سيرة الظاهر بيبرس المجلد الأول
سيرة الظاهر بيبرس المجلد الأول
ثقافة

مرفأ قراءة... (سيرة الظاهر بيبرس) بين الأدب والتاريخ

25 مارس 2023
25 مارس 2023

«الحياة ليست ما يعيشه أحدُنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه...»

(الروائي الكولومبي الراحل جابرييل جارثيا ماركيز)

- 1 -

رمضان كريم.. ها هو يطل علينا ويغمرنا بحضوره المبهج، وألقه السعيد، وما يسري في نهاراته ولياليه من استعادة حنين غامض خفي، يومئ برنين مكتوم لقِطَعٍ عزيزة من ذكرياتنا على النفس والروح والقلب، ومن منا لم يمض أوقاتا حلوة عامرة بالسعادة الخالصة في هذا الشهر الكريم؛ متنعما بطقوسه المفرحة، ومستظلا بروحانياته الغامرة، ومبتهجا بإيقاعاته الطيفية السارية اللا مرئية، وراء مظاهر النشاط والحياة اليومية المعيشة.

ورمضان عندي، بالإضافة إلى روحانياته وصفاء أحواله ومقامات ترقيه، هو أيضًا يعني بهجة خاصة وخالصة للمعرفة بكل أشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية؛ بهجة الإبحار في ليالي الخيال والإمتاع والمؤانسة والخبر والأثر والإذاعة والتليفزيون.. إنه شهر المعرفة بامتياز هكذا عشته وهكذا أعيشه وأتنعم فيه كل عام بالتجوال الحر الممتع بين رياض وبساتين الأدب وروائع الفكر وحدائق التراث وبهجات الإذاعة من زمن فات.

في رمضان هذا العام ستكون البهجة الأولى مع نص عزيز من نصوص أدبنا الشعبي استلهمه الشاعر الكبير الراحل بيرم التونسي (1893-1961) ليصوغ منها حلقات درامية ممتدة لما يقرب من تسعين حلقة في العمل الإذاعي النادر «االظاهر بيبرس» من بطولة الراحل صلاح منصور والراحلة سناء جميل، وكوكبة رائعة من نجوم الإذاعة المصرية في ذلك الزمان، ومن إخراج أحمد أبو زيد ويوسف حجازي.

وقد حفظ لنا هذا المسلسل النادر وللمرة الأولى والأخيرة صوت وأداء شاعر الربابة السيد فرج السيد الذي كان ربما آخر فناني ومبدعي هذا الفن المندثر، وقد قدمته الإذاعة المصرية لأول مرة في أكتوبر من العام 1960، وسنفرد له لاحقا حلقة أو أكثر للحديث عن هذا المسلسل الإذاعي النادر.

- 2 -

السير الشعبية العربية عمومًا التي وصلت إلينا الآن محصورة وقليلة، وبرغم ضخامة كل سيرة على حدة؛ فإن الكثير من السير الشعبية لم يصل إلينا، إما لأنه قد فُقد أو أُهمل، أو لأننا لم نحصل على نسخة مدوَّنة منه في وقت مناسب بحيث تحفظه لنا حتى اليوم، ومات مع مَن مات من حفظته ورواته. وإلى جوار السير الشعبية المحلية التي تعرفها البيئات العربية المختلفة لأبطالٍ محليين، وبعض أولياء الله الصالحين المحليين؛ حظيت مجموعة من الأعمال بالذيوع العربي العام، وأصبحت بهذا "أدبًا شعبيًا" رائجًا يسير من المحيط إلى الخليج، ويستمر عبر الزمان وعبر المكان، وعُرفت منه طبعات شامية وحجازية ومصرية ومغربية وعراقية.

والسيرة الشعبية في أبسط وأظهر تعريفاتها هي "فن قصصي قائم بذاته، له أصوله، وقواعده الفنية التي تسير عليها كل السير المتكاملة، وتسير نحوه السير التي لم يقسم تكاملها، ودونت قبل أن تكتمل لها كل مراحل القيمة الفنية، وقبل أن تتحقق لها كل ملامح السيرة الشعبية الفنية" (راجع فاروق خورشيد في كتابه «الموروث الشعبي»، دار الشروق، ص142)

ولفت المرحوم فاروق خورشيد أنظار الباحثين والمبدعين إلى المنبع الأصيل الذي ينبغي أن نستقي منه الري الحقيقي لعطشنا الثقافي ولهويتنا الثقافية.

وبالتالي، كان كتابه «أضواء على السير الشعبية» أول كتابٍ من نوعه في الثقافة العربية الحديثة، يكون موجهًا للقارئ العام، والمتخصص على السواء، لإلقاء أضواء كاشفة وساطعة على خمس سير شعبية في تراثنا العربي؛ وهي: «سيرة عنترة بن شداد»، و«سيرة الأميرة ذات الهمة»، و«سيرة الظاهر بيبرس»، و«سيرة علي الزيبق»، و«سيرة سيف بن ذي يزن».

- 3 -

وسنتوقف قليلا أمام واحدة من هذه السير الشهيرة؛ ذلك النص الشعبي الأصيل والقديم والتراثي الذي استلهم منه الراحل بيرم التونسي حلقاته الإذاعية، وهو نص «سيرة الظاهر بيبرس» واحد من أهم وأشهر بل أكبر وأضخم سيرنا الشعبية العربية التي تضارع الملاحم العالمية في الآداب الأجنبية.

وكان أول من التفت إلى دراسة هذه السيرة في القصص الشعبي -فيما أعلم- ودرسها وحللها، وحصل بدراسته هذه على درجة الماجستير من الجامعة المصرية آنذاك المرحوم عبد الحميد يونس، وقد صدرت عن سلسلة (المكتبة الثقافية) المصرية عام 1958 بعنوان «الظاهر بيبرس في القصص الشعبي».

وفي العام 1995 وضمن سلسلة (أدب الحرب) التي كانت تصدرها الهيئة العامة للكتاب ويرأس تحريرها الروائي الراحل جمال الغيطاني صدرت طبعة كاملة من سيرة الظاهر بيبرس في خمسة مجلدات مصورة عن نسخة تراثية عتيقة تقع فيما يقرب من ثلاثة آلاف صفحة!

يعرف المرحوم جمال الغيطاني في الطبعة الكاملة من السيرة -وربما الوحيدة المطبوعة بين أيدينا الآن- بهذا النص النادر بقوله "تعرفت على هذا العمل الروائي، الملحمي، الإبداعي، الجميل الفذ في سن مبكرة، عندما كانت الطبعات الشعبية من تلك الملاحم متاحة لزوار منطقة مولانا وسيدنا وإمامنا الحسين عليه السلام، والأزهر، أذكر أنني قرأت أجزاء منهـا وأنا دون الثالثـة عشـر، وأذكر أنني كنت أحفظ سطورًا منها، وخلال حواري مع الآخرين تتسرب جمل كاملة من سطورها بتركيباتها العتيقة إلى حديثي".

ويرصد الغيطاني بذكاء أن هذه السيرة كانت تجسد المناخ القاهري اجتماعيًّا وعمرانيًّا ونفسيًّا، في تلك القرون في الفترة من نهاية حكم الأيوبيين وحتى منتصف القرن التاسع عشر، فالملحمة عربية مصرية خالصة، تدور أحداثها في مصر التي كانت تتولى الدفاع عن العالم العربي كله، وأبطالها مصريون، والبطل الرئيسي وهو "الظاهر بيبرس" يعتبر الحاكم الوحيد في تاريخ مصر منذ الفتح العربي وحتى العصر الحديث الذي تحـول في وجدان الشعب إلى بطل شعبي، أسطوري، وهذا أمر نادر الحدوث في تاريخنا الرسمي والشعبي على السواء.

كان الظاهر بيبرس استثناء، واستثناء وحيد، تحول من حاكم إلى بطل شعبي تُتلى سيرته في المقاهي التي تخصص بعضهـا في السيرة، وصار يعرف بها «الظاهرية»، كما كانت مقاهي أخرى متخصصة في السيرة الهلالية، أو «ألف ليلة وليلة»، و«سيف بن ذي يزن».. إلخ.

وتتألف «سيرة الظاهر بيبرس» من ستة أجزاء مربعة الشكل، مقسمة إلى عشرة أقسام، وأجزاؤها من نسخ مختلفة، ولا يُعرف واضع السيرة ولا عصره، وقد وضعت السيرة في الأسلوب الدارج من العربية المصرية الحديثة

- 4 -

على مستوى الوثائق والسجلات التاريخية، يقول لنا التاريخ إن الظاهر بيبرس ولد في كـبـجـاق عام 620 هـ (1223م)، جلبه تاجر الرقيق حيث بيع في دمشق، وأحضره السلطان الصالح أيوب إلى مصر، وسرعان ما بدأ نبوغه وظهوره، وترقى في درجات الوظائف، وأبلى بلاء حسنا في عين جالوت، وشارك في اغتيال قطز أثناء خروجه إلى رحلة صيد.

انتخبه قواد الجيش سلطانا على البلاد، وسرعان ما بدأ سلسلة معارك ضد الصليبيين، انتزع منهم أنطاكية بعد أن هاجمها سبع مرات، وكسر شوكة أشرس فرسانهم من الداوية، ويهزم المغول هزيمة نهائية حاسمة في سهل صوفي من صحراء البلستين سنة 675 هـ، ويغزو سـيـس لتأديب الأرمن،

لقد كان "الظاهر" وفقًا لمعيار البطولة والتمجيد الشعبي في ذلك الزمان رجل جهاد، وفارس شجاع، ورجل دولة من الطراز الرفيع، ومن شاء الاستزادة من سيرته (المقصود هنا السيرة التاريخية وليس السيرة الشعبية الأدبية) وتفاصيلها يمكنه الرجوع إلى السيـرة التاريخية المعروفة بتاريخ الملك الظاهر، من تأليف عز الدين بن علي بن إبراهيم بن شداد.

ويمكن للدارسين، كما ينوه بذكاء المرحوم جمال الغيطاني، أن يقوموا بالمقارنة بين السيرة التاريخية الموثقة، والسيرة الشـعبـيـة الموجودة بين أيدينا الآن، وصـورة الظاهر بيبرس في كل منهـما، ويمكن للدارسين كذلك أن يتوقفوا عند اللغة العامية المستخدمة في الزمن المملوكي، أما الأدباء والمبدعون فيمكنهم تأمل طرائق السرد والحكي، ودقة التصوير وجرأته.

ولا أشك لحظة في أن هذه السيرة ونظائرها من النصوص الشعبية والتاريخية التي وصلتنا من الحقبة المملوكية كانت الدافع الرئيس والمنبع الثر والكنز النادر الذي استقى منه جمال الغيطاني مساره المخصوص في السرد الروائي في أعماله وروائعه الكبرى مثل «الزيني بركات»، «رسالة المصائر في البصائر»، و«التجليات»، و«وقائع حارة الزعفراني»، و«خطط الغيطاني».. إلخ. (وللحديث بقية)