No Image
ثقافة

مرفأ قراءة .. عن النهضة والاستنارة في بواكير الفكر العربي

03 يونيو 2023
03 يونيو 2023

-1-

ثمة نوعية خاصة من الكتب التاريخية المنهجية (خاصة في مجال تاريخ الفكر وتطور الأفكار) تحقق شرطين معًا قد يصعب الجمع بينهما؛ هما:

تقديم محتوى تاريخي منضبط، على أسسٍ منهجية، يراعي أسس وأصول التوثيق التاريخي، وصرامته، وفي الوقت ذاته يقدِّم هذا المحتوى بأسلوبٍ سلس يخلو من التعقيد، ومن الإيغال في التفاصيل المرهقة للقارئ غير المتخصص، وأيضًا يراعي اهتمامات القارئ العام بغية وضع هذه الكتابة العلمية المنضبطة والمفيدة في قالب أسلوبي سهل وسلس، ويغري بقراءات أخرى أوسع وأكثر تفصيلًا.

ولعل كتب الدكتور أحمد زكريا الشلق؛ المؤرخ والأكاديمي الكبير، وأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، تحقق هذين الشرطين معًا بامتياز واقتدار؛ إنه في كل ما كتب (ويكتب) يقدم هذه الخلطة الممتعة؛ مهما كان الموضوع الذي يكتب عنه، أو القضية التي يعالجها، أو الفترة التي يؤرخ لها... إلخ.

ولعل كتابه المهم «من النهضة إلى الاستنارة»؛ يمثل نموذجًا ناصعًا لهذه الكتابة التاريخية الممتعة؛ التي تغري دائمًا بمحبة التاريخ عمومًا، ومحبة النظر والتجوال في صفحات من تاريخ الفكر خصوصا، وهي دراسة تقتضي إعدادا من نوع خاص، لأنها تقتضي ممن يتصدى لها الخوض في مسالك دقيقة وشعاب ودهاليز معرفية ربما تمثل خطرًا على خائضها إذا لم يكن مؤهلًا تأهيلًا كاملًا وتأسيسيًا لقراءة النصوص، واستقصاء المسائل، وتأطير المنهج، وتتبع مسارات الأفكار فضلا على سياقات تشكلها.. إلخ.

-2-

وفي ظني، فإن التأريخ للجانب الثقافي والفكري في حياة الأمم والشعوب، من أصعب الأمور ومن أكثرها احتياجًا لإعداد خاص وتكوين فريد؛ فعلى من يتصدى لكتابة جانب أو أكثر من التاريخ الثقافي في حقبة من الحقب عليه بالضرورة أن يكون «مثقفا» بكل ما تعنيه الكلمة، وبكل ما تستدعيه من قدرة على التحصيل والفهم والاستيعاب، في مجالات متعددة ومتباينة؛ فلا يمكن لمؤرخ الفكر الساعي لأن يرصد بزوغ التيارات الفكرية الحديثة في عالمنا العربي، واصطراعها في سياقها الزمني والتاريخي؛ على سبيل المثال، أن يؤرخ لها من دون أن يكون ملمًا ومستوعبًا للكتابات والمحددات الرئيسة التي شكّلت هذه التيارات في بواكيرها الأولى، ولا يمكن لمؤرخ أن يؤرخ لدور طه حسين النهضوي، على سبيل المثال، من دون أن يكون قارئًا ممتازًا ومستوعبًا لكتابات طه حسين المرجعية التأسيسية.. إلخ،

ولهذا فإن شهادة المؤرخة الكبيرة الدكتورة لطيفة سالم عن جهد الدكتور زكريا الشلق في هذا المضمار تتجاوز بكثير المدح أو التغني بالقيمة بل تثبت ريادة وتكشف عن تكوين مؤرخ أصيل ومثقف حقيقي، تقول:

«إن البحث في التاريخ الفكري، لم يجد اللهفةَ في الإقبال عليه لدى المشتغلين بالكتابة التاريخية، لصعوبته من ناحية، ولأن من يتصدى له لا بد أن يمتلك من المؤهلات لذلك، من ناحيةٍ أخرى. وبالتالي، فمن الضروري للأخير أن يوظف ثقافته المعرفية، وما حباه الله به من عقل مفكر، ليدلي بدلوه في هذا المجال، وينتمي الدكتور أحمد زكريا الشلق إلى ذلك الصنف، فأنتج مؤلفات تسد بعضًا من الفراغ القائم في هذا التخصص».

وأتصور أن جهد الدكتور الشلق في هذا الكتاب الذي نعرض له، تتواصل بشكل كبير مع ما سبق أن قدمه من جهد بارز في هذه الدائرة؛ دائرة التاريخ الثقافي والفكري، وتقديم القراءات المميزة لكتبٍ وشخصيات تنتمي إلى تيار الاستنارة والنهضة المصرية والعربية؛ وسيعيننا الحصر لو حاولنا أن نعدد أسماء الكتب والشخصيات والظواهر التي عالجها أو أرّخ لها في دراسات وكتب سابقة (راجع ما كتبه الدكتور الشلق في مناسبات مختلفة عن كل من الشيخ حسن العطار، والشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ حسين المرصفي، وعن الأستاذ الإمام محمد عبده، وشبلي شميل، وعن أحمد لطفي السيد، والشيخ مصطفى عبدالرازق، وعن الدكتور طه حسين الذي أفرد له كتابا كاملا من أهم ما كتب عنه في العشرين سنة الأخيرة.. إلخ».

-3-

وفي كتابنا هذا «من النهضة إلى الاستنارة» يمارس الدكتور الشلق مهاراته الفائقة في عرض وتحليل الكتابات الفكرية والثقافية البارزة (في التاريخ، والأدب، والنقد، والإبداع الأدبي والفكري.. إلخ) التي كتبها كبار المثقفين المصريين والعرب؛ ويقدم من خلالها استخلاصاته الممتعة للأعمدة الفكرية التي تقوم عليها هذه المشروعات.

يتناول الكتاب من منظور تاريخي تحليلي جوانب من تاريخ الفكر العربي وتحديثه خلال الفترة من بداية القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، ومن ثم معالجة الأفكار الجديدة وإسهامات المفكرين ورؤاهم، «إصلاحية» كانت أم «ثورية»، في سياقها من حركة التاريخ المصري والعربي العام في تطوره الاجتماعي والسياسي والثقافي.

ولعل الدكتور الشلق قصد في فصول ودراسات هذا الكتاب لأن بقدم تعريفًا موجزًا بصاحب هذا الفكر أو ذاك، وبالمناخ الذي أسهم في تكوينه، فكل كاتب أو مفكر أو مثقف في العموم هو ابن عصره، وابن نشأته الاجتماعية والثقافية، حتى لو ثار بفكره على هذا العصر؛ وقصد أيضًا من خلال استعراضه لهذا المفكر أو ذاك أن يربط ذلك بالحقائق والمعلومات التاريخية المتصلة بالمرحلة ذاتها للسبب نفسه، لأن الفكر لا ينشأ من فراغ.

وكتاب «من النهضة إلى الاستنارة» (دار الكرمة 2022) يأتلف موضوعًا واحدًا، وإن تعددت الشخصيات وتنوعت المصادر، فهو دراسة فكر النهضة والحداثة والاستنارة في عالمنا العربي، متخذا من مصر الحديثة نموذجًا لها، عبر سياق زمني متصل، وإن اختص كل فصل بإسهاماتٍ ارتأى مؤلف الكتاب أنها «مهمة وجديدة تميز بها هذا المفكر أو ذاك».

ويستهل الدكتور الشلق فصول كتابه، بعد المقدمة التعريفية الموجزة، بدراسة عصر الشيخ الإمام حسن العطار، أي من أواخر القرن الثامن عشر، وتتوقف في أوائل القرن العشرين، حين انتهت حياة الأستاذ الإمام محمد عبده عام 1905، وتُوفِّي قاسم أمين عام 1908، وأحمد فتحي زغلول عام 1914، وهو العام نفسه الذي ترك فيه أحمد لطفي السيد صحيفته «الجريدة» التي انتهى أمرها بعد ذلك بشهور، وانصرف -بعد أن قال كل ما أراده- إلى نشاط عملي مؤسسي سجله له التاريخ.

-4-

وقارئ الكتاب المدقق سيلحظ فور فراغه منه، أن الآثار القلمية والفكرية التي أنجزها رواد هذه الفترة قد امتد تأثيرها جذريًا وعميقًا إلى الأجيال التالية (بل لا أبالغ لو قلت إن تأثيرها ما زال ممتدًا وباقيًا حتى وقتنا هذا)، وأسهمت في تشكيل ثقافتها ووعيها، ذلك أن الأفكار الحية لا تموت بوفاة أصحابها، بل ربما لا يظهر تأثيرها في جيلهم، كما حدث مع قاسم أمين الذي لم تظهر آثار دعوته إلا مع تفجر الثورة المصرية الشعبية الشهيرة (1919)،

فمن ذا الذي ينكر دور الشيخ حسن العطار في التمهيد لتحديث الفكر العربي، أو ريادة الطهطاوي الشاملة في السياسة والاجتماع والتمدن والعلوم والمعارف، أو يغيب عن المشهد مؤلف الشيخ حسن المرصفي «الكلم الثمان»، كل ذلك فضلًا عن عباءة الشيخ الإمام محمد عبده رائد التيار الإصلاحي التجديدي بلا منازع، وعنه تفرعت كل مسارات وأجنحة الفكر العربي الحديث من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

وقد برزت آثار جيل الرواد هذا أوضح ما تكون في فرسان الفكر والثقافة خلال القرن العشرين، الذين تسلموا منهم راية «التحديث» و«التنوير» بعد أن عاصروهم في فترة شبابهم، وكان من أبرزهم طه حسين، ومنصور فهمي، والشيخان مصطفى وعلي عبدالرازق، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وأمين الخولي، وغيرهم ممن تركوا تراثًا فكريًّا، مكتوبًا أو منشورًا، جديرًا بالدراسة والبحث، وأسهموا في تأصيل تيارات قومية مصرية وعربية، وتيارات دينية مستنيرة وأصولية، وتيار علمي ينحاز إلى العلم وحده، فضلًا عن دعاة العلمانية.. (وللحديث بقية)