No Image
ثقافة

ما الذي يوقف استمرارهم في الكتابة ؟!

12 نوفمبر 2023
بين المؤقت والأبدي والاختياري والقسري
12 نوفمبر 2023

توقف فجائي، سكتة أدبية، وقفلة الكاتب وحبسته، ونعوت كثيرة وصف بها فعل التوقف عن الكتابة، لكن ما الذي يمكن أن يوقف الاستمرار في الكتابة لدى كاتب ما؟ وهل هو توقف مؤقت أم متقطع؟ وهل يمكن أن يكون نهائيا؟ وهل يمكن عده هربا مثلا؟ ماذا إذا كان اختياريا أو قسريا أو حتى استراحة؟ وماذا يحدث بعده؟ هل تنصاع الكلمات كما كانت تفعل أم يغدو الأمر صعبا؟ سؤال طرحناه على مجموعة من الكتاب فأثاروا أسئلة أخرى كثيرة تحمل إجاباتها السطور القادمة.

ما الذي يمكن أن يوقف استمراري في الكتابة؟! سؤال عدّه الكاتب محمد الشحري وهو سؤال مهمّ جدا بل فلسفي أيضا، وقال: لم يخطر على بالي أن فكرت يوما في التوقف عن الكتابة منذ أن وجدتها طريقة للتعبير عني شخصًا ونصًا.. فالكتابة ليست نشاطا يمكن ممارسته والتوقف عنه، بل هي أعمق من ذلك على الأقل بالنسبة لمن يجدون في الكتابة حياة، لا ادعاء أو تزلفا أو استجداء للوجاهة.. إذا أعدت التفكير مرة أخرى في السؤال. فسأجيب. سأتوقف عن الكتابة حينما تنعدم الحاجة إلى الكتابة كوسيلة تعبير اخترعها الإنسان لتسجيل حقه أولًا وحفظ ودائعه، هكذا بدأت الحاجة إلى الكتابة في وادي الرافدين. وسأتوقف عن الكتابة حينما ينتفي وينتهي وجود الإنسان في الكوكب، هل يفهم من ذلك أن الكتابة نشاط بشري بامتياز؟! نعم هي كذلك فعلًا وقولا، وهي أجمل ما توصل إليه العقل البشري، فلولا الكتابة لما تطور الذهن واخترع وآمن وأبدع. سأتوقف عن الكتابة حينما يتوقف ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ويمتنع عن الاعتداء على الطبيعة والميثولوجيا القديمة، سأتوقف عن الكتابة حين يسود العدل في الكون، سأتوقف عن الكتابة إذا توقف القلب عن الاشتياق والنفس إلى الخلود والروح إلى الاستكانة، فقط سأتوقف عن الكتابة إذا فقدت الذاكرة والحنين.

البعد الجغرافي سببٌ أيضا

رأى الكاتب سعيد الحاتمي أن السبب -ببساطة- وصول المرء في مراحل معينة إلى فقدان ذلك الدفق الفياض من دوافع الكتابة، وأضاف: غالبا ما تكون هذه الحالة مؤقتة أو متذبذبة وأحيانا تكون نهائية تمامًا وتقضي على الكاتب.. شخصيا يرافقني النوع المتذبذب وأكاد أستطيع تحديد السبب المفهوم للأمر مع عدم إغفال أن هناك سببًا آخر غير مفهوم للتوقف عن الكتابة يرافق أغلب الكتاب.. أما ما أفهمه بالنسبة لي فهو أنني رجل كسول في أغلب مفاصل الحياة وأستمتع دائما بالركون إلى حالات السكون والاسترخاء وعدم فعل الأشياء التي يتوجب عليّ القيام بها ومن ضمنها فعل الكتابة، أضف إلى ذلك هو وقوع الكتابة في دائرة الأفعال الاختيارية التي يتساوى فيها فعل الشيء وعدم فعله. فحين ينعدم الدافع والحافز الخارجي أو ما نسميه بالالتزام يصبح التعويل على الحالة المزاجية نتيجته غير مضمونة، وأقصد هنا بالدافع الخارجي وجود التزام ما (استكتاب أو نحوه) بين الكاتب وجهة أخرى.. وهذا سبب رئيس علاوة على ذلك الشعور المزعج بعدم وجود القيمة أو الشعور بالتميز الذي تمنحه الكتابة.. ففي السابق كانت الكتابة فعلًا رصينًا وحقيقيًا تضفي على الكاتب قيمته الرمزية ويشعر من خلالها بتفرده، بينما أصبحت الكتابة الآن وتحديدًا السرد حرفة من لا حرفة له، فيكفي أن أذهب إلى مكتبة في المدينة وأشاهد العشرات من الروايات والمجموعات القصصية التي يصدرها طلبة المدارس والكليات والتي تكون في غالبها متدنية المستوى والتي تتكاثر وتتناسل بشكل لا يمكن استيعابه، كل ذلك يكفي أن يجعلك تعيد التفكير في جدوى الكتابة وقيمتها.. قبل يومين فقط أحصيت حوالي خمسين رواية ومجموعة عمانية صدرت خلال عام لكتّاب لم يسمع بهم أحد من قبل لم ينشروا من قبل حتى نصا قصصيا في جريدة.. وما يزيد الأمر تعقيدًا أنهم ومن خلال مهارات التسويق المتوفرة على وسائل التواصل استطاعوا الترويج لأنفسهم كونهم كتّابا وروائيين وصاروا يذيلون أسماءهم بألقاب الكاتب والروائي. وأتساءل: «هل يمكن أن يجعلنا أمر كهذا ننظر إلى الكتابة على أنها فعل نخبوي؟!». وتابع قائلا: هناك أمر آخر أعزو إليه سبب الخفوت الذي يصاحب الكثير من الكتاب وأنا أولهم وهو ذلك البعد الجغرافي عن ما يمكن اعتباره المركز في عمان.. هذه العزلة تمنع الكاتب من الالتقاء بأصدقائه الكتّاب وعجزه عن حضور الفعاليات الثقافية وحرمانه من الوجود في الجلسات واللقاءات بين الكتاب الأمر الذي يجعل جذوة الكتابة تخفت شيئا فشيئا.

«لربما كان عزوفنا هروبًا»

تقول الكاتبة عبير الكلبانية التي تكتب غالبًا للأطفال: هذا العالم بكنوزه وأخباره يقع على الضفة الأخرى البعيدة من تفاصيل أيامي العملية الطويلة، يحدث أن أضل طريقي للجسر بينهما، لا أقول: إنني أفتقد الإلهام للكتابة فهو حاضر بمدده، بل ويحدث أن ينهمر بقوة أكبر في الأيام كثيفة العمل، فتتبعثر أفكار القصص الجديدة على طاولة العمل وبين تقاريره بعيون فضولية صغيرة في كل مكان، إلا أن أدوات هذا النوع من الكتابة تتطلب نوعًا من الانضباط بطقوسها وتهيئة ظروفها، والوصول المستمر الملتزم لجمهورها، وهذا ما أفقده غالب الوقت ورغم أن بيئة جميلة تنمو باطراد منعش لهذا النوع من الكتابة حولي، إلا أنني أفتقد كذلك الوصول لفعالياته وأنشطته التي يمكن فيها الاجتماع بالكتّاب الآخرين وتبادل الإلهامات وبعث الدوافع للكتابة، وقد يكون سؤال كهذا الذي أضطر لإجابته اليوم دافعًا جميلًا لنبدأ شيئًا لطيفًا ومهمًا كهذا لأن الكاتب بحاجة لما يتجاوز -في أحيان كثيرة- مخيلته ومحصوله اللغوي وقلمه في الواقع، يحرّك هذا السؤال أكثر بكثير من الإجابات التي أجد نفسي منساقةً لكتابتها، ويبعث داخلي تساؤلًا جديدًا، هل كان من المفترض والمتوقع مني أن أستمر في الكتابة؟، وهل يدين الكاتب بهذا حقًا للعالم؟ إن كانت الإجابة هي نعم! فسيكون أمامي الكثير من العمل حقًا!، كما أن هذا السؤال يبعث حنينًا من نوع مختلف وخاص، لربما كان عزوفنا هروبًا أيضًا، مما يقتحمه فعل الكتابة من عوالم فينا، نجد أنفسنا بحاجة إلا غض الطرف عنها بينما نخوض في الواقع المنطقي الجاد والمترفع عن سحر الأدب ورقته.

ثلاثية التوقف

عدّد الكاتب خليفة العبري ثلاثة أسباب تجعله يتوقف عن الاستمرار في الكتابة، قائلا: المكوث في المكان الواحد دون سفر وترحال والتوقف عن القراءة وعدم الاستماع للموسيقى ثلاثية حينما تحدث في حياتي ستوقفني عن الكتابة، إنها دوافع محفزة باعثة بالمشاعر المتوارية تحت الرماد، تنبت الفكرة أثناءها وتتبرعم حتى تصبح نصًا، والدليل على ذلك أن كل ما أكتبه دون هذه المؤثرات الثلاثة يصبح غير مُرضٍ ويعاني من ولادة قيصرية تعرض حياة النص للموت.

طبعًا عرفت الكثير من الكتاب من جيلنا أو قبله بعضهم له إصدار أو إصداران توقفوا تماما عن الكتابة لسبب وحيد كما يقولون «مشاغلهم الحياتية» وهو السبب ذاته الذي يبرر به توقف أقلام مبدعة عرفناها أيام دراستهم الجامعية لكن بمجرد خروجهم من الجامعة اختفوا تمامًا وكأنهم لم يكن لهم علاقة بالكتابة سردًا أو شعرًا.

قرأنا أيضا عن كتّاب كبار حدث عندهم ما عرفوه بـ(قفلة الكاتب) وهي فترة مؤقتة كما حدثت لسنوات مع الروائي الراحل نجيب محفوظ بعد إنجازه للثلاثية حيث توقف عن الكتابة لسنوات لكنه عاد بعدها أكثر غزارة.

يجب أن أعترف أيضًا بأن الخطورة التي يواجهها إنتاجي الأدبي هو الاكتفاء بالنصوص القصيرة التي أنشرها على حساباتي بوسائل التواصل الاجتماعي مرد ذلك سهولة النشر ونفث ما في الصدر من ثقل التأثر التي لا يتحمل قلب الكاتب الاحتفاظ بها حتى اكتمال الفكرة..!

استراحة المحارب

تقول الكاتبة زوينة الكلبانية: نعلم جيدًا أن الكتابة عمرها الزمني مفتوح المدى، ومَنْ تجذَّرت في أعماقه لا يقوى على إخماد جذوتها مهما استهلكت أعصابه وأخذت من روحه وصحته وجهده -للكتابة سطوتها رغم العناء- قد يتوقف الكاتب فترة زمنية تطول أو تقصر وذلك لأسباب اختيارية وأحيانًا قهرية لكن لا يلبث أن يعود إليها أكثر ضراوة وشراسة عن ذي قبل؛ إنه توقف آنيٌّ لا اعتزال أبدي.

وأضافت: بالنسبة لي التوقف المؤقت أشبه ما يكون بالمتلازمة ينتابني بعد إصدار كل عمل جديد ولكنه توقف بمحض إرادتي، ربما توق للانغماس في تفاصيل الحياة: السفر وممارسة الهوايات الأخرى، وإعادة ترتيب الأولويات التي ركنتها على الرف بعد الانقطاع الطويل حيث العزلة القصية أثناء الكتابة السردية، يمكن أن تسميه استراحة المحارب حتى أستجمع قواي وأعود إلى الانغماس والاحتراق والذوبان من جديد غير مبالية بتسويف الوقت متعمدة الإفلات الجاد من وطأة الكتابة مكتفية بتدوين بعض الأفكار التي تأتي عرضًا لأعمال ومشروعات تختمر في الذهن لا أدري أيهما سيتشكل ويرى النور قبل الآخر، إيمانًا مني بأن هذه الهدنة الطويلة أوالتريث الكتابي له جوانبه المحمودة أي يحمي الكاتب من الوقوع في فخ التكرار، وفرصة للتحرر من ثقل العمل السابق وحمولاته، ومساحة كافية للقراءة المعمقة والتأمل وترويض الأفكار الجامحة، حتى نصل إلى الصفاء الذهني المنشود حيث العودة إلى الكتابة بلا مشتتات، نحمد الله أنَّ ثمة حرية زمنية ممتدة لا توجد هناك قاعدة ثابتة أو معيار زمني محدد يحكم بين إصدار أي كتاب وما يليه..

ممارسة نرجسية

رأت الكاتبة رحمة المغيزوية أن الكتابة في حقيقتها الصرفة ممارسة نرجسية ذات طابع تفردي مبهم وخفي، وأنها امتلاك الروح والوجدان معًا.

وأضافت: عندما يقوم الممارس بفعل الكتابة تنشطر ذاته إلى شطرين غير متكافئين ولا ريب أن الكفة الرابحة تكون لذلك الفعل الممارس (الكتابة) بينما لا يمتلك الكاتب إلا تلك النشوة اللحظية التي تشعره بأنه امتلك شيئا من حقائق العالم الخفية من حوله؛ لذا عندما نطرح سؤالا كالسؤال السابق لن نجد إجابة ملموسة أو كلمات نستطيع أن نحصرها في مكان واحد وذلك لأن فعل الكتابة إذا اتحد مع الكاتب نفسه أوجد مخلوقًا ثالثًا نزقًا وهلاميًا ليست له صلة بالمخلوقين السابقين (الكاتب والكتابة).

وتابعت قائلة: كنا نجد أن هنالك تشعبا في الرد ربما لا يكون في صدارتها تقلبات مزاج الكاتب وليس آخرها ظروف الأعمال التي عليه القيام بها، وليس أوسطها التراخي من المؤسسات الثقافية وبين الأمور السابقة تقع أمور كثيرة تتباين من كاتب إلى آخر. ومن الملحوظ أن الكاتب إذا انقطع عن الكتابة فترة يجد صعوبة في انصياع الكلمات له نظرًا لما تتميز به الكتابة من النرجسية ذاتها كما أسلفنا ولعل ما يوطد العلاقة الكلية بين الكاتب وفعل الكتابة ويوجد نوعا من التجانس بينهما هو الاستمرارية الدائمة للكتابة والقراءة معًا ومن ثم إضافة الوعي المتكامل لما ينتج عنه من تفكير إبداعي بعد القيام بكلا الأمرين معًا، عندها فقط تحقق الكتابة ذاتها النرجسية ويصل الكاتب فيها إلى شهوة الاكتشاف للعالم في لحظات متقاربة.