أمير الشعراء أحمد شوقي
أمير الشعراء أحمد شوقي
ثقافة

مرفأ قراءة: ذكرى أمير الشعراء في "غواص في بحر النغم"

23 أكتوبر 2021
23 أكتوبر 2021

- 1 -

من مزايا قيادة السيارات في الطرق الطويلة والمزدحمة الاستماع بتلذذ وشغف إلى برامج الإذاعة (والبث الإذاعي في عمومه) واستعادة الأيام الخوالي والذكريات الرائعات عن أيام شبابنا التي كانت متعتها الرئيسية وأوقاتها الحلوة الذهبية بصحبة الإذاعة المصرية وبرامجها التي لا تنسى (وقد كتبت أكثر من مقال في مرفأ قراءة عن بعض هذه الذكريات والتعريف ببعض وأهم وأجمل برامج الإذاعة الفكرية والثقافية والفنية التي لعبت أهم وأبرز الأدوار في تشكيل وجدان وثقافة أجيال مصرية وعربية بأسرها)

في الأسبوع الماضي، وأنا عائد من حفل إطلاق وتوقيع كتاب الصديقة العزيزة الكاتبة والفنانة المبدعة ميسون صقر القاسمي «مقهى ريش ـ عين على مصر»، استغرقني بالكلية الاستماع إلى حلقة رائعة من حلقات برنامج الموسيقار المصري الراحل عمار الشريعي «غواص في بحر النغم»؛ كانت الحلقة بأكملها عن بعض القصائد الرفيعة التي غناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لأمير الشعراء أحمد شوقي.

ولم أفطن حينها إلى سبب أو مناسبة إعادة إذاعة الحلقة الشهيرة (وهي من حلقاته الكلاسيكية القديمة المعروفة التي أذيعت مرارا) وهي مناسبة ذكرى رحيل أمير الشعراء أحمد بك شوقي (1868-1932) التي تحل في الـ14 أكتوبر من كل عام، وشوقي هو "متنبي عصرنا الحديث"، وأحد أهم وأبرز أصواتنا الشعرية الجهيرة في سنوات نهضتنا الأدبية فيما بين الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.

- 2 -

ورغم استماعي إلى هذه الحلقة قبل سنوات طويلة فائتة، بل سمعتها أكثر من مرة، فإن استماعي لها هذه الليلة حمل شيئا جديدا وجميلا وممتعا فاق كل المرات التي سمعتها فيها سابقا، كانت أول مرة أنتبه وألتفت بهذه الكثافة والسطوع إلى مقدرة الموسيقار المعجز عمار الشريعي الفذة على تذوق الشعر العربي، وفهمه، وتحليل جمالياته وموسيقاه وإيقاعه بهذه السلاسة والعذوبة و"الحرفنة"! معلم أسطى فنان عظيم! بذات الدرجة إن لم يزد التي يحلل فيها الألحان والأنغام ويشرح المقامات الموسيقية وأطوالها وسماتها وإمكاناتها.. حالة فنية استثنائية بكل المقاييس وحالة إبداعية منتشية لا تملك وأنت تسمعها إلا أن تصيح بحماس "الله الله الله" (بصوت الشريعي نفسه الذي كان يردد هذه اللازمة عقب الانتهاء من إذاعة اللحن أو الأغنية أو القصيدة المغناة).

ما هذا كله يا رجل؟ ما كل هذا الجمال وهذه القدرة على الشرح والتحليل والكشف.. يحلل القصيدة المغناة بيتًا بيتًا ويشرح الكلمات الصعبة، ويضع حواس مستمعيه على موسيقى الأبيات الداخلية وإيقاعها الجهير والخفي معا، ويرسم وهو غير المبصر الصورة الفنية ويشكلها ويجسدها بلغته المحببة وخفة ظله، واستخدامه العامية والمأثورات والأمثال لشرح الأبيات وإيضاحها..

توقف عند قصيدة "إلام الخلف بينكم إلاما... وهذى الضجة الكبرى علاما؟" وهي واحدة من أشهر قصائد أحمد شوقي، وحلّل قصيدة "يا جبل التوباد حياك الحيا" وقصيدة "مقادير من جفنيك"، وقصائد أخرى منتقاة بعناية وذوقٍ رفيع لشاعر الأمير (وما بالقليل ذا اللقب!) كما كان يعتز شوقي بهذا اللقب ويفخر به أيما فخر واعتزاز! قبل أن يحدث التحول المفصلي في حياته ويقضي سنوات في المنفى بعيدا عن مصر فيعود وهو متجه بوجدانه كله وشعوره كله وملكاته كلها إلى هذا الشعب؛ فيخرج أجمل وأروع قصائده الوطنية في حب مصر وتاريخها ويتغنى بجمالها وناسها ليصبح لقبه في سنواته الأخيرة "شاعر الشعب"!

- 3 -

يستند عمار الشريعي ليس إلى قدراته ومواهبه الموسيقية والتلحينية الفذة، التي شهد له بها أساطين الموسيقى شرقًا وغربًا، بل يستند أيضًا إلى ثقافة واسعة جدًّا وعريضة جدا، وحافظة وذاكرة غير طبيعية، هي هبة من الله عز وجل، كأنها تعويض فائض عن فقدانه البصر، كأن الله أراد إذ حرمه البصر ألا يحرمه مواهب السمع والسماع والحافظة الواعية والذاكرة الحديدية وهذه القدرة البارعة على فهم الشعر وتذوقه وتحليله وإبراز جمالياته وصوره وأخيلته وموسيقاه كأحسن ما يكون التذوق والشرح والتحليل!

ويثبت نموذج عمار الشريعي الفذ أن الموهبة وحدها والذائقة وحدها والسماع وحده ليست هي كل شيء؛ فلا بد من القراءة والدراسة والتعمق والاستيعاب ولا بد من الإحاطة الكاملة والوافية والشاملة بموضوع اهتمامنا واحترافنا حتى نصل إلى مرحلة امتلاكه مثلما يمتلكنا عشقه واحترافه بالمقابل. إنه تطبيق حي لمقولة ناقدنا الراحل الكبير محمد مندور حينما قال "إن الفهم تملك للمفهوم".

كم معيدا بالجامعة وكم أستاذًا يمتلك هذه القدرة وهذه المقدرة؟ أترك لكم الإجابة لأنها قاسية وصادمة ودالة.

ما يقرب من 9 سنوات كاملة على رحيل عمار الشريعي؛ وما زال مكانه شاغرًا، إنسانًا وملحنًا ومؤلفًا موسيقيًّا وعازفًا، وأستاذًا كبيرًا في مجال برامج التذوق الموسيقى.

- 4 -

وأعود إلى أمير الشعراء؛ أحمد شوقي، الذي فتحت لي هذه الحلقة الرائعة أبواب الذكريات عنه ومعه على مصراعيها؛ وتفجرت بداخلي حالة نوستالجيا مذهلة (وما أكثر ما يتفجر من حالات النوستالجيا بعد أن نتخطى الأربعين!) وتذكرت كيف وقعت في غرام أمير الشعراء أحمد شوقي وأحببته وقرأت كل ما كتب بل كل ما كتب عنه (أو أزعم ذلك!) وأنا طالب بعد في المرحلة الثانوية!

أتذكر جيدا المصادفة العجيبة التي وقعت في مثل هذه الأيام تقريبًا وقبل ما يقرب من 25 سنة! وقع في يدي كتاب صغير الحجم جدًّا صدر في سلسلة كتاب الهلال، للرائد النهضوي الكبير محمد حسين هيكل (1886-1956) اسمه «الأدب والحياة المصرية»؛ وكان يضم فصولًا رائعة عن شعر شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم. في الغالب كانت مقدمات مفصَّلة لطبعات حديثة من دواوينهم أو أعمالهم الكاملة على ما أذكر..

كان غلافه مزينًا بصورة (بورتريه) أحمد شوقي الشهيرة.. جذبني الكتاب لدرجة أنني قرأته كله في ليلة واحدة.. كان هذا الكتاب صغير الحجم هو نافذتي الأولى على عالم أحمد شوقي (وكان ذلك طبعًا قبل أن يُفرض علينا كتاب «شوقي شاعر العصر الحديث» للمرحوم شوقي ضيف الذي ظللت فترة طويلة أحاول التخلص من وطأة حضوره الثقيل وجفافه الجهم في تناوله للأبيات والقصائد)..

المهم أنني تعلقت بشعر شوقي، وأحببت مسرحياته الشعرية جدًا ولحسن الحظ كانت كلها مجموعة في مجلد واحد أنيق يضم المسرحيات الست الشهيرة صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب إبان رئاسة المرحوم الناقد د.عز الدين إسماعيل -عليه رحمة الله- لها.

- 5 -

لم أكن أجد أي صعوبة آنذاك في قراءة «مسرحيات شوقي» (وخاصة «مجنون ليلى»، و«كليوباترا»، و«عنترة» و«علي بك الكبير»)، ولا حتى في قراءة قصائده المطولة التي يحكي فيها تاريخ مصر كله..

أحببت جدًّا قصيدته الشهيرة "كبار الحوادث في وادي النيل"، وتعلقت بها، وحفظت أبياتًا منها أرددها وأستعين بها في موضوعات التعبير.. وأتساءل إذا لم تكن أبيات من هذه القصيدة في حافظة طلاب التعليم الأساسي، فماذا يمكن أن يكون في حافظتهم، مما تسهل قراءته ويُستحب معناه ويثير العاطفة والحماسة الوطنية في نفوس هؤلاء الطلاب والطالبات، بدلًا من النصوص الجافة العقيمة التي تدرس منذ عقود ولم تمسسها يد التغيير لا بخير ولا بشر، وكأنها محفوظة ومصونة بطلسم مختوم!

قرأت «مسرحية عنترة» أكثر من مرة، أحببت موسيقاه وكلاسيكيته الفخمة.. كنت في "ثانوي" ربما. لكن الجميل أن ما كتبه هيكل عن شوقي ظل عالقًا بذهني ولم يفارقني أبدًا، اكتشفت حينها أن هيكل ناقد من طراز رفيع وله ذائقة أدبية معتبرة ومفتخرة، فضلا عن رصانة أسلوبه "الباشوي" الفخيم، فيه العمق والتحليل والمعلومة والنظرة الكلية.. وبسبب هذا الكتاب الصغير الأنيق قررت أن أقرأ "شوقي" وأن أقرأ "هيكل" نفسه...

(وللحديث والنوستالجيا بقية ما دام في العمر بقية)