ثقافة

مختصـون يسلـّطون الضوء على تحديــات التحــــولات الثقـافية وتأثيراتـها فـي المجتمع العماني

05 سبتمبر 2023
في علاقتها مع القيم والمعتقدات الـدينية والهـوية الــــــوطنية والمعرفة التاريخية والاقتصاد والتكنولوجيا
05 سبتمبر 2023

بدر العبري :هناك تحوّل في الأخلاقيات المرتبطة بسعة القيم ذاتها وارتباطها بالإنسان أكثر منها بهوية الدولة القطرية أو الوطنية -

د. إسماعيل الأغبري : خصوصيتنا لا تستنسخ من أحد وعلينا ألا نذوب في ما يصادم هويتنا ولكن نأخذ النافع منه -

د. علي الريامي :المجتمع العماني لم يعد بمنأى عن مهددات الغزو الثقافي العابر للحدود ومواجهة المتغيرات مسؤولية مشتركة -

د. معمر التوبي: التوازن في استعمال التقنيات المتقدمة مطلوب لأجل ضمان الاستدامة الاقتصادية وبناء المجتمعات المتقدمة -

تعد الثقافة والتقاليد أحد العناصر الأساسية التي تشكل الهوية الوطنية لأي مجتمع، ومن الواضح أن التغيرات الثقافية التي يشهدها المجتمع العماني تُعَدُّ تحديًا مهمًا يواجهه في الوقت الحاضر، فمع تزايد التحولات في الهوية والدين والاقتصاد والتكنولوجيا، يتغير نمط حياة الأفراد ويتغير معها نمط تفكيرهم وإدراكهم، ويُعَدُّ المجتمع العماني من بين المجتمعات التي تشهد تغيرات ثقافية كبيرة في السنوات الأخيرة، حيث تأثر بتحولات في مختلف المجالات، لذا، أصبحت هذه التغيرات محط اهتمام الكثير من الباحثين والمثقفين الذين يسعون لفهم جذور هذه التحولات وتأثيرها على المجتمع والثقافة العامة.

في هذا التحقيق، نسعى إلى إجراء تحليل شامل للتغيرات الثقافية في المجتمع العماني وتأثيرها على النسيج الاجتماعي والثقافي، حيث سنسلّط الضوء على مختلف المجالات التي تشهد تحولات بارزة، وسيشارك مجموعة متنوعة من المختصين في مناقشة هذه التحولات بهدف تعزيز الوعي الثقافي وتطوير المجتمع، وسنكتشف بعضا من هذه التغيرات في محاولة لفهم كيفية تأثيرها على المجتمع والثقافة العامة في عُمان، وسيقدم المختصون صورة شاملة وواقعية للتغيرات الثقافية في المجتمع العماني، وسيتم استكشاف أهم التحديات التي يواجهها المجتمع وكيفية التعامل معها بشكل فعَّال وبنَّاء.

بداية وحول «التغيرات في القيم والمعتقدات الدينية» يجيب الباحث بدر العبري عن سؤال التغيرات التي طرأت في القيم والمعتقدات الدينية في سلطنة عمان، وكيف أثرت هذه التغيرات على المجتمع والثقافة؟ يقول: قلتُ في مقالة سابقة لي في «جريدة عُمان» حول التحولات الدينية في الخليج، ومنها عُمان: «التحولات الدينية في أنساق التفكير الديني الخليجي ارتبطت بحركة الاجتماع البشري في المنطقة، إلا أن هذه التحولات كانت بطيئة التفاعلية، وتفاعلت زمنا وفق: السلطة والمجتمع، وفي العقد الثاني من القرن العشرين، وبداية استقرار الدولة القطرية تأثر الفكر الديني بشكل عام بالاتجاه الاشتراكي، ونظرية الثورة والعدالة الاجتماعية، كما أنه تأثر بالخطاب الإسلام الحركي، ونظرية الخلافة، بيد أنه بعد حادثتي جهيمان والثورة الإيرانية تمظهر الخطاب الديني في: أسلمة الدولة، مع شيوع التيارات السلفية التقليدية، وتزاوجها مع حركة الإصلاح والتجديد تارة، واختلافها تارات أخرى، واليوم نتيجة الانفتاح على العالم، وظهور اتجاهات تبلورت بصورة أكبر، فهناك تياران: تيار الأسلمة المتمثل في درجات من الخط التقليدي إلى الخط الإصلاحي والتجديدي، وتيار الأنسنة بتدرجه من: الأنسنة بمعنى الحاكمية، والأنسنة في تأريخية الأحكام، وتيار يحاول المزاوجة بينهما تحت مظلة الأنسنة بمعنى العللية أو الذائقة الإنسانية، وحركة الأنسنة لها اتجاهات رأسية، وإن كانت ليست أفقية بشكل كبير، إلا أن اتجاه الأسلمة بأفقيته لم يعد محصورا في الاتجاهات السلفية الحرفية والتراثية، بقدر ما يوجد هناك تمدد أيضا في الاتجاهات القرآنية والاتجاهات العرفانية الغنوصية».

وعلى هذا فيما يتعلق بالقيم والمعتقدات، فلا نستطيع القول -في نظري- إن هناك تحولا في القيم؛ لأن القيم أقرب إلى العام المشترك، سواء مطلقة كالعدل، أو مضافة كالعلم، ولكن التحول أن الإنسان اليوم في الدولة القطرية المحصورة بهوية معينة؛ لم تعد قادرة على إيجاد رؤية قيمية في زاوية أو صورة محددة، فاتسعت الصور والعوالم في الدولة القطرية أو الوطنية الواحدة، كما أن هناك تحولا في السلوكيات والأخلاقيات المرتبطة بسعة القيم ذاتها، وارتباطها بالإنسان أكثر من ارتباطها بهوية الدولة القطرية أو الوطنية، وهذا بلا شك سيؤثر في التحول في العادات والتقاليد، وربما مستقبلا في اللباس وطرق الحياة ونحوها، فما كان ينظر إليه بسلبية لن ينظر إليه لاحقا بسلبية، وهي حالة اجتماعية طبيعية، بيد التحول اليوم سريع يلفت الانتباه من السابق.

وأما التحول في المعتقدات فنتيجة التقارب بين المذاهب الإسلامية ارتفع حاجز التوجس من الآخر بشكل كبير، كما أن الجيل الجديد لم يعد معنيا في جملته بتلك الاختلافات لما بعد الله، كقضايا الصفات ورؤية الله وخلق القرآن، والعديد من الجدليات الكلامية التي شغلت العقل الإسلامي إبان مرحلة الصحوة، فاليوم ارتفع سقف التساؤل والبحث إلى الأسئلة الوجودية الأولى، ونتيجة للانفتاح الكبير بسبب وسائل التواصل الاجتماعي أو القنوات المرئية، والبودكاست، وحضور الكتاب الفلسفي والفكري والنقدي، أو الكتاب الروائي الناقد للمجتمع والتفكير، وبسبب الانفتاح نتيجة تعدد الأسفار، والسياحة في الأرض؛ كل هذا جعل التحول سريعا في تقبل الآخر، كما أوجد مزاوجة بين جيل سابق منغلق وخائف من الانفتاح على الأديان والتوجهات الأخرى، وبين جيل متجاوز لذلك، إلا أن التحول يميل إلى الطرف الثاني بشكل سريع.

وحول مسألة التحولات في العلاقة بين الدين والمجتمع وكيف يؤثر ذلك على القيم والمعتقدات الدينية والثقافية في المجتمع العماني يقول الباحث بدر العبري: الدين لا يمكن قراءته بعيدا عن الاجتماع البشري، بل هو نتيجة لتعامل الإنسان منذ القدم مع النص، فالنص غير متحرك بذاته، الذي يحركه هو الإنسان بظرفيته الزمكانية، والاجتماع البشري مؤثر كبير في تعامل الإنسان مع النص الديني، واليوم يوجد تسارع في عقلنة وأنسنة التعامل مع النص، والسبب في ذلك هو التحول الكبير في المجتمع، وهذا سيؤثر في تحولات السلوكيات المرتبطة بالقيم، والنتائج المتعلقة بالمعتقدات، وبالعادات والتقاليد المشكلة للثقافة بالشكل العام.

أما عن التحولات في العلاقة بين الأجيال فيرى «العبري» أن الزمن من حيث ماهيته واحد لا يتغير، فكل جيل يدور وفق سننية تدور عليها الأجيال السابقة ويقول: التغير يحدث عندما يسارع الإنسان في كشف سنن الوجود، وسرعة استثمارها ومحاكاتها، وهذا ما حدث بعد أربعة تحولات في سيرة الإنسان، إذا ما استثنينا كشفه للنار واستغلاله للنجوم في السير، وقدرته في الإبحار وكشف العوالم الأخرى، إلا أن هناك أربعة تطورات ساهمت في تطوره، الأولى اكتشافه للكتابة والورق في العالم القديم، حيث حفظت معارفه، ونقلتها لشعوب أخرى، والثاني كشف الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي فأحدثت ثورة فلسفية وتنويرية، والثالث عصر الصناعة في القرن التاسع عشر الميلادي والذي أحدث نقلة كبيرة في الاجتماع البشري، وأخيرا ما نعيشه اليوم من التطور الإعلامي الهائل خصوصا في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي نقلنا من الإعلام الجمعي الرسمي، إلى الإعلام الفردي الحر، هذا بلا شك سوف يعطي تحولا كبيرا بين الأجيال، وهذا ما نراه اليوم، فهناك تحول كبير بين جيلنا والجيل الجديد، وهذا التحول لكونه منفتحا على العالم بثقافاته وأفكاره ومعتقداته، ولكونه حرا عابرًا للحدود المجتمعية والجغرافية، بلا شك تأثيره كبير جدا حتى على مستوى المعتقدات، فلم يعد الجيل الجديد رهين ثقافة محددة تقاس له، بل أمام ثقافات تتدافع حوله ويرى مصداقيتها في الخارج تماما.

وعن التحولات في العلاقة بين الذكور والإناث وتأثيره، وكيف يمكن التعامل معها يقول الباحث بدر العبري: التحولات بشكل عام يشمل تأثيرها الذكور والإناث، إلا أنه بسبب الوضع الاجتماعي المغلق سابقا، والذي قيد أكثر حقوق المرأة، ورفعت من درجة ذكورية التحكم لدى الرجل؛ هذا التحول جعل المرأة أكثر جرأة في المطالبة بحقوقها الذاتية والسياسية والاجتماعية، وأصبحت أكثر وعيا من السابق، لهذا تطرح اليوم العديد من الآراء المتعلقة بالمرأة، وبعضها جدلية، على مستوى النص الديني، أو على مستوى العادات والتقاليد، كما أن الدعوات الحقوقية والنسوية أصبحت أكثر شمولية من السابق، وتفرعت في توجهات مختلفة، وهذا بلا شك له آثاره في سرعة التحول.

أما التحولات في العلاقة مع العالم الخارجي وكيفية تأثيرها، والتعامل مع التحديات الثقافية والدينية التي تواجه المجتمع العماني بشكل أكثر فعالية يقول «العبري»: المجتمع العماني اليوم أصبح مكشوفا على غيره، كما أن غيره مكشوف له، فلم يعد يعيش في عالم منغلق، فهو يرى العالم من خلال هاتفه وتلفاز بيته وصحافته وانفتاحه على الكتاب، كما أن مئات العمانيين يسافرون سنويا، ليطلعوا على ثقافات ومعتقدات متباينة، ومنهم من يستقر لدراسة أو عمل، وقد يتزوج منهم، ويتطبع بطباعهم، وهناك مئات السياح يأتون إلى عمان، وهم ليسوا ذواتا مجردة، بل يحملون ثقافاتهم كما نحمل نحن ثقافتنا لما نخرج، ومن الأجانب من يعيش معنا لدراسة أو عمل، وهذا طبيعي يحدث تحولات ثقافية في المجتمع، وهذا ما نراه في مجتمعنا العماني، ويزداد بشكل أفقي واضح.

وأخيرا يقول الباحث بدر العبري حول «التحولات في العلاقة بين الدين والتكنولوجيا»: التكنولوجيا إما أن تكون وسيلة فهذه كما أسلفتُ ساهمت في سرعة التحول بشكل كبير، خصوصا في الجيل الجديد، وإن كان المراد ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي مثلا فهذه آثارها بدأت، ولكن هل سيكون تأثيرها على مستوى الوسائل، أم على مستوى التغيير المعرفي والاجتماعي والثقافي ذاته، وبالتالي سيكون أثرها أكثر من الأولى، فهذا لا أستطيع التكهن به، ولكن هناك العديد من التجاذبات حول هذا.

التغيرات في الهوية

الوطنية والثقافية

حول التغيرات التي طرأت في الهوية الوطنية والثقافية في سلطنة عمان، وكيف أثرت هذه التغيرات على المجتمع والثقافة يقول المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري عضو مجلس الدولة: لكل مجتمع من المجتمعات هويته التي تميزه عن غيره وله رصيد من منظومات القيم والأخلاق التي تعتبر بمثابة قانون غير مكتوب لكنه متعارف عليه ويجب احترامه، هذه الهوية الوطنية مستمدة من الإسلام والفطرة والعادات والتقاليد، وتتجلى هذه الهوية في جملة من المفردات كالثقافة والفكر من حيث العيش المشترك وحب الخير للجميع والقدرة على التفاهم وسط هذا الزحام من الأفكار والثقافات لذا ينبغي الحفاظ على النمط التراثي والثقافي الخاص مع الأخذ من الآخرين بما لا يتعارض مع الهوية الوطنية.

ويضيف «الأغبري»: الأعراف والعادات والتقاليد من محددات الهوية العمانية ومرجعياتها وهذه أيضا من الضرورة بمكان عدم التفريط فيها كآداب الضيف واحترام ذي الشيبة وكبير السن ويتجلى ذلك في عونه ومساعدته وتمهيد الطريق له وعدم السخرية منه واعتباره أبا أو أما.. ومن الخصوصية العمانية عدم السباب والشتم واحترام الآخر بغض النظر عن لونه أو عرقه أو قوميته أو وطنه، ومن الهوية الوطنية عدم التفريط في كل ما يتعلق بعمان المادي منه وغير المادي وهذا يعني ضرورة تعزيز حب عمان في نفوس الناشئة والشبيبة من أهل عمان عن طريق الجلوس معهم وقص القصص عليهم عن عمان تاريخا وجغرافيا ومواريث ثقافية ميزت عمان عن غيرها عبر أحقاب مختلفة وكذلك يمكن تعزيز هذه الهوية عن طريق مسلسلات وبرامج ودراما هادفة تحكي حضارة عمان المادية وغير المادية.

ويرى المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري أن هناك مؤثرات خارجية تؤثر على الهوية ومنها العولمة ويقول: قد يتسابق العالم خاصة المهيمن في تصدير ثقافته وأخلاقياته وقيمه وأحيانا يحاول فرضها بالترهيب مع الترغيب فإن لم يكن جدار الهوية الوطنية محميًا وصلبًا أمكن التأثر بالوارد من الخارج، وكذلك التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير على الهويات فإذا ما أحسن الشباب استثمارها أمكنهم التأثير وبث محاسن هويتهم وثقافتهم بدل أن يتأثروا هم وهذا يستدعي الاستغلال الأمثل منهم لوسائل التواصل وعدم الانبهار بالآخر وكذلك عدم رفض كل ما لدى الآخر.

ويضيف «الأغبري»: العالم اليوم لم يعد كقرية واحدة في تداخله بل صار كغرفة واحدة في تقاربه لذا كل يسعى إلى التأثير على هوية الآخر وهذا يستلزم عدم التقليد لكل خارجي وعدم استنساخ تجارب الآخرين حرفيا، فنحن لدينا هوية سياسية تميزنا عن الآخرين من حيث عدم التدخل في شؤون غيرنا وعدم تأجيج الصراعات وحفظ العلاقات وعدم القطع.. ولدينا هويتنا في مجال الشورى فلا نستنسخ تجارب غيرنا في الصراخ ومجانبة الحقائق عند الحديث، ولدينا خصوصيتنا وهويتنا الثقافية فلا تستنسخ فكرًا إقصائيًا أو أنماطًا من الغلو والتشدد، فهذه الأنماط غير مرغوب فيها في التربة العمانية، نحن شعب مسلم أصيل، ويجب علينا ألا نفقد هويتنا وثقافتنا في مواجهة ما يتعارض معها، ولكن يجب أن نستفيد من المفيد ونتجنب المؤذي.

التغيرات في المعرفة

التاريخية والوعي بهما

وحول أهمية استخدام المعرفة التاريخية لتعزيز الوعي الثقافي في المجتمع العماني، يقول الدكتور علي بن سعيد الريامي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: يعد التاريخ من الركائز الأساسية وعنصرا مهما من عناصر الهوية الوطنية، بل يمكن القول إنه إلى جانب الجغرافيا بمثابة المركز الذي تدور حوله باقي العناصر الأخرى كاللغة، والدين، والقيم، والعادات والتقاليد، ذلك أن التاريخ هو من يحفظ للأجيال التجارب والخبرات المتراكمة للعناصر البشرية عبر مختلف العصور، وبالتالي يمنح الصفات والسمات التي تميز أمة عن أخرى، ويشكل الهوية الجمعية للأوطان، ويغرس في ذوات المواطنين قيم الاعتزاز والانتماء، ويبعث في نفوسهم مشاعر الفخر ويذكي في عقولهم دوافع الانتصار للأوطان والذود عنها، والتاريخ في حقيقته وماهيته ليس رجع صدى للماضي فحسب، بل هو الماضي مجسدًا في الحاضر، والحاضر المتوثب للمستقبل من خلال الاستفادة من التجارب التاريخية التي كان لها تأثيرها الواضح في مسيرة الأوطان في فترات الارتقاء والنهوض والازدهار، وحتى في الفترات الصعبة التي تتطلب المراجعة وترميم الذات، وبذل التضحيات لأجل الوحدة واستعادة المكانة المرموقة، وما من موقف صعب إلا كانت شواهد الاستنهاض التاريخية حاضرة.

والتاريخ الحضاري العماني حافل بالشواهد والأدلة على إسهامه في الحضارة الإنسانية في شتى المجالات المعرفية، واستنساخ روح التجارب الناجحة من التاريخ يعزز من أهمية الوعي به، والدور الذي يمكن أن يمثله في تشكيل الهوية الوطنية المنبثقة عنه.

وحول المتغيرات التي يمر بها العالم يقول «الريامي»: يمر العالم بمتغيرات جذرية، على الصعيد السياسي والاقتصادي، ولا شك أن انعكاس تلك المتغيرات على الجوانب الاجتماعية المختلفة، بل وحتى النفسية أصبح واضحًا للعيان، والأخطر من ذلك أن تلك المتغيرات قد طالت أيضًا المنظومة القيمية الحاكمة للسلوك الإنساني السوي، حيث إن الفضاءات المفتوحة التي أوجدتها الثورة التكنولوجية ساهمت في حالة السيولة والإغراق الذي فاق الحدود، لدرجة أن بعض الدول ذات الطابع المحافظ اعتبرت أن ما يحدث هو بمثابة تهديد للأمن الوطني، فعندما تنهار منظومة الأخلاق والقيم فذلك يعني دق ناقوس الخطر، لهذا وجب الانتباه واتخاذ الخطوات الكفيلة بتعزيز الوعي الثقافي المرتبط بالهوية الوطنية.

إن مواجهة المتغيرات التي بتنا نستشعر خطرها يتطلب مسؤولية مشتركة من قبل مختلف المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها المؤسسات التعليمية والتربوية بمختلف مستوياتها بدءًا من سن ما قبل المدرسة، ومختلف مراحل التعليم العام، والتعليم الجامعي، وكذلك المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة، والمؤسسات المعنية بقطاع الشباب والثقافة والرياضة، فضلًا عن المؤسسات الأهلية المعنية بشؤون الأسرة والطفولة، ومؤسسات المجتمع المدني التخصصية والمهنية، من خلال تبني برامج وفعاليات وأنشطة من شأنها إدماج الشباب في الحياة العامة، وتوجيه أنشطتهم لخدمة مجتمعاتهم بما يشعرهم بأن لوجودهم مغزى وغاية، وأن لتراثهم الثقافي أهمية كبيرة في الحفاظ على جوهر وجودهم وكينونتهم.

ويضيف الدكتور علي الريامي: كثيرة هي الأحداث التاريخية التي لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل الثقافة العمانية، فتموضع عمان جغرافيًا في منطقة حضارية، وانفتاحها على العالم الخارجي بحكم إطلالتها على ثلاثة مسطحات مائية، ساهم ذلك في رسم ملامح الثقافة العمانية، متأثرة ومؤثرة بثقافات الشعوب الأخرى التي ارتبطت بعلاقات متنوعة معها، ولهذا لا غرابة أن يبدو لنا التأثير الثقافي واضحًا للعيان المادي منه وغير المادي على سبيل المثال في فنون العمارة، والصناعة، ونظم الإدارة، وبعض العادات والتقاليد من مأكل ومشرب وأدوات ترفيه، وغيرها من المفردات الثقافية.

وحول الحفاظ على التراث الثقافي وتاريخه في ظل التحولات الثقافية الحديثة يقول رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: المجتمع العماني كغيره من المجتمعات لم يعد مجتمعا مغلقا، ولم يعد بمنأى عن مهددات الغزو الثقافي العابر للحدود الجغرافية، والعابر أيضًا للحواجز القيمية الأسرية والمجتمعية، فما لم يكن مقبولًا قبل عقد من الزمان فقط أصبح اليوم شيئًا عاديًا ومباحًا، ومن جانب آخر يلاحظ أن هناك أصواتًا اتخذت لها منابر افتراضية كثيرًا ما تعبر من خلالها عن سخطها لكل ما هو ماضٍ، وتعتبر ذلك الماضي سببًا من أسباب التخلف والرجعية، وهي لا تطالب بتنقيته من الشوائب فحسب بل تطالب بتجاهله ومحوه حتى من الذاكرة المكتوبة والمسموعة، وتعتبر التراث الثقافي معيقًا للحداثة وما بعد الحداثة، وهذه الأصوات تلقى رواجًا متزايدًا من جيل اليوم، لذلك نقول إن المتغيرات كثيرة وعميقة، والقادم أصعب لا يمكن تجاهله ولا يمكن إيقافه، وإنما يمكن الحد منه.

من جانب آخر لا يمكن تبني صوت ينادي بأن نعيش في جلباب الماضي كما هو، فهذا الصوت سيكون حالة نشاز لن يجد له أي صدى، ولكن يمكن أن نحافظ على تراثنا الثقافي وتاريخنا غير العبء بطرق مبتكرة ومن خلال تبني استراتيجيات وسياسات يشارك في صياغتها الجهات الفاعلة على الصعيد الرسمي والمجتمع المدني، على أن لا تكون تقليدية، وإنما بابتكار آليات تتفهم المتغيرات، وتجيد التعامل معها، ومع عقليات جيل اليوم الذي ولد ورأى أمامه عالمًا آخر مختلفًا تمامًا عن الجيل الذي سبقه، الأمر الذي ولد فجوة كبيرة بين الأجيال السابقة وجيل الألفية الثالثة، ولا شك أن تقليص تلك الفجوة يتطلب منهجية وعقلنة لا سيما وأن حبل التواصل مع الجيل الحالي بات محفوفًا بالمخاطر، وعليه من المهم أن يكون الجيل المستهدف شريكًا في التخطيط لصياغة تلك السياسات.

وعن الخطوات اللازمة والتي من الممكن أن يساهم التاريخ والتراث العماني في الترويج للسياحة وتعزيز الاقتصاد المحلي يقول الدكتور علي الريامي: لسلطنة عمان تاريخ حافل عبر مختلف الحقب التاريخية، فهي مهد لحضارة عمرها أكثر من 5000 عام، والاستيطان البشري فيها قديم جدًا، وفي التنقيبات والمكتشفات الأثرية دليل مادي ملموس شاهد على ذلك، وقد أتاح لها الموقع الجغرافي المتميز لأن تكون جسرًا وحلقة وصل بين مختلف الحضارات، الأمر الذي ساهم في إنتاج ثقافة تراث ثقافي متنوع في شقه المادي وغير المادي، كما وأن البيئة العمانية بتنوعها شكلت فسيفساء ثقافية قابلة للاستثمار الثقافي، وما نشاهده من آثار مستوطنات قديمة، وعمارة مدنية وعسكرية، ومعامل صناعية، ونظم ري معقدة (الأفلاج)، إنما يعكس عمق التجربة الحضارية لعمان، والإنسان العماني المبدع الذي استطاع التكيف مع بيئته، وقد ترك في كل بقعة من أرض عُمان بصمة له وأثر، فمثلًا تعد المواقع التاريخية جزءًا مهمًا من التراث الثقافي والذي تم تعريفه حسب ما ورد في قانون حماية التراث الثقافي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (35/ 2019): «كل ما له أهمية تراثية ثقافية، ماديا كان أو وغير مادي بما في ذلك الآثار والمدن التاريخية والقرى التقليدية والحارات القديمة والآداب واللغات».

وتلك المواقع أشبه بمتاحف مفتوحة، تحكي قصة الوجود الإنساني وتحكي قصة تفاعله مع بيئته، وهي تعد اليوم من المزارات السياحية المهمة، فعبق التراث وذاكرة التاريخ لا تزال حاضرة بين جنباتها، ومع التوجه لإثراء ما يعرف بالسياحة الثقافية، أصبح من المهم البحث عن أفضل السبل والممارسات بهدف الاستثمار الأمثل لتلك المواقع، وهناك العديد من الدراسات التي تؤكد على أن هذا النوع من الاستثمار يمكن أن يحقق عوائد مجزية سواء من حيث الإنفاق المباشر، أو غير المباشر، لا سيما إيجاد فرص وظيفية، فضلًا عن العوائد الأخرى غير المباشرة لمختلف القطاعات.

وتتنوع المواقع التاريخية والثقافية في سلطنة عمان، وتتوزع في مختلف المحافظات والولايات العمانية، فهناك المواقع التاريخية الأثرية التي تعود إلى حقب الاستيطان الأولى التي يعود أقدمها في الغالب إلى فترة الألف الثالث قبل الميلاد وهناك مواقع القلاع والحصون، التي بنيت على فترات مختلفة بعضها يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، والفترة الإسلامية المبكرة والوسيطة، ومواقع الأفلاج، ونوع آخر مهم له خصوصيته التاريخية والمتمثل في الحارات العمانية التي تشكل البدايات الأولى للتمدن الحضري في عُمان.

ثم أن هناك عددا من المواقع التي تم تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، منها مواقع أثرية مثل مواقع بات والعين والخطم في محافظة الظاهرة، وموقع أرض اللبان الأثري في محافظة ظفار قلعة بهلا وخمسة من الأفلاج في محافظات: الداخلية وجنوب الباطنة، وجنوب الشرقية وفي ضوء ذلك يمكن القول «إن فرص الاستثمار في تلك سيكون لها أثر ملموس في استغلال الميزة النسبية لمختلف المحافظات والولايات، وحتى تحقق تلك المواقع العائد الاستثماري المأمول لا يكفي فقط القيام بعمليات الترميم، وإنما لا بد أن يتم تطويرها ودمجها وتكاملها مع متطلبات السياحة المعاصرة، ولعل تجربة الاستثمار السياحي في حارة العقر بجهود أهلية نموذج رائع للتجارب الناجحة في هذا المجال».

ويختتم الدكتور علي بن سعيد الريامي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس حديثه بالقول: من المهم الاستثمار في الصناعات الإبداعية، من خلال استغلال وتوظيف المعارف التاريخية والتراث الثقافي الشعبي، بل ومختلف مفردات التراث الثقافي المادي وغير المادي، وهذا توجه اقتصادي حديث وهو ما يعرف اليوم بالاقتصاد البرتقالي أو الاقتصاد البنفسجي، وهذه الأفكار الإبداعية قابلة للتنفيذ إذا ما توفرت الممكنات المادية والبشرية، ويمكن أن يقود الشباب المبدع هذه الثورة الحديثة بنظرة مستقبلية، وهذا بطبيعة الحال سيسهم في الحفاظ على استدامة ذلك التراث والحفاظ عليه والاستثمار فيه الاستفادة منه.

«التغييرات في الاقتصاد

والتكنولوجيا»

حول «التغييرات في الاقتصاد والتكنولوجيا» يقول الدكتور معمر بن علي التوبي الأكاديمي المتخصص في الذكاء الاصطناعي: يشهد العالم تغييرات في معظم جوانب قطاعات الحياة مثل الاقتصاد والصناعة والتعليم والنقل والمواصلات والاتصالات، وتفرعت هذه التغييرات لتصل إلى الإنسان والمجتمعات؛ لتشمل تغييرات في الأنماط الاجتماعية والثقافية.

سلطنة عُمان جزء من هذا العالم المتغير، وتظهر التحولات المصحوبة مع كل ثورة صناعية ورقمية بشكل جلي في مختلف مظاهر حياتنا؛ فنجد أثر ذلك في المستجدات التي طرأت على السمات الاجتماعية والمجتمعية وعلى النمط الثقافي العام، وعلى آلية عمل المؤسسات الحكومية والخاصة، تحدث التغييرات نتيجة المستجدات الرقمية والتقنية بشكل تلقائي حيث لا يمكن الوقوف أمامها لمنعها؛ فهي كالنهر يأخذ مساره الطبيعي، وهذا ما يصحب كل ثورة صناعية التي تشمل التطورات الرقمية والتقنية؛ فتفرض واقعها الذي يعكس جوهرها الخاص؛ فالثورة الصناعية الحالية -الرابعة- أحدثت نقلة نوعية في مجالات الاتصالات وتقنية المعلومات؛ فباتت وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها الكثيرة تحل محل العادات الاجتماعية التقليدية مثل الزيارات واللقاءات التي تزيد من ترابط أفراد المجتمع؛ فنجد أن التواصل الافتراضي فرض واقعا داخل المنظومة المجتمعية بل والاقتصادية والتعليمية؛ فأحدث تغييرا -يكبر شيئًا فشيئا- في كثير من المظاهر الاجتماعية.

ويضيف «التوبي»: من حيث الجانب الاقتصادي، أحدث النمو الرقمي والتقني في العالم عموما وسلطنة عُمان خصوصا نقلة اقتصادية فيما يخص التوجه الحكومي إلى الحكومة الإلكترونية «الرقمية» التي تعتمد التقنيات المتقدمة وسائل لتسيير معظم الأعمال والخدمات، وهنا بدأ العالم ينظر إلى الاقتصاد الرقمي ليكون بديلًا للاقتصاد التقليدي الذي يعتمد على الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز؛ فالاقتصاد الرقمي يعتمد سياسة تسخير التقنيات الرقمية لأجل النمو الاقتصادي مثل الاستثمار في البيانات الكبيرة وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تدخل في التحليل والحوسبة المتقدمة؛ إذ الاستثمار في مثل هذه التقنيات يضمن تحقق اقتصاد مستدام ومتنوع، ويسهم كذلك في تحسين الخدمات والإنتاجية ومضاعفة سرعتها وجودتها.

سيعيد هذا التحول من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي صياغة متطلبات سوق العمل ويشمل التخصصات التعليمية التي ستحتاج إلى تحديث يناسب هذا التحول الرقمي، وكذلك ستتركز الوظائف في سوق العمل في قطاعات التكنولوجيا.

سيفرض كذلك وجود هذه التقنيات المتقدمة تأثيره الإيجابي والسلبي في المجتمع عبر زيادة متوسط دخل الفرد بسبب النمو الاقتصادي وانتعاشه، وفي المقابل سيكون تأثيره السلبي على شكل المجتمعات بمكوناتها الثقافية والدينية والأخلاقية؛ إذ لا بد من ضريبة لوجود هذه النقلة الحضارية التي تعيد تشكيل المنظومة العقلية لدى الإنسان؛ فيتغير نمط تفكيره الذي سيكون مفتوحا على العالم الواسع بكل مظاهره الجيدة والسيئة؛ فالتأثير على القيم الأخلاقية أحد التحديات التي تهدد المجتمعات وتُنبي بتزعزعها وبناء الإنسان الهش الفاقد لقيمه الفاضلة، وهذا سيكون تأثيره -أكثر ما يكون- على أجيال حديثة أبصرت الحياة وهي في أعْتَى قوتها الرقمية.

سيتغير كذلك مفهوم الثقافة واكتساب المعرفة؛ حيث ستقل معدلات القراءة والبحث العلمي بسبب الاعتماد الكلي على الأنظمة الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي الذي يقود الإنسان إلى الخمول المعرفي، وهناك الكثير من الدراسات العلمية التي أقرت بمثل هذه المخاطر التي تؤثر على المخرجات التعليمية وجودتها.

ويؤكد الدكتور معمر بن علي التوبي الأكاديمي المتخصص في الذكاء الاصطناعي أن التوازن في استعمال هذه التقنيات المتقدمة مطلوب لأجل ضمان الاستدامة الاقتصادية وبناء المجتمعات المتقدمة، والتوازن المقصود هنا هو بين الاستغلال الأمثل لهذه التقنيات وبين حفظ القيمة الإنسانية حيث يكون استعمال هذه التقنيات عبر آلية تقلل التأثيرات السلبية التي تؤثر في المجتمعات والأفراد، ومن ضمن الإجراءات التي اتبعتها الصين -مؤخرا- هو تنظيمها لاستعمالات الأنظمة الرقمية للأفراد حسب الفئات العمرية وتحديدًا الأطفال والمراهقين؛ لضمان السلامة العقلية والنفسية والمستويات التعليمية؛ إذ أثر هذه التقنيات على المجتمعات والأفراد يمكن أن يؤثر على النظام الاقتصادي بشكل سلبي على المدى الطويل.

الخلاصة

في سياق هذا التحقيق الصحفي وما قدمه من نظرة شاملة على التغيرات التي شهدتها سلطنة عمان يشير المختصون إلى أن التحولات في القيم لا تزال غامضة وقد تكون غير ملموسة، ولكنها تؤثر بشكل واضح على السلوكيات والأخلاقيات في المجتمع، كما أشار إلى تقارب المذاهب الدينية وتراجع التوترات الدينية مع تركيز الأجيال الجديدة على قضايا وجودية أكبر، مؤكدين على التأثير المتنامي للعالم الخارجي على المعتقدات والقيم في المجتمع.

فيما دعوا إلى الهوية الوطنية ودورها الحيوي في تعريف القيم والأخلاق والعادات وأهمية الحفاظ على الهوية ومكوناتها وحمايتها من التأثيرات الخارجية، مثل العولمة، مؤكدين أهمية أن يكون لوسائل التواصل الاجتماعي دور في تعزيز الهوية الوطنية ونشر القيم والأخلاق، و أن الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية يظل أمرًا حاسمًا لتعزيز التفاهم والتواصل داخل المجتمع وفي التفاعل مع العالم الخارجي، فيما أشار البعض إلى أن التاريخ والتراث الثقافي لعمان يلعبان دورًا حيويًا في تعزيز الوعي الثقافي والهوية الوطنية، حيث يتيح التواصل مع الماضي للمجتمع فهمًا أعمق للقيم والمبادئ التي يستند إليها، فالتحولات الثقافية والتكنولوجية الحديثة تشكل تحديات، ولكنها تقدم أيضًا فرصًا لتنمية التراث الثقافي والاقتصاد المحلي، وهذا يتطلب توجيه الجهود نحو التوازن بين التقدم التقني والحفاظ على القيم والهوية، كما أن استخدام المعرفة التاريخية والتراث الثقافي بشكل إبداعي يمكن أن يسهم في تعزيز السياحة وتنمية الاقتصاد المحلي، وأن التعامل مع التحولات الثقافية والتكنولوجية يتطلب تكييف التعليم والتثقيف لمواكبة هذه التغيرات وضمان استمرارية الهوية الوطنية.