن حبًا لكل النساء بأن يكنَّ أمهاتي، جعلني أعتقد أنها إحدى أُمهاتي. وبعد مسافة قصيرة، ركبت إلى جانبها، طالبة جامعية، لم يكن أحد من أصدقائي السيئين معي، ليعّلقوا عليها، لذلك وجدتها أقرب ما تكون لأخت لي، ربما من زوجة سريّة لأبي. استأذن السائق منّا لمشوار قصير، لُيِقل أحد الأطفال من الروضة في الطريق. أطفأ محرك سيارته أمام روضة الأطفال، لكن صوت الراديو لا زال موجودًا، نقلت نظري إلى جانبي، كان الصمت سائدًا، كذلك الصمت الذي يخيّم حول مائدة غداء عائلية مملة. جاء يتقافز لاهثًا، ربما في الخامسة من عمره، أجلسته الفتاة العشرينية في حضنها، فرحةً به، كأنما ترى طفلًا لأول مرة، كنت أنظر لهما وهما يضحكان لبعضهما البعض، فلمحتني لكنها لم تتوقف عن الابتسام. أنا ممتن جدًا لكوني أحد أفراد تلك العائلة المؤقتة. كان الرّكاب ينزلون في محطات مختلفة تباعًا، وشيئًا فشيئًا كانت عائلتي الجديدة تتفكك وتتلاشى، لم أعلم في أي محطة أنزل، كنت الراكب الأخير، وعندما نزلت، أدركت أنني بلا بيت).