ثقافة

محمد خير: أعتبر الرواية بلدا غريبا وأنا أحد ضيوفه

26 مايو 2023
كان يتهيَّب أن يُطلق على نفسه لقب "شاعر":
26 مايو 2023

أتحايل على الشعر بكتابة الأغنية ولديَّ ديوان بالعامية لم أجرؤ على نشره

القصة القصيرة هي الفن المفضل الذي أحب أن أقرأه وأكتبه

الفوز بجائزة دائما خبر جيد.. لكن الجوائز كذلك مليئة بالفخاخ

لا تستطيع الكتابة عن الطفولة دون أن تطارد البراءة أو تطاردك هي

بحر الإسكندرية أثّر فيَّ كثيرا لذلك تجده حاضرا في معظم كتبي

أستبعد الكثير من النصوص قبل النشر ونادرا ما أسمّي الأماكن

لا أؤمن بوضع تصور سابق للمجموعات القصصية أو الشعرية قبل كتابتها

الكتابة كلما كانت صادقة عبَّرت عن مراحل في حياة صاحبها

الأدب والفن ينشآن من العلاقات المبتورة لا المكتملة

يعد الكاتب المصري محمد خير واحدا من قلائل يجمعون بين كتابة الشعر والقصة والرواية، لكنه يعتبر نفسه دائما ضيفا على الرواية، ويقرر كلما كتب واحدة أن تكون الأخيرة له، غير أنَّ نداءً غامضا يأتيه بعد فترة بأن عليه العودة إليها فيعود، كما جرَّب كتابة الأغنية ونجح فيها.

أصدر محمد خير عددا من الأعمال في كل الأنواع الأدبية آخرها مجموعته القصصية «تمشية قصيرة مع لولو» التي تمتاز كعادة كتابته بالبدء بتفاصيل واقعية ثم الانعطاف بها قليلًا إلى نوع من العبث أو الكافكاوية. في هذا الحوار ننطلق مع محمد خير من هذه القصص ثم نحاول معرفة ما يدور في رأسه عن أمور كثيرة تتعلق بالكتابة، كالجوائز والسفر والترجمة وغيرها.

في قصة «مفقود» من مجموعتك الجديدة «تمشية قصيرة مع لولو» طفل يصدق أن هناك علاقة بين الأم والعصفور، وفي قصة «مزحة» تغضب الفتاة بسبب سخرية أبيها وأصدقائه من أمور مقدَّسة بالنسبة لها، وفي قصة «تمشية قصية مع لولو» نتعرف على الطريقة التي تفكر بها الطفلة في القطط، كما نتعرف على العلاقة بينها وبين أبيها.. هل هناك نوع من مطاردة البراءة في المجموعة؟

لا أعتقد أنك تستطيع الكتابة عن الطفولة من دون أن تطارد البراءة أو تطاردك هي. والبراءة لا علاقة لها بالطيبة أو الخير والشر، إنها تمثل فحسب «النظرة البكر» إلى العالم، وهي أهم ما يميز الطفولة. الطفل لا يدرك مفهوم المجاز بعد، ولم يتعلم القوانين الصارمة للحياة. لذا فهو يكلم القطط وينتظر أن تكلمه. ويسائل العصافير ويؤمن بأنها ستدله على الإجابات. والفتاة في قصة «مزحة» كانت على أعتاب مرحلة أخرى من مراحل الطفولة، مرحلة إدراك أن أباها إنسان، لا قداسة له، ويمكنه أن يرتكب ببساطة ما تعتبره هي شيئًا فظيعًا. على الحدود بين هذا العالم «البريء» الذي يسكنه الأطفال والصغار في تلك القصص، والعالم الواقعي في الخارج. يحدث التلامس الذي يولد الشحنة وينشئ الدراما، وربما أيضا يذكرنا بتلك اللحظات من طفولتنا الخاصة، اللحظات التي اكتشفنا فيها أننا نكبر وأن العالم ليس كما كنا نعتقده.

لماذا كانت هناك هيمنة للمدينة الساحلية على المجموعة؟ ولماذا كان استدعاء القاهرة ينحصر في مناطق معينة مثل شبرا؟ هل أردت أن يعبِّر اختيار المكان عن شيء ما في القصص؟

البحر مهرب للجميع فيما أظن. لقد شاءت الظروف أن أنشأ خلال الطفولة في مدينة عربية مغلقة بلا سواحل فكنت أحلم كثيرًا بالبحر. ثم شاءت الظروف أن ألتحق بالجامعة في الإسكندرية وكانت تلك فترة مهمة وملهمة في حياتي لأسباب عديدة تزيد حتى عن الأهمية الطبيعية لدخول أي طالب إلى العالم الجامعي الواسع. أعتقد أن ذلك البحر، بحر الإسكندرية في النصف الثاني من التسعينيات، قد أثّر فيَّ كثيرًا ولا يزال، وهو موجود في معظم كتبي، السردية منها والشعرية، من دون أن أسميه لكني أعنيه دائمًا. بشكل عام نادرًا ما أعيّن الأماكن بأسمائها. وربما تحددت «شبرا» في القصص هذه المرة لما تمنحه من دلالة لشخصيات معينة داخل القصص، كالرجل الكهل في قصة «خصلة» الذي يتذكر أيامه البعيدة في المدرسة الابتدائية. لقد شاءت ظروفي أيضا أن أقيم في شبرا لفترة محدودة للغاية في حياتي لم تزد عن عدة أشهر، لكنها - للمصادفة - كانت أيضًا فترة غنية بالأحداث والبشر. ربما كان لاستدعاء شبرا أسبابا أخرى كذلك، وهي أنها حتى الآن تبدو الأقل تغيرًا في مدينة تتغير معالمها بسرعة.

لماذا كررت قصة الأم التي تعيش في السماء (قصتا: مفقود، ومزحة) وما الفارق في وجهة نظرك بين الأب في نفس القصتين وقصة «تمشية قصيرة مع لولو»؟

ربما كان لتجربتي الذاتية الأثر في ذلك، فقد فقدت أمي أثناء طفولتي، وبالطبع فإن هذا - للأسف - حال الكثيرين. كان أبي الراحل يقول لنا إن «اليتم يُتم الأم». رغم تحمله مسؤوليتنا بعد رحيلها لكنه كان يرى أن خسارة الأم هي اليتم الحقيقي. بعد هذه السنوات لا أعتقد أن فقدان أحد الأبوين أقل أو أشد أثرًا من فقدان الآخر، ربما كان أبي متواضعًا في ذلك أو متعاطفًا معنا. على أي حال فإن الأم في «مفقود» تختلف عن الأم في «مزحة»، الأم الأولى يفقدها ولد صغير تختلف علاقته بأمه عن علاقة الفتاة المراهقة في القصة الأخرى. لكل منهما احتياجات مختلفة سواء على مستوى العمر أو مستوى النوع لذا فنحن بالتالي أمام تجسُّدين مختلفين من الأمهات.

أعتقد أن كلا من الأب في «مفقود» والأب في «مزحة» معزول بشكل ما عن طفله/ طفلته. الأب في «مفقود» معزول لا يزال تحت صدمة الحزن وحداثة الفقد. بينما الأب في «مزحة» معزول على مستويات أخرى، يكاد يكون غريبًا عن ابنته المراهقة، وهو ينشئ لنفسه فقاعة وسط أصحابه ينعزل فيها معنويًا وحرفيًا عن البيت والبنت وعن أحزانه.

ربما هذا هو الفارق بين كليهما «الأب في مفقود والأب في مزحة» وبين الأب في «تمشية قصيرة مع لولو»، في «لولو» الأب أكثر اتصالًا بطفلته، يحاول أن يسعدها ويشاركها لحظاتها، لكن المشكلة هنا ليست مأساة عائلية كما هو الحال في القصص الأخرى، وإنما عزلة مجتمعية منشؤها شراسة أو كآبة الشارع.

حينما خرجت إلى أوروبا لم تسِّم المدينة ولا الميدان.. لماذا؟

نادرا ما أسمّي الأماكن بصفة عامة، وأميل عادة إلى التجريد، وبصفة خاصة في قصة «تذكار»، التي يتجول فيها الراوي في مدينة أوروبية لم يكن هناك داع إلى تسمية المكان لأنه يشبه أي أو كل ميدان أوروبي تقريبًا، بل يكاد يشبه حتى صورتنا المسبقة عن الميدان الأوروبي، الواسع النظيف الأخضر الشتوي، السياح والحمام والرسامون في الأركان. لكن الراوي هنا يكتشف تحت هذا المظهر الجميل قشرة من الخشونة وآلامًا حقيقية. حتى ليعتقد أن الآلام تكاد تكون نفسها في كل مكان، وهذا سبب آخر لعدم تسمية المدينة أو الميدان.

في «المرة الثانية» وهي واحدة من أجمل قصص المجموعة يرى البطل كيف يموت اسمه القديم «بدر الغالي».. هل يمكن أن يصل الواقع إلى حدود العبث الكافكاوي؟

وهل العبث الكافكاوي إلا مجاز فني عن الواقع الذي نعيشه؟ أليست حشرة كافكا «جريجور سامسا» هي الإنسان العادي، الغبار البشري، وقد توحد في لحظة مع صورته المجازية، صورة الكائن الذي يعيش في الشقوق ويأكل القمامة ويفقد الآخرون اهتمامهم به بالتدريج. أليست «محاكمة» كافكا هي متاهة الدولة الحديثة التي يتخبط الإنسان في دهاليزها وقوانينها ومتاهاتها البيروقراطية حتى يفقد نفسه وينفذ أحكامًا لم يسمع أحد دفاعه فيها.

يغني بدر الغالي أغنيته لجمهور يتذكر الأغنية ولا يتذكر الإنسان. إن أغنيته أبقى منه ولكن حتى هذا «الإنجاز» الفني هو إنجاز مؤقت مرهون بجيل محدد من الناس وسوف ينتهي معهم حين ينتهون. ألسنا كلنا «تقريبًا» كذلك طال الوقت أو قصر، بعضنا سيعيش أطول من الآخرين، ماديًا أو معنويًا، لكن الزمن سيلتهمنا جميعًا في النهاية تمامًا كما سيلتهم الكون نجمتنا الشمس في أحد الأيام.

بمناسبة «العبث».. هل قصة «الساعة» بعكس معظم قصص المجموعة ليست واقعية؟ حيث يسأل بطلُها العابرين عن الساعة مرارًا وتكرارًا ثم يختفي تمامًا حين يخبره أحدهم بأنها «6 ونصف وخمس دقائق»؟

ربما كان سؤال الساعة هو سبب الإيحاء بأن القصة غير واقعية أكثر من بقية القصص، لكنها مثل البقية، حكاية يتناصفها الواقع والخيال، الشخصية في القصة شخصية واقعية شهدتها في حياتي، وكان حقًا تحت شباكي كل يوم لفترة طويلة، وكان له ذات القامة الهائلة و «البيجامة» الطفولية واللطف مع الناس رغم المظهر العملاق. لكن سؤال الساعة ذاك هو من الخيال فحسب. واختفاء الشخص أيضا هو حدث من الخيال، فما حدث في الواقع هو العكس، أنا الذي انتقلت من المكان. ولكن أنت تعرف بالطبع كيف يعمل الأدب، وكيف تتداعى الأفكار إلى الذهن أثناء الكتابة من دون أن تفهم من أين جاءت وكيف.

ولكن القصة ليست أكثر خيالًا (لو جاز التعبير) من بقية القصص، كل قصص المجموعة منسوجة من خيوط الخيال مهما كان لها من أصول واقعية، باستثناء قصة أو اثنتين على الأكثر.

في قصة «شِبر» يغرق الرياضي في منطقة قريبة من الشاطئ، وتتندر عليه الصحافة بأنه «غرق في شبر ميَّة»، ما علاقة كل ذلك بهجرة البطل للشعر في النهاية؟

العلاقة هي أن تعبير «غرق في شبر مية» هو مجاز في النهاية، وكان يفترض به، كشاعر، أن يميز ذلك المجاز، سواء فيما يشير إليه ذلك المجاز من وصف للحادثة، أو حتى للسخرية الكامنة فيه كما حدثته هواجسه بذلك. وهو بذلك، بالتأخر في فهم ذلك المجاز، يتأكد أنه في سبيله إلى هجر الشعر، ويفقد إحساسه بعناصر الشعر كما فقد صديقه. فقد الصديق هنا، هو مجاز آخر، عن فقد صديقه الأقرب، أي كتابة الشعر. القصة إذن كما ترى عبارة عن عدد من المجازات المتداخلة، يتداخل فيها فقد الصداقة، والماضي في الحي الشعبي، وأحلام الطفولة، بفقد الراوي لهويته الأصلية.

بعض القصص فيها إحساس بأن الراحلين يستطيعون التواصل معنا أو تسيير حياتنا أو التحكم في مصائرنا أو تنبيهنا إلى ضرورة الابتعاد عما يمكن أن يؤذينا مثلما حدث في قصة «رسائل».. لماذا أعطت القصة إحساسًا بأن الأمر - اتصال الأموات بالأحياء - واقعي، ولم تقف عند مستوى التشكك في الأمر؟

أنت تقول إن القصة «أعطت إحساسًا» وأنا أتفق معك في هذه الحدود، فالقصص تتحدث بلسان أو أحاسيس أبطالها وشخصياتها لكنها لا تقول إن ذلك الاتصال ممكن فعلًا. بطل قصة «رسائل» يعتقد أن أباه الراحل خاطبه من خلال أشخاص آخرين، هذا إيمانه الخاص لكنه بالطبع لا يعني أن تلك هي الحقيقة، وإنما هي حقيقة ما يعتقده، وما يتمناه من تواصل في المستقبل مع أبنائه بعد رحيله. هذا في رأيي هو ما يطمح إليه الصدق الفني، أن تجعلك القصة تعيش دواخل شخصياتها حتى تكاد تعتقد ما تعتقده، ما عدا بالطبع إذا أراد الكاتب العكس، فنحن نعرف أن الطفل في قصة «مفقود» مثلًا يعتقد أن العصفور يكلم أمه لكننا نعرف يقينًا أن ذلك ليس صحيحًا.

يعاني أبطال معظم القصص من الحياة منفردين أو في نطاق معارف محدودين.. هل كان في ذهنك تصور ما للمجموعة قبل أن تشرع في كتابتها؟

لا لم يكن لديَّ تصور محدد قبل كتابة المجموعة، ولا أؤمن بأن المجموعات القصصية أو الشعرية ينبغي أن تكتب بهذه الطريقة، أي أن يكون لديك تصور مسبق عنها قبل أن تشرع في كتابتها. فهذا يحولها من أدب إلى محض مشروع. ولكن اعتقادي أن الكتابة كلما كانت صادقة عبرت عن مراحل في حياة صاحبها بصفة مباشرة أو غير مباشرة. ولهذا فإن المجموعة القصصية أو الشعرية تكتسب هذا الملمح العام المشترك، لا لأنه كان هناك تصور مسبق قبل كتابتها، بل للحالة العامة التي كانت تعتري الكاتب في مرحلة كتابتها. لكن هذا ليس كل شيء، فأنا أيضا كثير الاستبعاد، أستبعد الكثير من النصوص قبل النشر، كما أنني أؤمن بالوحدة الموضوعية للكتب. لهذا يحدث أن أستبعد النصوص التي أشعر أنها لا تتفق وروح الكتاب، والتي سوف تبدو نافرة، أو كالنغمة النشاز حين تُنشر مع بقية النصوص، وهذا يساعد في منح انطباع أن للمجموعة جسد واضح محدد.

ولماذا لا تكتمل معظم العلاقات في النهاية كما حدث بين البطل والفتاة المختمرة في قصة «دموع واسعة»؟

أعتقد أن اكتمال العلاقات هو دائمًا الاستثناء وليس الأصل، كما أن الأدب والفن ينشآن من العلاقات المبتورة لا المكتملة، تمامًا كما ينشآن من الأحزان والآلام المجهضة والأحلام المهدورة، من طموحات الإنسان التي لم تتحقق فيلجأ إلى تحقيقها في عالم الفن.

وفيما يخص قصة «دموع واسعة» كانت الهوة واسعة بين الشخصيتين، أحد عناصرها أن الفتاة تكبره بعقد كامل، كما أنه كان شابًا متخرجًا جديدًا تنتظره كثير من التجارب والمغامرات، بينما الفتاة «المختمرة» على العكس من ذلك، فتاة مستقرة تعرف ما تريد.

أيها أقرب إليك.. الشعر أم القصة أم الرواية؟

سؤال صعب، لكني سريعا سأضع الرواية بعيدًا، رغم خبراتي فيها لا زلت أعتبرها بلدًا غريبًا وأنا أحد ضيوفه. يمكنك القول أننا لو تكلمنا عن القراءة فإن القصة القصيرة هي الفن المفضل الذي أحب أن أقرأه، لقد امتلأت مكتبتي دائمًا بالمجموعات القصصية من مختلف بلدان العالم، وأستمتع كثيرًا بكتابتها، بتسطير تلك الصفحات القليلة التي تكشف لك قبل أن تكشف للقارئ، عن عالم كامل كان مختبئًا داخلك قبل دقائق.

انتظرت للنهاية قبل الحديث عن الشعر لأن له وضعه الخاص لديَّ، كان داخلي دائمًا شعوران متناقضان بخصوص الشعر. فقد بدأت به، بكتابته ونشره، بالعامية والفصحى، بالنثر والقصيدة الحرة، وكتابة الأغنية بمختلف أنواعها. رغم كل ذلك كنت أتهيب أن أطلق على نفسي وصف شاعر، فكنت أقول إنني «أكتب الشعر». ثم في السنوات الأخيرة، بعد أن أصدرت العديد من الكتب السردية، صرت أذكّر بعض الناس بأنني شاعر في الأصل، أقصد الناس الذي لم يعرفوني إلا ساردًا، أذكرهم وأذكر نفسي، وأتحايل على الشعر، ولو عبر أقصر طرقه، أقصد كتابة الأغنية، التي تُشبع داخلي الطاقة الشعرية والكتابة التفعيلية الموزونة أيضًا. في خيالي وخاطري ديوان جديد، ولديّ ديوان ثالث بالعامية لم أتجرأ على نشره منذ سنوات، ومؤخرا نشرت ديوان الأطفال «أنا أعرف». وكلما قررت التفرغ من جديد للشعر أجد أنني لم أفرغ بعد من أفكار السرد، وفي أحيان أخرى أعزي نفسي بأنك لا تتفرغ للشعر بل هو من يتفرغ لك حين يشاء ويحين الوقت.

نجحت روايتك «إفلات الأصابع» نقديًا وتُرجمت إلى الإنجليزية.. لماذا لم يغرك نجاحها بإصدار رواية بعدها؟

بشكل عام لا أفكر بهذه الطريقة، فمسألة «النجاح» لها معاييرها الأدبية قبل معايير التوزيع والنقد والترجمة والجوائز، ومعيارها الأول أن يكون هناك كتاب أشعر أنني أريد كتابته، موضوع يملأني حتى أشعر أنني أريد أن أسكبه كتابة، رواية أشعر أنها موجودة في مكان ما تنتظر كتابتها، هكذا لا أذكر أنني نشرت كتابين متتاليين من نفس النوع الأدبي، مثلًا بعد مجموعتي القصصية الأولى «عفاريت الراديو» نشرت ديوانًا أول بالفصحى هو «هدايا الوحدة»، ورغم نجاحه بالمعيار النقدي وبالتوزيع نشرت رواية «سماء أقرب»، بعدها نشرت مجموعة قصصية «رمش العين» ثم ديوان شعر مجددًا «العادات السيئة للماضي» وهكذا. للنجاح والفشل قصة أخرى ومسار مستقل نحن ككتاب لا نستطيع التدخل فيه وليس علينا أن ننشغل به لأنه انشغال بلا جدوى، النجاح الحقيقي يحدده الزمن ونحن لسنا الزمن.

كيف تنظر إلى الجوائز بشكل عام وأنت حصلت على عدد منها؟

الفوز بجائزة دائمًا خبر جيد، أن يحصل ذلك في بداياتك الإبداعية فهو يلفت الأنظار إليك، وأن يحصل بعد ذلك فهو يمثل دفعة مادية تعين الكاتب على حياة الأدب الصعبة، كما أنها تساعد في إبقائه داخل المسار.. لكنها، رغم كل ذلك مليئة بالفخاخ، ويمكنها أن تضر بالكاتب إذا انشغل بها أكثر من اللازم، ليس فقط لأنها قد تتدخل تدخلًا غير صحي في إبداعه، وتدفعه لا شعوريًا إلى يلبي طموحاتها هي بدلًا من طموحاته. ولكن أيضًا لأنها قد تسبب الاكتئاب ككل شيء يطمح إليه الإنسان من دون قدرة على التحكم فيه. إن التفرغ أكبر وقت ممكن للإبداع هو تحد كاف، وكفى بالكاتب أن يلتزم ويطور نفسه، من دون الانشغال بثمرات قد يتحكم فيها ألف عامل مختلف. هذا كلام أقوله للكتّاب وأقوله لنفسي قبلهم، فهو كلام من السهل أن يُنسى وسط صعوبات الحياة.

حصلت على منحة «آيوا» بأمريكا وشاركت كتَّابًا من جنسيات مختلفة الحياة لمدة ثلاثة أشهر.. كيف أفادك ذلك؟

أما عن «الفائدة» فلا أستطيع أن أحدد أبعادها الآن فقد عدت لتوّي من هناك، لكني أعرف أنها تجربة ليست كغيرها وأن هذا سوف يكون له بالتأكيد كبير الأثر على كتابتي، أن تقيم لهذه الفترة غير القصيرة بشكل لصيق مع عدد كبير من المبدعين الموهوبين من أنحاء العالم فهذا أمر كبير، وأن يكون ذلك في بلد آخر في ظل ثقافة مختلفة، فهذا أيضًا أمر مهم. دمج الأمرين معًا له أثر كبير بلا شك، كبير لدرجة لا أستطيع أن ألمّ بها الآن.

ما الأصوات الأقرب إلى قلبك من جيلك ولماذا؟

هذا سؤال صعب دائمًا ليس فقط لصعوبة تحديد ما هو الأقرب إلى قلبي، ولكن كذلك تحديد «ما هو جيلي». فأنا وإن كنت أُعدُّ من كتاب جيل الألفية (نشرت ديواني الأول ليل خارجي سنة 2002) إلا أنني اعتقدت دائما أنني أنتمي «جماليًا» إلى جيل التسعينيات، إلى جماليات جيل ياسر عبد اللطيف وإيمان مرسال ومجدي الجابري وعماد أبو صالح وصادق شرشر(لاحظ أن معظمهم أو كلهم شعراء). فإن أردت تحديد جيلي، وإن أردت اختيار أصوات على سبيل المثال لا الحصر، فيمكن القول إن منهم أصوات محمد عبد النبي، وعبد الرحيم يوسف وإيهاب عبد الحميد والطاهر شرقاوي ومحمد أبوزيد وغادة خليفة ورنا التونسي. أود أيضًا الإشارة إلى أحمد عبد الجبار وهو صوت شعري جميل لكن صاحبه خجول.

ما العمل الذي تكتبه حاليًا؟

أعيش لحظة مفترق طرق بين عدد من الأعمال، بين السرد والشعر. لكن العمل الأكثر جدية في العمل عليه حاليًا هو مشروع رواية جديدة، يُفترض أن تكون العمل الثالث لي في هذا النوع الأدبي، في كل مرة أنتهي من رواية جديدة أتعهد لنفسي، وأحيانا للآخرين، أنها المرة الأخيرة، لما في الفن الروائي من جهد عقلي وجسدي، لكن ما إن تمر عدة سنوات، حتى أسمع النداء مجددا قادما من لا مكان، أو أحيانا من كل مكان، فلا يسعني إلا أن أنصاع للنداء.