No Image
ثقافة

مرفأ قراءة.. "الحكاية الشعبية" ودورها في التقريب بين الشعوب

18 مارس 2023
18 مارس 2023

- 1 -

وما زلنا مع "الحكاية الشعبية"، و"القصص الشعبي"، في تراثنا العربي الزاخر والوافر، ونستكمل اليوم عرض جهد بحثي مميز في النظر إلى الحكاية الشعبية في ضوء المشترك الإنساني، والبحث عن الجامع والأصيل والجذري بين ثقافات وشعوب وأمم العالم منذ أقدم العصور وحتى وقتنا هذا.

"حوار الشرق والغرب في ضوء الثقافة الشعبية"؛ هو عنوان الكتاب العاشر الصادر أخيرًا في الشارقة ضمن فعاليات أيام الشارقة التراثية التي تنقضي دورتها العشرون بعد أيام قليلة.

الكتاب من تأليف الأستاذ الدكتور خالد أبو الليل أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، ووكيل الكلية لشؤون الطلاب وخدمة المجتمع. وهو واحد من جيل الشباب النابه الذي تلقى تدريبه المنهجي والميداني على يدي أكبر أساتذة التراث والأدب الشعبي (أستاذه المباشر الذي أشرف عليه في أطروحتي الماجستير والدكتوراه المرحوم الدكتور أحمد علي مرسي)، واستطاع في غضون عقدين أو يزيد قليلًا أن يكون ضمن زمرة الأساتذة المتخصصين المعروفين المرموقين في هذا المجال، وأن يرفد المكتبة العربية عامة والمكتبة التراثية خاصة بدراساته وأبحاثه وكتبه التي عالجت موضوعات متفرقة ومتنوعة في دائرة المأثورات الشعبية عامة والأدب الشعبي خاصة.

ويمثل هذا الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية في ضوء النظرة الإنسانية الرحبة التي يتطلع إليها البشر جميعا لوصل الثقافات وتفاعل الحضارات والعمل على المشترك الإنساني وتنميته والارتقاء به ليكون منصة تحضر حقيقي، وفي هذا الإطار يبزغ دور "التراث" ودراسته والإحساس بقيمته في كل الأمم والثقافات والعمل بجهد ودأب على التعاون والتواصل للحفاظ عليه وصونه وتنمية الوعي به وبقيمته، ولا أدل على هذا النشاط من صدور هذا الكتاب ضمن سلسلة "عالم التراث" عن معهد الشارقة للتراث الذي صار اليوم من دون مبالغة من أهم المؤسسات العربية المعنية بالتراث وتوثيقه ودرسه وصونه وضمن المؤسسات الكبرى الأهم في العالم في هذا المضمار.

- 2 -

بخبرته الواسعة وتكوينه الأكاديمي الرصين، ينطلق مؤلف الكتاب من موقفٍ فكري مضاد بل مخاصم لمقولات المنظِّر الأمريكي الشهير صمويل هانتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في العقد الأخير من القرن العشرين، منذ قدم أطروحته تلك التي تقوم على المواجهة والصراع (بل حتميته!) بين ثقافات العالم وحضاراته، وقد اتخذ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن من مقولات هنتنجتون أساسًا نظريًّا وبطانة أيديولوجية لتبرير حملاته العسكرية الموسعة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

ويتخذ مؤلف الكتاب من مضمار تخصصه الأصيل "الثقافة الشعبية" وخاصة في دائرة "الحكايات الشعبية" مجالا ومادة لدحض مقولات هنتنجتون، والتدليل على عكس طروحاته على طول الخط. وينطلق أبو الليل من ملاحظة أن أوجه التشابه بين تيمات ووظائف وبنيات الحكايات الشعبية في كل الثقافات والأمم القديمة وما بعدها، تؤكد وحدة الثقافة الإنسانية وأن المشتركات التي تجمع بين البشر جميعا منذ الإنسان الأول "البدائي" والإنسان في كل مراحل تطوره التالية أكبر وأكثر تجذرا ورسوخا ممن يدعي غير ذلك أو عكسه أو نقيضه.

وقد دفعت قضيةُ التشابه هذه بين الحكايات الشعبية الباحثين والدارسين منذ وقتٍ مبكر في القرن التاسع عشر إلى دراسته ومحاولة تفسير هذا التشابه. فتعددت في ذلك النظريات والمناهج، كما يوضح، ما بين النظرية "الانتشارية" أو "الهجرة" أو "وحدة الأصل الإنساني"، أو "وحدة الوظيفة الإنسانية".

ولقد انتهت هذه الجهود، بدورها في بداية القرن العشرين، واعتمادًا على هذا التشابه، إلى طرح تصنيفاتٍ عالمية للحكايات الشعبية، تقوم بتصنيف تلك الحكايات الشعبية الموجودة، برواياتها المتعددة والمتشابهة، في كل المجتمعات الإنسانية، سواء كانت تصنيفات تقوم حسب النوع والنمط أو الموتيف أو الوحدات الوظيفية.

- 3 -

وفي هذا الإطار المنهجي الجامع، يستعرض مؤلف الكتاب في إيجاز وتكثيف تلك المحاولات التصنيفية لكل من الفنلندي آنتي آرني، والأمريكي ستيث طومسون، والروسي فلاديمير بروب. فكل حكاية من الحكايات الشعبية التي نظروا فيها وقاموا بوضعها في هذه التصنيفات تضمنت رواياتٍ لها من شتى المجتمعات الإنسانية، دون أن يتم التفريق في ذلك بين مجتمع راقٍ ومجتمع أقل رقيا. فإلى جانب الروايات الأمريكية والأوروبية لإحدى الحكايات الشعبية، تم وضع روايات إفريقية وآسيوية أيضا، بغض النظر عن الاختلافات والفروق الثقافية والعرقية واللغوية والدينية والأيديولوجية، التي يشهدها واقع العلاقة بين هذه المجتمعات.

ويشير مؤلف الكتاب بذكاء إلى أن التشابه والمشترك الثقافي الشعبي لم يقتصر على الحكايات الشعبية قط، بل نستطيع أن نلمسه دون عناء أو مشقة أو كد في ذلك التشابه الموجود أيضًا بين السيرة الشعبية العربية والملحمة الغربية، وبين الأساطير الشرقية والغربية (المقارنات في هذا الصدد لا تنتهي، والباب مفتوح على مصراعيه للدرس المقارن بين السيرة الهلالية وسيرة الأميرة ذات الهمة، والإلياذة والأوديسة، على سبيل المثال، بل إن هناك من رأى بعض حكايات مطولة في "ألف ليلة وليلة" ترقى إلى تصنيفها كسيرة عربية مكتملة، مثل حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان... إلخ).

- 4 -

لكن مؤلف الكتاب لا يستفيض في رصد هذه التشابهات على مستوى تلك الفنون الأخرى (غير الحكاية الشعبية) معتبرا أن هذا الرصد يخرج عن منهجيته المقترحة لإعادة قراءة الحكايات الشعبية، لأنه من وجهة نظره "تشابه في قيم وموضوعات تزيد من حدة الصراع والانشقاق"، بعكس ما يثيره التشابه الموجود بين الحكايات الشعبية العالمية من تقارب وتحاور.

ويكفي للتأكيد على ذلك أن أحد أهم أفرع الحكايات الشعبية، ويقصد بها "الحدوتة" بما تشتمل عليه من قيم إنسانية إيجابية، تتم روايتها عالميا إلى الأطفال. وبالتالي، ووفق ما يراه مؤلف الكتاب، فإن التركيز عليها سيساعد على خلق أجيال بينها من التقارب أكثر مما بينها من التشاحن والتنافر؛ خاصة مع التركيز على الجانب التربوي في هذه الحواديت. فالحواديت "الشعبية"، وبحسب الألمانيين الأخوين جريم "كتاب تربوي"، ولهذا سيتوقف الكتاب تفصيلا لبحث وتقصي تلك المسألة "الغاية التربوية من الحكاية الشعبية" في منهجيته المقترحة.

وفق هذا الطرح وهذه الغاية القيمية، يقدم مؤلف الكتاب منهجيته المقترحة من خلال إعادة التعريف بالحكاية الشعبية، والسير الشعبية، والملاحم الغربية، وإبراز بعض مما بينها من هذه الخصوصيات الفنية المشتركة، وتبرير سبب اختيار "الحكاية الشعبية" دون غيرها، بوصفها ملمحا مهما في هذه المنهجية، نحو الدعوة إلى الحوار بين الشرق والغرب، وهو الأمر الذي يتطلب "إجراء دراسة مقارنة بين الحكاية الشعبية العربية ونظائرها الغربية في مناطق أوروبية مختلفة، مثل الدول الإسكندنافية، وألمانيا وفرنسا"، بحسب مؤلف الكتاب.

- 5 -

يختم مؤلف الكتاب تقديمه بطرح هذا التساؤل المهم والمثير على السواء: ماذا لو؟

ماذا لو تخيلنا أن كل أطفال العالم، في شتى المجتمعات الإنسانية على وجه الكرة الأرضية، فقيرها وغنيها، متقدمها ومتخلفها، تتم تنشئتهم وتربيتهم على القيم الموجبة والأصيلة والمشتركة في الحكايات الشعبية، نصا وإيقاعا وأداء، بما تشتمل عليه من قيم التسامح والمحبة والتقارب والتحاور نفسها، ونبذ للخلافات العنصرية والأيديولوجية!!

ماذا لو تخيلنا ذلك، وهو أمر ممكن بحسب مؤلف الكتاب، ماذا يمكن أن يكون عليه مستقبل العلاقة بين الثقافات وبعضها البعض، وبين البشر أنفسهم وبعضهم البعض؟

لعل الكتاب كله في مجمله، بأساسه النظري وتحليله التطبيقي، ونماذجه الحية التي عرضها من الحكايات الشعبية، من كل أنحاء العالم، تقدم إجابة مقترحة ووافية على هذا التساؤل الإشكالي الملح والضروري في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الإنسانية التي تشتعل فيها الحروب والصراعات وتلقي بظلالها الكئيبة والمميتة على البشرية كلها.